السِّحر … شاغل الدنيا!!

السِّحر … شاغل الدنيا!!

السِّحر … شاغل الدنيا!!

الأحد 26/4/2009

 
انتهيت مؤخراً من قراءة كتاب “السِّحر من منظور إثنولوجي”. وقد قام بترجمته إلى العربية الناقد المغربي المعروف “محمد أسليم”. وقد شدّني الكتاب من الغلاف للغلاف حيثُ يُبيّن السحر كعلم معرفي. ويُظهر من جانب آخر عالم السحر والأسحار، والطقوس التي يستخدمها الأفراد الراغبون في الدخول إلى هذا المجال.
 
ففي مناطق من أميركا اللاتينية حيثُ تتواجد قبائل هندية، تستوجب قوانينها أن يكون لكل قبيلة ساحرها الخاص الذي تلجأ إليه عند الحاجة. ولا بد من أن يمر الشخص بمراحل غاية في الصعوبة والغرابة حتّى تُسبغ عليه قبيلته هذا اللقب، مثل الاختلاء في الغابة والتسكّع عارياً، وأكل اللحوم النيئة، وإخضاع الجسد للتعذيب الذاتي، وغيرها من الأساليب المقززة التي لا يقدر الإنسان الطبيعي على تحمّلها.
 
ُيظهر الكتاب كذلك عمق ثقافة السحر في شمال أفريقيا عند قبائل الغجر ومهارتها في إقامة طقوسها السحرية. كما يؤكّد على أن السحر كان مُشاعاً قبل ظهور الإسلام، وكان العرب في الجاهلية يلجؤون إلى الكاهنات والعرافات لفض منازعاتهم، حتّى يُقال بأن هناك عرّافاً شهيراً ذكره “الأصفهاني” في كتابه “الأغاني” قد تنبأ بمجيء الإسلام ومات في العام الذي ولد فيه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
 
يذكر الكتاب بأن البربر في المغرب العربي قد عرفوا أيضاً الكاهنات، وكانت النبوءة مقتصرة على النساء فقط حيثُ كان يُمنع على الرجال التنبؤ بالمستقبل. وهناك معتقد قديم كان شائعاً ذكره أيضاً بأن الساحرات لا يغطسن تحت الماء، وهو ما دفع الخليفة الوليد الأول إلى إصدار أمر بقتل نساء في بلاطه اتهمن بتعاطيهن السحر.
 
كافة الأديان السماوية لا تخلو من قصص حقيقية عن السحر والجان، والمسلمون أكثر أمم الأرض إيمانا بوجود السحر كونه يرتبط بعقيدتهم السماوية حيث تمَّ سرده بمواقع عديدة في القرآن مثل قصة النبي موسى مع فرعون، وقصة النبي سليمان مع الجان وغيرهما. مما يعني أن الإسلام بمنحه الإيمان بالسحر والجن مكانة رسمية، فتح شهية الدجالين والمشعوذين للعبث بضعاف النفوس من الناس والضحك عليهم واستغلالهم ماديّا.
 
الكتاب يوضّح كذلك بأن قضايا السحر قد دخلت في الفن والأدب وكان جليّاً في الأعمال الفنية الكثيرة التي تركها فنانون عظماء من شعراء ورسّامين من أمثال أوفيد وسرفانتس وغيرهما، حيثُ قاموا بمحاربة الخوف من السحر والساحرات وعلى إضعاف الإيمان بهن عبر تفسيراتهم الشخصية.
 
من المعروف أن النساء الساحرات أكثر من عدد السحرة الرجال، وهذا يعود إلى أن النساء بصفة عامة أكثر انقياداً لعالم السحر والرغبة في قشع الغموض، ولذلك كان أكثر ضحايا محاكم التفتيش في القرون الوسطى نساء، أتهمن وقتها بالهرطقة، واللجوء للسحر مما استوجب حرقهن أحياء حتى الموت.
 
منذ فترة وجيزة وقعت حادثة بالسعودية عن قيام امرأة في مقتبل العمر، بقتل ابنتها التي لم تتجاوز العشرين شهراً بعد أن قامت بضربها بعنف وحرقها في أنحاء جسمها لاعتقادها بأن هناك جنّيا يتلبّس طفلتها ويجب إخراجه. وأصُيبت الأم بانهيار نفسي بعد أن تأكدت من أن ابنتها بالفعل قد فارقت الحياة.
 
ليست هذه المرة الأولى التي تقع فيها حالات وفاة نتيجة الضرب المبرح للمريض ولن تكون الأخيرة، خاصة وأن هناك أماكن عديدة داخل السعودية وفي بعض البلدان العربية، متخصصة في إخراج الجن ممن تلبّس بهم، تصل فيها بعض الحالات إلى تقييد المريض بالسلاسل واستخدام عصا غليظة لضربه ضرباً مبرحا، ظنّاً بأن هذا سيؤدي في النهاية إلى إخراج الجنّي من جسد المريض.
 
كنتُ منذ فترة قد طالبتُ في مقال سابق بوجوب فسح المجال لعمل بحوث أكاديمية في مجال السحر، وأن يتم تدريس هذا النوع من الغيبيات ضمن العلوم الاجتماعية والإنسانية في الجامعات أسوة بجامعات العالم العريقة، حتّى يتم توعية الناس خاصة مع تزايد أعداد الضحايا الذين يبحث أهاليهم عن مخرج لمعاناتهم فيتسببوا بجهلهم في إيقاع ضرر فادح بهم.
 
يجب أن نواجه سلبيات مجتمعاتنا بجسارة أكبر، وأن نتعوّد على حل مشاكلنا بعقلانية. لقد كذب الشاعر العربي حين قال: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله.. وأخو الجهالة في الشقاء مُنعَّمُ! فليس هناك أجمل من نعمة المعرفة.