فتح العين في ضوء الشمس

فتح العين في ضوء الشمس

فتح العين في ضوء الشمس

الجمعة 8/9/2006

 
قلة من الأدباء من يملك الشجاعة على نشر نصوصه الأولى، وهذا يعود إلى رغبة الأديب في عدم إظهار إخفاقاته الأولى أمام الملأ، لإدراكه التام بأن قلمه حينها لم يكن ناضجاً بما فيه الكفاية، مفضلاً أن يعرفه قرّاؤه من النقطة التي انتهى إليها، وليس من النقطة التي انطلق منها.
 
هل من حق الأديب إخفاء بداياته عن قرّائه، حتّى يحتفظ بصورته الوردية في أذهانهم؟! إذا كان هذا الاعتقاد جائزاً، كيف يمكن للنقاد تعقّب خطوات الأديب، وملاحظة تطوّر أدواته الكتابية، لو أصرَّ على إخفاء باكورة نتاجه؟!.
 
قلة من الأدباء من الجنسين من لديه الجرأة على كشف المستور، وقد كانت الأديبة السورية غادة السمّان، من الأوائل الذين ملكوا بسالة نشر نتاجهم الأول بالصورة والكيفية التي تم نشره بها عند المرة الأولى، من خلال مجموعتها المعنونة بـ”الأعمال غير الكاملة”.
 
منذ فترة، وأنا أتصفح مواقع جديدة على الإنترنت، فوجئت بأن دار نشر العماد طلاس في سوريا، قد قامت بنشر أعمالي الأدبية الأولى دون الرجوع إليَّ، تحت عنوان “الأعمال الكاملة لزينب حفني”. شعرتُ بالضيق بسبب عدم أخذ الإجازة مني لنشر باكورة نتاجي من جهة، ولأنني كنتُ أفكر مستقبلاً في إعادة نشرها بعد تنقيحها من جهة أخرى، فلم أكن أرغب أن يطّلع قرائي على بداياتي حتّى لا يحكموا سلباً عليها!!.
 
بعثت لي قارئة برسالة عبر بريدي الإلكتروني، تخبرني فيها أنها قد قامت بشراء هذا الكتاب، قائلة لي بحب.. لم أكن أتوقع أن تكون بداياتك بهذا الجمال. كلماتها أثلجت صدري، وأعادت الطمأنينة لقلبي، وطردت الهواجس من فكري، وجعلتني أؤنّب نفسي، كيف فكرت في إعادة صياغة ما كتبت، تهيّباً من قرائي؟! هل من حقي أن أزوِّر تاريخي الأدبي، حتّى لو كانت الغاية المحافظة على رصيد مكانتي لديهم؟!.
 
رواية “عبث الأقدار”، التي كانت الرواية الأولى للأديب النوبلي نجيب محفوظ، تعتبر من وجهة نظري من أجمل ما كتب، وهي الرواية التي أفسحت له المجال لأن يخترق دنيا الرواية، التي كانت وقتها حكراً على أسماء معينة في العالم العربي ومصر تحديداً. وهذا يعني أن الأديب لا يجب أن يتهيّب من بداياته، بل بإمكانه أن يفتح جفنيه في ضوء الشمس، دون أن يتوجَّس من أن تُلحق حرارتها الأذى بعينيه! .
 
مر ما يقرب من العشرين عاماً على تواجدي داخل الساحة الأدبية، وهو ما يدعوني للاعتراف علناً، بأن جملة الآراء والأفكار والمعتقدات، التي ضمنتها في كتبي من شعر ورواية وقصة قصيرة ومقالات، منها أصبحت تفصلني عنها مسافات شاسعة، وأعطيتُ لبعضها ظهري بلا رجعة. وهناك من الآراء من دوّنتُ رفضي لها في الماضي، وغدت اليوم من قناعات حياتي. هذا لا يعني أن شخصيتي تفتقد للمصداقية، وأنني قد خدعتُ قرائي وجعلتهم ينساقون خلف ما تشبثتُ به في الماضي، بل يعني ضمناً أن احتكاكنا كأدباء بمجتمعات العالم، وتعمقنا في فهم النفس البشرية، وإيقاع الحياة السريع، الذي أصبح يُغلِّف حياتنا، والضربات الموجعة التي تنهال علينا من كل حدب وصوب، تجعلنا نعيد حساباتنا، ونُراجع ذواتنا، ونقف عند كل منعطف، ونتروى عند المرور في الطرقات الخلفية، فالقلم عندما ينضج تُصبح مسؤوليته أكبر، وواجباته أخطر تجاه مجتمعه، وليس عيباً أن نقر بالأخطاء التي تبنيناها يوماً ما، بل الجريمة التي لا تُغتفر، أن نتظاهر بتمسكنا بها، وفي دواخلنا نغرس فيها خناجرنا.