موقع الكاتبة زينب حفني زينب حفني
 

 

﴿  رحلة اكتشاف أم غربة نفس؟ 

 

 هل الحياة عبثية كما يردد البعض؟! هل صرخة الطفل الأولى لحظة خروجه من بطن أمه، بداية للتعبير عن خشيته من مواجهة الحياة؟! هل الحياة تستحق هذه الرهبة، وأن يشحذ الإنسان همته ليكمل طريقه إلى نهايته؟! هل المطبات والعراقيل التي تصادف المرء في طريقه تتطلب منه قدراً كبيراً من الشجاعة؟! هل عملية إرضاء الذات تدفع المرء إلى امتطاء صهوة الجرأة؟! هل تقاعس المرء عن تحقيق ذاته، يجبره على الانحدار إلى هاوية الوحدة، ويجعله يحيا في وحشة قاتلة، من خلال جلد نفسه ليلاً ونهاراً لعجزه عن إرضائها؟! سُئلت في أحد الحوارات، إن كان هناك رقيب داخلي يكمن في أعماقي لحظة ولادة الكلمات؟! أجبت لحظتها أنني حين أمسك بالقلم أنسى شيئا اسمه الرقيب، وأن كل ما أحسّ به في داخلي أسطره بصدق على الورق. وقد ناقشتني مجموعة من الصديقات حول هذا الرأي، واتهمنني بالنّزق في طريقة تفكيري! وانحرف الحديث حول الإنسان بصفة عامة، وهل الشجاعة مطلوبة في الحياة؟! هل السعي خلف تحقيق الذات يستلزم كل هذه المخاطر؟! هل من سمات الشخصية السوية أن تواجه سلبيات مجتمعها بقوة مهما ترتب عليها، أم هناك كما يُقال خيط رفيع جداً لا يميزه الكثيرون، يفصل بين الشجاعة والتهور، وبين الهوادة والاندفاع؟! هل أصبحت الجرأة مطلوبة في عصر أصبح متميزاً بالزيف، زاخراً بالمواجهات والصدامات؟! هل يتعين على المبدع الحقيقي، الرافض لكل أنواع التملّق، السير على خطى الشجاعة لكي يتألق أدبه، ويصنع تاريخه؟! يقول الأديب بلزاك: «الشجاعة الدافقة تلك التي ترفض التراجع والتقهقر أمام اضطرابات الحياة المجنونة.. إن الفنان ما لم يلقِ بنفسه في أتون عمله كما يفعل الجندي مندفعا غير هيّاب في سبيل النجدة، فإن عمله الفني لن يكتب له أن يكتمل، وسيتلاشى عمله، وعند ذاك سيصبح الإنتاج مستحيلاً، وعلى الفنان أن يترقب انتحار عبقريته». لكن هل الشجاعة مقتصرة فقط على فئة المبدعين، أم تتجاوزها إلى عامة البشر؟! هل يختلف المبدع عن كافة البشر، بأن يجعل حياته كبش فداء لمجتمعه، مقابل تغيير مجتمعه نحو الأفضل؟! كيف تنمو الشجاعة؟! هل بالمواجهات العشوائية بدون أهداف واضحة، أم أنها تنمو من إحساس المرء بكرامته وتقديره لها، أثناء مرحلة اكتشاف الذات؟! هل مرحلة تحقيق الذات حاسمة في حياة المرء، وأنها تستلزم ربطها بصفة الشجاعة؟! يقول الطبيب النفسي رولو ماي في كتابه «البحث عن الذات».. عندما نفتقد الإحساس بالذات، نكون قد افتقدنا معه لغتنا التي بها نتفاهم وبها نتخاطب. وهو ما يدفع إلى التفكير في المقولة الشهيرة للفيلسوف الإغريقي أرسطو «أعرف نفسك». كما يرى المؤلف بأنه ليس من السهولة أن يجد الإنسان نفسه، ويكتشف خباياها، ويختار قراراته على ضوء اتجاهاته في مناخ من الاضطرابات والقلاقل والضغوطات الحياتية المستمرة الحادثة من حوله، وأن الفشل في تحقيق الذات يخلق داخل المرء إحساساً بغربة النفس، ويدفعه إلى التقوقع داخل سجن الوحدة. كذلك عدم الإحساس بمعاناة الآخرين يؤدي إلى خلق نوع من اللامبالاة في نفسه، ويفقد إثرها إحساسه بقيمته، وإلى المطالبة بحقوقه كإنسان، كون معايشة الألم شرطاً أساسياً من شروط الحياة التي تميز الإنسان عن سائر كائنات الأرض.

