موقع الكاتبة زينب حفني زينب حفني
 

 

﴿  تأملات ترفض الانصياع  ﴾

 

 

قد تدفعك الظروف يوماً ، وتقودك قدماك إلى باريس عاصمة النور ، وتقف إعجاباً أمام برج (( إيفل )) هذا الإنجاز الحضاري العريق ، وتسرح بفكرك نحو البعيد ، وتعود بخيالك إلى الماضي ، زمن اندلاع الثورة الفرنسية ، التي سقط على إثرها قصر (( الباستيل )).. ويقشعر بدنك من أنهار الدماء التي سالت في شوارع فرنسا ، والثمن الباهظ الذي دفعه شعبها لنيل حريته ..

وتقلب ناظريك في مجموعة التناقضات البشرية المحيطة بك ، ثم تتساءل في همس حزين : أين الحقيقة في كل ما يدور من حولي ؟! وقد يدفعك الفضول للتنقيب عن المزيد من الخبايا، فتركب الطائرة متجهاً إلى بلاد الإنجليز ، وتسوقك خطواتك إلى نهر (( التايمز )) وتأخذ شهيقاً طويلاً من عبق الحرية التي تفوح رائحتها في أجواء المكان ، وتتحسر في أعماقك على ندرتها في أرضك العربية ، وتتقمصك حالة من الهيجان الفكري وأنت تتأمل سطح هذا النهر ، وتبدأ جزيئات عقلك في التشتت أمام مجموعة التناقضات البشرية  المحيطة بك ، ثم تتساءل في همس حزين : أين الحقيقة في كل ما يدور من حولي ؟! وتجري خيول أمانيك صوب روما فتلقي بنفسك أمام بحيرة الأماني وتقبض بين أصابعك عملة معدنية قديمة ثم تهمس في رجاء أن تتحسن أوضاع أمتك العربية وأن تسترجع جزءاً ضئيلاً من أمجادها الغابرة  ، ثم تطالع بطرفي عينيك مجموعة التناقضات البشرية المحيطة بك ، ويمتلئ فجأة جوفك بأتربة الاغتراب والتوتر وتحس بالتذمر يطغى على بهجة روحك ، ثم تتساءل في همس حزين : أين الحقيقة في كل ما يدور من حولي ؟! وتكتشف متأخراً أن كل ما حولك يصرخ ، يحتج ، تقرأ (( مانشيتات )) الصحف ، فتطالعك أخبار همجية المضمون .. اعتراف طبيب بقتل عدد من مرضاه بناء على طلبهم لتخليصهم من آلامهم الجسدية ، وإقراره بأنه قام بهذا الفعل رأفة بمرضاه ، وتصيبك سهام الحيرة في صميم مبادئك ، وتتساءل في حيرة : لماذا انحدرت الإنسانية إلى هذا الدرك المخزي ؟! ثم تباغتك (( هستيريا )) من الضحك المتواصل وأنت تقرأ خبراً يتضمن أن بنات الليل في ألمانيا عقدن مؤتمراً سمينه (( يوم العاهرات العالمي ))!! لمطالبة الدولة بالاعتراف بالدعارة كمهنة أسوة بسائر المهن الأخرى ! وتهز رأسك هلعاً من الخلل الاجتماعي الذي أصاب هيكل المجتمع الغربي !! ووسط اهتماماتك السياسية ، ومتابعتك  صيحات الهيئات الدولية المنادية بوقف الحرب في كشمير ، تصطدم عيناك بخبر جريء مفاده ، قيام المومسات في نيودلهي بالهند اقتطاع جزء من عوائدهن لمساعدة أسر الجنود الذين قتلوا في المعارك ، كتعبير رمزي لتأكيد دعمهن الشعبي . وتصاب آدميتك بالقهر ، وتترحم على معاني الشرف السامية التي أزهقت روحها في ميدان عام دون أدنى شفقة .

وتشعر روحك بالتمرد ، وتحس بحنين جارف لأوطانك العربية ، فتحزم حقائبك ، وتتبختر بمشيتك على أحد الأنهار العربية التي عكر ماءها التلوث الفكري والاجتماعي والسياسي ، فتخنقك أصابع الكآبة ، وتتخدّر أعصابك ألماً ، وتحاصرك صور عروبتك المتخمة بالتخلف ، وتفيق على حقائق مريرة ، وتتساءل في همس حزين : أين الحقيقة في كل ما يدور من حولي ؟!

