موقع الكاتبة زينب حفني زينب حفني

 

 

﴿  زمن وجبات الحب السريعة!  ﴾

 

هل اضحى الحب مثل الوجبات السريعة الرخيصة التي يلتهمها المرء في دقائق، ملقيا بقاياها في القمامة، ثم يقفل عائدا الى اشغاله؟! هل اصبح الحب في هذا الزمان يُطبّق قاعدة من تحب هذا اليوم؟!، مثل صيغ الاعلانات التي تنشر في بعض الصحف العربية تحت بند اين تذهب هذا المساء؟!. كلما حضرت سيرة الحب في المجالس، لاحظ المرء نبرات التهكم، وعبارات السخرية تتخلل حناجر الكثيرين، معلقين بعبارة من اغنية مشهورة للفنانة الكبيرة ام كلثوم «حب ايه اللي انت جي تقول عليه!!» مرددين في سخرية، ان هناك حب مصالح فقط، ثم يرفعون ايديهم بحركة مسرحية قائلين: ايها الحب كم من الخطايا ترتكب باسمك!!.

لو تتبعنا كتب التاريخ سنجد ان الحب كان مصدر الهام العديد من المبدعين والعظماء، وكذلك كان السبب في هلاك العديد من العباقرة!!، الموسيقار بيتهوفن كتب رسالة بالقلم الرصاص، مكونة من عشر صفحات، موضوعة في مكتبة برلين، وقد حار المؤرخون في هوية صاحب الرسالة، خاصة ان حياته تخللتها بعض النسوة ممن احببنه لفنه، وممن احببنه لذاته. فهل كانت الرسالة بالفعل موجهة الى امرأة بعينها، ام انها من وحي خيال هذا العبقري، جعلها متنفسا لعواطفه الجياشة المشتعلة دوما، وينبوعا متدفقا لالحانه؟! واذا القينا الضوء على الامبراطور نابليون بونابرت، نجد ان حياته ايضا كانت فيها نساء عديدات، الا انه يعترف في اواخر ايامه انه لم يحب طوال حياته سوى امرأة واحدة، زوجته جوزفين على الرغم من علمه انها كانت تخونه مع رجال بلاطه!!. هل هذا يعني ان الحب الحقيقي ضعف وقلة حيلة، ام انه مرض مستعص من الصعب على المحب الشفاء منه بيسر؟! يرى الكاتب انيس منصور «ان الحب مثل المرض، كلاهما تضعف فيه المقاومة، ولكن للحب اطباء من نوع خاص.. فهناك طبيب اسمه المأذون او القسيس.. وطبيب اسمه الصبر.. وطبيب آخر اسمه الموت..». وللاديب احسان عبد القدوس رأي آخر، فهو يرى بأن «لا شيء اسمه الحب، ولكن هناك شيئاً اسمه التعود!!». اذا كان هذا الاعتقاد صحيحا، لم لا يقع الانسان في هوى شخص يراه كل يوم دون ان يُحرك عضلة في قلبه؟! لمَ لا تهفو نفسه لسين من الناس يلتقيه من حين لآخر، فلا يلقي بالا له؟! لمَ لا تتحرك احاسيسه تجاه فرد يحادثه يوميا، ويطلب وده، وهو غافل عنه؟! لماذا يتجاوز المحب كل هؤلاء، ويقفز فوق الحواجز، ويعبر الجسور، ليلتقي بمن تهفو نفسه اليه؟! ما السر الذي يجعل الروح تتعلق بشخص معين لا ترضى عنه بديلا؟! هل هو التلذذ في تعذيب الذات؟!. مي زيادة كانت من الاديبات اللاتي كان يعج صالونها بكبار الادباء، وهناك من وقع منهم في هواها، لكنها ادركت بذكائها انهم كانوا يعشقون الانثى فيها ويغفلون فكرها، فهربت بمشاعرها الى خارج ارضها، وتعلقت بالاديب جبران خليل جبران الذي كان يعيش في المنفى، ولم تقع عيناها عليه ابدا، لكنها احبته من خلال ادبه ورسائله، لكنه خذلها هو ايضا، وكتب اليها قائلا: لستُ بطالب زواج. أليست هذه الوقائع تنفي نظرية التعود!! هناك من يعتقد ان الزواج مقبرة الحب، ويرون ان الشاعر قيس بن الملوح لو تزوج بابنة عمه ليلى لما اخرج اروع قصائده، ولما اثرت المكتبة العربية بأبياته الملتهبة، كون ليلى في حال زواجها منه، ستخمد لوعة الاشتياق في فكره، ويطفئ صقيع التعود جمرة الحرمان بداخله، الذي سيقضي تدريجيا على مارد الابداع في اعماقه!!. هل الزواج بالفعل نهاية الحب؟!، هل الحب عبارة عن مسرحية هزلية، تنتهي باسدال الستار وتصفيق المتفرجين وانفضاض المكان؟!، هل الزواج قيد قاس يقضي على وهج الحب، مما يجعل الشريكين يتباعدان، ويتطلعان الى الهرب من القفص الذهبي عند اول فرصة سانحة؟!.

