الصحافة المستقلة والدعم المادي

الصحافة المستقلة والدعم المادي

الصحافة المستقلة والدعم المادي

الجمعة 10/3/2006

 
هل يحتاج رواج الفكر الحر إلى دعم مالي، أم إلى أرضية سياسية نظيفة؟! هل ترسيخ حرية التعبير يحتاج لأبواق دعائية، أم هو مطلب فطري لكل مجتمعات الأرض؟! هل تستحق الحرية كل هذا الصخب الإعلامي، بالرغم من أن الإنسان في الأصل ولد حرّا؟! لماذا تعمل الكثير من الأنظمة العربية على وضع صحافتها تحت المجهر، في الوقت الذي تُسخرها من الباطن، لتلميع صورتها أمام شعوبها، وتستخدمها واجهة لها أمام العالم؟!.
 
انهالت التساؤلات على فكري، وأنا أقرأ الخبر الذي تناقلته وكالات الأنباء، عن إعلان واشنطن تخصيص مبلغ خمسة ملايين دولار لدعم برنامج الصحافة المستقلة في منطقة الشرق الأوسط، مستثنية مصر والأردن وإسرائيل، على أساس أن بها مؤسسات خاصة تدعم الصحافة الحرة.
 
أشك في نوايا أميركا حول دعم الحريات، وهي التي غدت تضيق ذرعا بكل كلمة نقد تطالها، باعتراف العديد من المثقفين المناهضين لسياسة حكومتهم، والذين باتوا يُظهرون تبرمهم من تقليص مساحات حرية التعبير في بلادهم، ومن النهج الذي أخذت تتبعه الولايات المتحدة الأميركية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
 
أوقن على الدوام أن الصحافة الحرة لا يمكن أن تزدهر وتورق أغصانها إذا ظلّت تحيا في مناخ قمعي كالقائم في معظم الدول العربية، لذا فإن الدعم الذي سيُقدّم للصحافة العربية إنما هو أوكسجين صناعي سرعان ما سينفد سريعا، مؤديا إلى خنق السلطة الرابعة المتمثلة في الصحافة، لأن الصحافة الحرة تحتاج إلى أوكسجين طبيعي، يراه المثقف العربي في الحوانيت وعلى الأرصفة وداخل البيوت وبساحات الجامعات والمدارس وبأروقة البرلمانات العربية.
 
الصحافة الحرة تعتمد على احترام رأي المثقف وإن كانت مواقفه مخالفة لسياسة بلاده، ما دام في النهاية يهدف لصلاح مجتمعه. الصحافة الحرة تعني أن يعمل الصحافي في مناخ آمن، دون أن يتلقى ضربة مباغتة في ظهره، أو يجد يديه مغلولتين بأمر من حاكم جائر، أو مسؤول فاسد، أو يضطر إلى الهرب بجلده في ظلام الليل الدامس، قبل أن تطاله محاكم التفتيش الحديثة وما أكثرها في ربوعنا العربية!!.
 
التغيير لابد أن يبدأ من الداخل، فمن السهل أن يشتري المرء أثاثا غاليا، ويقتني سيارة أحدث موديل، ويلبس من أرقى بيوت الأزياء العالمية، كل هذا يستطيع تحقيقه بماله، لكن من الصعب أن تتبلور الأفكار بالمال، أو تُبني الحريات بالثروة، لأن الحرية تحتاج إلى عمليات جراحية صعبة تتم على أيدي أطباء مهرة، وليس إلى عمليات تجميل وقتية لترقيع وجه الديكتاتورية القبيح الذي لحقه التشوه والترهل. الحرية تحتاج إلى عمليات طويلة المدى، هدفها تطوير أنظمة الحكم في البلاد التي تعتمد على السلطة الواحدة المطلقة وتحويلها إلى التعددية الحزبية. تحتاج إلى إقامة مؤسسات ونقابات تدافع عن حقوق الإنسان العربي المقموع سياسيا واجتماعيا واقتصاديّا. تحتاج إلى إنشاء برلمانات فعلية تطرح على طاولتها هموم الإنسان العربي، وليست تمثيليات هزلية لتخدير الرأي العام.
 
عندما تقوم الأنظمة العربية بترسيخ كل هذه المبادئ، لن تحتاج بلداننا العربية لأي دعم خارجي، لأن المجتمعات المتحضرة التي تُقدّس حرية التعبير، تستطيع أن تصل لقمم الحضارة دون أن تتكئ على عصا الغير. بصراحة شديدة نحن بحاجة إلى بيئة نظيفة، خالية من البرك الطافحة في رقاع كثيرة بأرضنا العربية، حتّى بتنا نسد أنوفنا من عفونتها دون أن نملك الحق في التأفف أو الاحتجاج!! وما زالت للحديث بقية.