تتابع على شاشة التلفاز ، حديثاً تافهاً لإحدى الراقصات الشرقيات ، وهي جالسة منفوشة الصدر كالديك الرومي ، لتقول للجماهير الغفيرة ، العاشقة لهزات وسطها : أنا الهرم الرابع في مصر. وتحاول أن تستشف ردود الفعل ، وتتفحص الوجوه ، فتجد العيون جاحظة في تقاسيم جسدها، والأفواه فاغرة ، والحلوق تهتف بالثناء والإطراء لها : (( الله .. كمان يا ست )) وتترحم على زمن السيدة  أم كلثوم حين كان الناس يرددون هذه العبارة في وصلات حفلاتها الشهرية . وتصاب أمعاؤك بالتلبك ، وتتساءل في وجع : أين الصواب وأين الخطأ ؟ تقرأ في إحدى المجلات الرصينة تحقيقاً عن أحفاد أسرة أحمد عرابي باشا ، زعيم الثورة العرابية ، الذي نفته السلطات لدفاعه المستميت لتحرير أرضه ، وتفيق على حقيقة مخجلة ، أن هذا الرجل تأخر دفنه أربع وعشرين ساعة ، بسبب عجز أبنائه عن توفير مصاريف دفنه ، وانتهاء مصير أحفاده إلى العيش في فقر مدقع ، على إيراد (( أكشاك )) خشبية لبيع الحلوى والسجائر ، في الوقت الذي قامت فيه سري لانكا بتحويل منزل عرابي في منفاه بمحتوياته إلى متحف . أما أحفاد سعد زغلول قائد النضال ، أصبحوا اليوم يحررون شهادات فقر لعلاج أسرهم . وتحس بالدموع تكاد تطفر من عينيك ، وتتساءل في حرقة : أين الصواب وأين الخطأ ؟! وهل التضحية وبذل الغالي والثمين فداء للوطن ، أصبحت من شيم المغفلين ، الساذجين في هذا الزمن الجاحد ؟! ويغتالك الإحباط ، فتقرر التجول في أروقة الوزارات الحكومية العربية ، فتجد معظمها غارقاً في بيروقراطية عمياء ، وتكتشف أن الأفاقين والوصوليين والانتهازيين يمسكون بزمام الأمور، وأن الشريف يداس عليه بالأقدام ، لا مكان إلا لبائعي الذمم ، وتضع يدك على خدك ، متسائلاً في صمت خجول : أين الصواب وأين الخطأ ؟! 

وتحاول طرد اليأس من دواخلك الثائرة بزرع بذرة التفاؤل في أرضية نفسك ، ورسم خطوط الأمل على جدار فكرك ، فتستمع بنية ساذجة لخطب بعض الحكام العرب ، ووعودهم السخية بتحسين أوضاع شعوبهم ، وقسمهم المكرر بالعمل على رقي أفراد أوطانهم ، وعن فتح الأبواب لطوابير الشباب الواقفة منذ سنوات في انتظار الحصول على وظيفة ، وعن الانتعاش الاقتصادي ، ثم تفاجأ مع مضي الوقت ، أن كل شيء مكانك سر ، وأن الشخصية العربية بارعة في الخطب الكلامية ، وأن الوعود في نظرها شيء وتنفيذها شيء آخر . وتجذ على أسنانك من الغيظ ، وتتساءل في حنق مكبوت : أين الصواب وأين الخطأ ؟!

ووسط هذه المهاترات ، تصاب نفسك بالهزال ، وبنيتك بالضعف ، فتقرر في لحظة جنونية الانتحار ، ولا تجد  أروع من صخرة الروشة في بيروت ، فتعتليها ، وتحاول إطباق جفنيك حتى تطرد من ذهنك المتقد أي خط للتراجع عن قرارك ، لكن عينيك في لحظة تعقّل تقع على منظرين متناقضين في هذا البلد العظيم ، الذي لا يعرف الكلل ولا التخاذل ، بنايات متهدمة من مخلفات حرب دامت أكثر من عشرين عاماً ، وعلى الجانب الآخر أبنية مستحدثة ، تمد قاماتها عنان السماء ، وتردد في حبور : سبحان الله.. ما أقوى إرادة هذا المجتمع !! وتتسرب إلى نفسك نسمات الأمل ، وتصمم على مواجهة مصاعب القدر، وتتأمل في سكون لمعان سطح هذا البحر وتدرك أن مباهج الحياة لا تتحقق من سراب ، وأن الإصلاح لن يأتي بالهرب ، بل بتحدي الواقع ، وعدم الاستسلام للضغوط الحياتية ، موقناً أن كل هذا لن يحدث بمجهود فردي ، فيد واحدة لا تصفق ، والتكاتف ، والتعاضد ، بداية الطريق لبناء مجتمع أكثر خيراً ، وأسمى فكراً وأرسى أمناً .

﴿﴾

 

الصفحة الرئيسية
CV - السيرة الذاتية
مؤلفات الكاتبة
نصوص ادبية
وجهه نظر
حوارات
البومي
باب الرسائل

 

free html hit counter


جميع الحقوق محفوظة