يقول الاديب احمد بهجت: «الحب كالحرب.. يجب الا يكف الطرفان فيهما عن بذل المجهود.. ولا ضمان لشيء في الحب او الحرب.. مشكلة الزواج ان كلاً من الرجل والمرأة يعتقد انه انهى مهمته واستراح، ولم يعد عليه ان يفعل شيئا غير الزواج!!».

ايهما افضل للانسان ان يحب، ام يغلق على نفسه النوافذ والابواب بحجة تلافي وجع الرأس؟!. لماذا ينظر البعض للحب على انه من صغائر الامور؟!. ان الحب من اسمى العواطف البشرية التي وهبها الله لعباده، شرط الا يسيئوا استخدامه، فالحب الحقيقي يسمو بصاحبه. كثيرون في الحياة تأخذهم دوامة اشغالهم، او تلهيهم ثرواتهم عن تذوق حلاوة الحب، ظانين ان كل من يتقرب منهم طامع في اموالهم، لكنهم في لحظة تجلى يدركون انهم اهانوا مشاعرهم حين جمدوها بحجة الخوف على حاجياتهم، او كيانهم الاسطوري الذي بنوه من اتربة اوهامهم، لكن للاسف يكون الوقت قد فات كونهم فقدوا القدرة على الحب، او الاحساس بلذة المشاعر الفطرية، فالقدرة على الحب صنعة ماهرة، لا يملك مفاتيحها الا من يعرف فك رموزها!! تحضرني قصة تمثال بجماليون الذي صنعه صاحبه في سنوات طويلة، لكنه تمنى في قرارة نفسه ان تدب فيه الحياة، واستجاب الله لدعائه وبث فيه الروح، لم يتحمل صاحبه ان يرى تمثاله الجميل الذي ابدع في صنعه ان يمشي ويتحدث ويقوم بما يفعله كل الناس، فحطمه وجلس يبكي على اشلائه التي تناثرت امامه. أليس هذا رفضا عند هذا الفنان في تجسيد حبه على الواقع، مما اخرجه عن طوره، وفقد برعونته وعجرفته، الحبيب الذي حلم به طوال عمره؟!.

 

ليس هناك اقسى على الانسان من ان يعيش حبا غادرا، ان يكتشف المحب ان من كان يفديه بالغالي والنفيس لا يستحق مشاعره، وانه مجرد اسم ضمن قائمة طويلة مزدحمة بمئات الاسماء في مفكرة من يحب، وانه لا يحبه لشخصه، وانما لمزايا كثيرة عالقة بوضعه، وانه ليس سوى قنطرة عبور لتحقيق مصلحة، او توفير خدمة، لحظتها قد يكفر بالوفاء ويؤمن بأن الدنيا ليس فيها من يستحق عواطفه، وقد تتحول معتقداته الى النقيض!! حاملا سيف القصاص في وجه كل من يعترض طريقه، حتى تلتبس عليه الكثير من الامور، لكن اصعب انواع الحب ما كان من طرف واحد، حيث يصبح الطرفان غير متوازنين، محب يخضع ويضحي، وحبيب يقسو ويجافي، وتتضح للمحب الحقيقة مع توالي الايام، بانه لم يكن سوى لعبة مسلية في يد من يحب، يبدد بها الحبيب ضجره، او يشبع بها نرجسيته، او يحشره في رف من رفوف حياته لاستخدامه عند الضرورة القصوى، مستهزئا بمشاعره النقية، غامدا نصل قسوته في سويدائه. لحظتها يحاول المحب لملمة كرامته التي تبعثرت على مرأى من عينيه، ويحاول ان يجمع اشلاء كبريائه المجروح الذي اضحى اضحوكة امامه، متمنيا لحظة انقشاع الغشاوة عن عينيه، ان ينزع فؤاده من صدره، ويدوس عليه بقدميه، ويمزقه اربا، حتى يرفع راية التوبة ويكف عن نداء من احب واستهان بهذا الحب!! او يقرر طوعا الانزواء باحزانه بعيدا، يبكي حظه العاثر!! من نعم الله على عباده ان منحهم نعمة النسيان، وجعل الايام كفيلة بتضميد الجراح المفتوحة، وكلما بعدت المسافة، وتباعدت مشاهد الالم، واتضحت الرؤية، سيقتنع المحب انه كان خاطئا في اختياره، وانه غرس ازهار عواطفه في تربة بائرة لن تطرح ثمارا طوال عمرها، وان كل ما مر به من صور مأساوية لا يستحق منه كل هذا الزخم من التشنج، وان الحياة مليئة بالرجال والنساء الاوفياء، المهم القدرة على تجاوز الصدمات بحرفة، حتى لا تنزلق قدماه ويتوه في ازقات الحياة!!

 

﴿﴾

 

الصفحة الرئيسية
CV - السيرة الذاتية
مؤلفات الكاتبة
نصوص ادبية
وجهه نظر
حوارات
البومي
باب الرسائل

 

free html hit counter


جميع الحقوق محفوظة