موقع الكاتبة زينب حفني زينب حفني

 

 

﴿  رحلة ضبابية ! 

 

 

تعودت أن تكون رحلاتي القليلة إلى لندن خاطفة ، خوفاً على مشاعري أن يصيبها البرود الإنجليزي ، وحرصاً  على عقلي أن تعلق به انطباعات تهابها نفسي !! وكلما طالعت من شباك الطائرة هالة الضباب التي تحيط بمعالم لندن ، تساءلت في أعماقي : ترى ماذا تخفي في أجوائها من قصص وحكايات ؟!

طوال فترة إقامتي في عاصمة الضباب ، أحب الاستيقاظ مبكراً للاستمتاع بكامل يومي ، والذهاب إلى

 (( هايد بارك )) مع رزمة أوراقي وأقصوصاتي ، والجلوس في المقهى المطل على البحيرة ، حيث يمضي بي الوقت بين القراءة والكتابة ، فاقدة الوعي بكل ما يدور حولي سوى تأمل المشاهد البهية المحيطة بي . في إحدى المرات التقيت صدفة مجموعة صديقات ، فأخذنا نعبّ أحاديثنا من مواضيع شتى . فجأة فطع حبل الجوار امرأة عجوز تشرف على إدارة المكان . قالت بوجه متجهم ونبرة متعالية : يجب عليكن إخلاء الطاولة فوراً !! سألتها عن السبب ، فأجابت أننا لم نطلب أي نوع من المشروبات طوال فترة جلوسنا ، وهذا مخالف للتعليمات .اندهشت من تبريرها ، موضحة لها أنني احتسيت كوبين من القهوة . أجابت بانفعال ظاهر : إذا لم تغادرن المكان فوراً ، سأضطر إلى طلب الشرطة !! ثم استرسلت في استخفاف ، مشيرة إلى كومة أوراقي : هذا ليس بمكتب !! ارتبت في نيات هذه المرأة ، وأحسست بتوغل العنصرية الكريهة في أحشائها ضد العرب ، ونقلت ناظري في عيون صديقاتي وأجبناها بصوت واحد : بإمكانك إحضار الشرطة ! ثم قامت إحدى الصديقات مسرعة وجلبت بعض الحلويات والمشروبات . كنت ألاحظ المرأة العجوز بطرف عيني تتابع تحركاتنا بغيظ . بعد فترة وجيزة رأيتها تدنو مني وقد ارتسمت على محياها ملامح الرضا ، وأخبرتني بصوت خافت أنها تراجعت عن طلب الشرطة ، معتذرة عن غلظة تعاملها ، ثم سألتني بنبرة فضول عن جنسيتنا ، وعن طبيعة عملي !! أجبتها أنني كاتبة . رفعت حاجبيها مستنكرة : وهل هناك كاتبات في بلادكن ؟؟ أعتقد أن الغرق في مباهج الترف ، صرفكن عن السعي إلى دروب المعرفة ، والنهل من بحور الفكر ؟!  ودخلنا معها في جدال حول أوضاع المرأة العربية بحماس منقطع النظير . وأرجعت إحداهن جهل المجتمعات الغربية لشخصية المرأة العربية ، إلى الإعلام العربي الذي لا يسعى بجدية إلى إبراز مكانتها ، وكيف نجحت بمنافسة الرجل في الكثير من المجالات العملية ، وحصولها على أعلى الشهادات العلمية . وألقت أخرى اللوم على  بعض الأسر ، التي تمارس أفعالاً مشينة خارج أوطانها ، مما ينعكس على وضع المرأة العربية ، ويعطي للغرباء انطباعاً سلبياً عنها !! ورأت ثالثة أن المرأة العربية هي المسؤولة الأولى عن الغموض الذي يحيط بها ، كونها آثرت ترك المبادرة في ما يخص أمور حياتها للآخرين ، دون أن تبذل جهداً فعالاً في دفع خطواتها الأولى !!

خرجت من هذا المشهد التلقائي بحقيقة تغيب عن بال الكثيرين ، أن الإنسان طالما تمسك بحقوقه ، واقتنع بصواب موقفه ، سيرضخ الآخرين لمطالبه ، ولو استشفت المرأة ليونة في موقفنا ، ولمست بواطن ضعف في تصرفنا لتمادت  في غطرستها ، لكنها رأت أمامها وجوهاً صلبة ، تعاف الجبن ، فتراجعت عن تعنتها . وتحسرت في قرارة نفسي على شعوبنا العربية ، التي لو تشبثت بحقوقها على مدى العصور ، وقدرت قيمة تراثها الذي تضعه على منكبيها ، وحافظت على عبق التاريخ الذي يفوح من مسام جسدها الذي تدين له اليوم الدول المتحضرة . لمّا ابتلعت من مجتمعاتها هذا السل من الإجحافات المتلاحقة ، عن سبق إصرار وترصد !! وتذكرت على مضض ما يحدث في شارع (( ادجوار رود )) أو شارع العرب كما يطلقون عليه ، من تصرفات مشينة يقوم بها بعض الشبان العرب ، وملاحقة الفتيان للفتيات بأساليب همجية لا تمت لتقاليدنا العربية بصلة ، مما يدفع مواطني هذه البلاد إلى التسليم بأن كافة العرب ينبثق تفكيرهم من اتجاه معين ، يصب في مجرى الاستهتار والتفاهة !