إن عملية اكتشاف الذات ليست بالأمر الهين كما يظن البعض، ووضع اليد على مواطن القوة، ومواجهة مواطن الضعف يستلزم تحديد الأهداف، رغم أن المواجهة أضحت مستعصية في زمن كل ما فيه يتراجع، المُثل والقيم، وأضحت عملية تحقيق الطموحات شديدة التعقيد، يشعر الإنسان أنه يمشي فوق أرض ملغومة، أو فوق صفيح ساخن يدمي باطن قدميه، متلقيا الصفعات من كافة الاتجاهات من أيد مجهولة، حتى تتسبب في سقوطه منكسرا. يقول المؤلف في موضع آخر إن البهجة وليست السعادة هي هدف الحياة، كونها المرادفة لنجاح تجربتنا التي سخرنا طاقتنا في تحقيقها، ضاربا المثل بسقراط الذي آثر الموت مبتهجا على المساومة بأفكاره. لكن يجب الفصل بين متعة تحقيق الذات، وتضخيم الذات الذي قد يصل إلى حد الغرور الذي يتصف صاحبه بالخواء الداخلي واختلال الشخصية. وهناك فرق أن يحاسب المرء ذاته برقة على اعتبار أنه إنسان يخطئ ويصيب، وبين أن يجلدها بقسوة، وينظر إليها بدونية على اعتبار أنه كملاك، والملائكة لا يخطئون، حتى يصل إلى حد هلاك نفسه. يقول أحد الفلاسفة «المرء الذي يزدري ذاته هو الأقرب إلى أن يكون إنساناً متعالياً». ويضرب المؤلف المثل بشاب كان وحيد أبويه، لم يجادل أبويه يوما طوال حياته، وكانا يقتطعان قصاصات الصحف التي تتحدث عن نجاحاته، ويسمع إطراءهما له، وتفوقه على أقرانه، حتى كبر على تركيز اهتمامه على الثناء الذي يُكال له، وعندما غدا شاباً أصبح مهوساً بسماع تقريظ الآخرين له، كونه لم يكن يوما صادقا مع نفسه، ولم يشعر بقيمة ذاته إلاّ من خلال نظرة الآخرين له، متجاهلا أن علاقة الفرد بنفسه، هي التي ينفذ من خلالها إلى العالم، ويجدد صلته بأفراد مجتمعه.

أحياناً كثيرة يودّ المرء أن يغمض عينيه، ويعثر على عصا سحرية يُغيّر بها العالم، ويحقق ما تصبو إليه نفسه، ويرسو بأحلامه على أرض الواقع، ويسحق كل الصعوبات والمعوقات التي تعترض طريقه، فيكتشف أن هذه الأمنيات لا تأتيه على طبق من ذهب، وأن متعة تحقيق الذات تعادلها متعة الكفاح، وكلما اجتهد المرء بجد وهمّة مخلصين أحسّ بطعم الحياة الحقيقي. في كتاب «المرأة والصراع النفسي» تتحدث مؤلفته عن سيدة جاءت إلى عيادتها للعلاج، وكانت تشتكي من أنها حين تحتضن طفلتها الرضيعة، تشعر برغبة في قتلها، وبعد جلسات متعددة اكتشفت الدكتورة المعالجة أن المرأة تعاني من صدمة يطلقون عليها في علم النفس «انعدام المؤثرات في الحياة»، بمعنى إحساس المرء بعدم جدوى حياته، وأنه يحيا بلا هدف سام، وأن رغبتها في خنق ابنتها تعود إلى خوفها الكامن في بؤرة اللاشعور من أن تحيا ابنتها نفس حياتها الجافة، وساعدتها على اكتشاف ذاتها والتخلص من عقدتها. لكن هل كل شخص يستطيع وضع يده على مكمن علّته، أو يملك القدرة على تقييم الأشياء من حوله، أو مقابلة أشخاص يقفون معه في أزماته؟! هناك من يعيش ويموت، وهو يدور في ساقية الحياة دون أن يعرف ماذا يريد، وهناك من يدرك مبتغاه لكنه لا يمتلك أداة صلبة للوصول إلى مراده، فيرمي نفسه في دياجير الغربة، ويهجر مجتمعه. وهناك من يضع يده على هدفه، ويجاهد بحنكة حتى يطفئ نهم ذاته، وينجح في إرواء طموحاته. البشر مختلفون في قدرة كل إنسان على اختيار الطريق الصحيح لإنجاز الأهداف، والتفاعل مع مجريات التجارب بواقعية وشجاعة. وكما يقول المؤلف في النهاية، إن الحاضر هو زورقنا الذي نتعايش معه، بحكمة الخبرة ومتطلبات الواقع المعاش.

﴿﴾

 

الصفحة الرئيسية
CV - السيرة الذاتية
مؤلفات الكاتبة
نصوص ادبية
وجهه نظر
حوارات
البومي
باب الرسائل

 

free html hit counter


جميع الحقوق محفوظة