وكلما مررت بأي من فروع (( مارك آند سبنسر )) في وسط لندت أتعجب أن معظم الزبائن من العرب ، فأشعر بغصة في حلقي ، وأقول أن الشعوب العربية لا تفكر أبعد من الدائرة التي تقف عليها أقدامها ، وأنها لا تلقي بالاً لقضاياها المصيرية !!

في رحلتي الأخيرة إلى لندن ، طلبت من إحدى الصديقات إيصال طرد إلى سيدة إنجليزية ، كان زوجها يعمل في السعودية لمدة تزيد عن عشر سنوات ، ثم غادرت إلى بلادها بعد وفاته . كان منزلها خارج لندن ، وقطعت وقتاً ليس بالقصير لمقابلتها وشرب الشاي معها . لفتت انتباهي لحظة نزولي من التاكسي ، سيدة في حوالي الستين من العمر ، تقف في حديقة المنزل المقصود ، تقلم النباتات بحيوية ظاهرة ، نظرت إليها في انبهار داعية في نفسي ، إذا أمد الله في عمري أن أبلغ هذه السن وأنا في وافر صحتي سألتها إن كانت هي المعنية ؟ أومأت بالإيجاب ، ودعتني إلى الداخل . كانت تتحدث عربية ضعيفة ، وراحت تسألني بشوق عن أحوال المملكة ، وتُردّد أن أجمل ذكرياتها قضتها مع زوجها في تلك البلاد ، ثم سرحت في صفحة وجهي قائلة : (( النساء العربيات يمتزن بسحر عيونهن ، وقصر نظرهن !!)) سألتها.. ماذا تقصدين بعبارتك ؟! قالت : أقصد سطحية تفكيرهن !! فمن خلال تجربتي ، بمجرد وصول إحداهن إلى لندن ، أول شيء يسألنني عنه أحدث دور الأزياء ، وأهم المراكز التجارية ، تمنيت  أن تسألني إحداهن عن أهم معالم بلادي ، جميعهن مشغولات ببهرجة المظهر الخارجي ، لا يعرفن ماذا يردن ، غير مكترثات بتحديد أهدافهن المستقبلية في الحياة ! 

ابتلعت اتهامها غصباً ، وكظمت سخطي ، ثم أجبتها : إطلاق الأحكام وتعميمها دليل قصر نظر هو أيضاً ، ربما لم تجمعك الصدف بواحدة من هذه الشاكلة ، لكن بلا شك هناك الكثيرات من الواعيات والمثقفات.

في نهاية اللقاء لاحظت ومضة إعجاب في عينيها أثلجت صدري ، وجعلتني أعتقد أنني أفلحت في زعزعة قناعاتها المتشائمة ، متفائلة أن أول الغيث قطرة كما يقولون !! وفيما كنت أودعها عند الباب ، كانت السماء ملبدة تومض ببرق خاطف ، ورذاذ خفيف يتساقط على الرصيف ، مكوناً لمعاناً ناصعاً على سطحه . نصحتني بابتسامة صافية    أن أفتح مظلتي حتى لا أتعرض لنزلة برد ، أجبتها أنني تعودت على طقس لندن المتقلب ، وأنني أهوى السير تحت زخات المطر . قالت بخبث : هل هي عادة عربية ؟! أجبتها.. بل طقوس طفولية . وإذ توجهت صوب التاكسي ، توقفت ، والتفت إليها فإذا بها ما زالت في مكانها ، لوحت لها ، ثم انزويت في أحد أركان السيارة . كانت الشمس قد أفلت ولمسات المساء الناعسة تضفي على الطرقات الخالية هالة من السكينة . تيار برودة تسلل تحت جلدي ، أحكمت ردائي ، شبكت أصابع يدي المرتجفتين ، واستسلمت لشريط التداعيات . برزت صورة المرأة التي التقيت بها في (( هايد بارك )) وقارنت بينها وبين المرأة التي كنت معها منذ لحظات. قلت : شتان بينهما . إلا أنني اكتشفت أن عاملاً مشتركاً يجمعهما ، وهو نظرتهما السلبية للمرأة العربية . زفرت زفرة حارة ، أغمضت جفني وغفوت ، لأفيق على صوت سائق التاكسي ينبهني بوصولي إلى جهتي !!.

﴿﴾

 

الصفحة الرئيسية
CV - السيرة الذاتية
مؤلفات الكاتبة
نصوص ادبية
وجهه نظر
حوارات
البومي
باب الرسائل

 

free html hit counter


جميع الحقوق محفوظة