الرواية.. لغة لا تعرف الحياء!

(الرواية.. لغة لا تعرف الحياء!)

شهادة للأديبة السعوديّة
(زينب أحمد حفني)
ملتقى القاهرة الدولي السابع للإبداع الروائي
العربي لعام 2019
 
كلُّ إنسان منّا بداخله أمنيات يحلم بتحقيقها. منها ما تُولد معه لحظة خروجه للدنيا، فيرعاها ويأخذ بيدها على مدار عمره، إلى أن تبلغ سن الرشد، وينظر إليها مبتهجاً وهي تمشي بخطوات ثابتة على أرض الواقع. ومنها ما يلمحها صدفة تسير متبخترة بطريق عابر، فيسيل لُعابه، ويشتهي وصالها، ويهرع دون وعي خلفها، ويسعى بكل طاقته لكي تُصبح واقعاً ملموساً؛ لحظتها يرقصُ فرحاً لأنها أحدثت انقلاباً جذريّاً في حياته. الروائي، يختلف عن عامّة الناس، لأنّه إنسان محظوظ اصطفاه الله عن غيره، بأن منحه موهبة الإبداع الممزوجة بنكهة خياله الخصب. فالروائي يملك القدرة من خلال قلمه، على صُنع شخوص تختلف في توجهاتها، ومنبع بيئتها، وتباين أعمارها، ينفخ فيها من روحه، فتُبعث لها الحياة على يديه، ويمنحها حريّتها الكاملة في ممارسة كل تناقضات الدنيا، إلى أن تجد طريقها الذي اختارته بملء إرادتها دون تدخّل من صانعها. هنا تكمن عظمة الرواية التي من أهم أدوارها؛ خلق حيوات لأفراد يستطيعون التعبير دون مواربة عن طبائعهم الإنسانية، وعن مكنونات أنفسهم جهاراً، دون خوف من ردود مجتمعاتهم على مواقفهم الدنيئة، السلبية، الشجاعة، والجريئة، والتي تسبح أغلبها ضد التيّار! وممارسة البعض منهم شراستهم، وأنانيتهم في الخفاء، كي يبقوا بعيداً عن القيل والقال، والمحاسبة القانونيّة.
 
السرد الروائي هو سر حياة الروائي، حيثُ أصبحت الرواية نجمة الأجناس الأدبية بلا جدال. ونجد الرواية قد رسّخت أقدامها منذ سنوات طويلة في الساحة الثقافيّة، واتسعت شعبيتها بين الناس مع مرور الوقت. ونجد بأن الكثير من الروايات العربيّة، تمَّ تحويلها إلى أفلام أو مسلسلات وعلى الأخص روايات نجيب محفوظ، وإحسان عبدالقدوس، ونجحت الرواية في أن تحتفظ بمكانتها، وأن تظل همزة الوصل بين الروائي والمشاهد البسيط الذي لم يمشِ في طرقات الأدب من قبل، ولم يُجرّب الغوص في محيطاتها. نعم، الرواية توثيق للماضي والحاضر واستشراف للمستقبل بدون تزييف أو تملّق من ساردها.

 
***
 

أسمع تساؤلات تتردد بين حين وآخر بوسائل الإعلام، وفي أروقة المثقفين، بأن وسائل التواصل الاجتماعي، ثورة العصر الحديث بلا مُنازع، وأنها خطفت الأضواء من الرواية، وسحبت البساط من تحت أقدامها، وأصبحت الرواية في وضع لا تُحسد عليه! بلا شك أن التكنولوجيا اخترقت خصوصياتنا، واقتحمت بيوتنا دون استئذان، وتلاشت تلك الصورة النمطيّة التي كان يجتمع فيها ربُّ الأسرة على رأس المائدة، مُعطياً الفرصة لكل فرد أن يحكي بحماس تفاصيل يومه، والبقية تُصغي بانتباه شديد إليه. صارت أعين أغلبية الناس متجهة لشاشات هواتفهم، بل وأصبح أفراد الأسرة الواحدة يعيش كل فرد منهم بمعزل عن الآخر، وغدا المشهد المألوف؛ احتضان كل شخص لهاتفه الخلوي كَبُرَ أو صَغُر سنّه، ليقرأ ردود أصدقائه ومعارفه على ما يكتبه بصفحته على الفيسبوك أو ما شابه من مواقع التواصل الاجتماعي، أو الانشغال بكتابة تعليقات على ما يقوم أصحابه بنشره، أو التلصص على صفحة امرأة أثارت إعجابه، أو تتبّع بهوس صفحات المشاهير، وهذا الوضع ينطبق على الجنسين ذكوراً وإناثاً.
 
فهل عشّاق الرواية وقعوا هم أيضاً داخل شباك هذه الوسائل، وأعطوا ظهورهم لكتّاب الرواية، معلنين زهدهم فيها، بعد أن شدّت أبصارهم أضواء وسائل التواصل الاجتماعي، ودغدغت مشاعرهم، واستحوذت على اهتمامهم؟ لا أوافق المتشائمين الذين ينظرون لعالم الرواية من هذا المنظور الضيّق! أؤمن بأن الذي يعيش في دنيا الرواية، من غير الممكن أن ينسى لحظاته الحميميّة معها! أُشبّه الرواية بالمرأة الجميلة اللعوب التي تملك أدوات أنثويّة ساحرة، فتجعلها قادرة على إدارة رؤوس الرجال وسلب لبّهم! من المستحيل على عشّاقها عند تعثّرهم صُدفة بنزوة عابرة، أو اندفاعهم خلف غمزة عين جريئة في لحظة طيش، أن ينسوا حلاوة حديث تلك المرأة وأساليب غيّها!
هذا لا يعني بأنني من الرافضين لوسائل التواصل الاجتماعي، بل أنني أُصفّقُ لها بحرارة وأشدُّ على يديها؛ كون هذه التكنولوجيا الساحرة ساهمت في إيصال فكري لقرّائي وإن كانوا بأقاصي الأرض. لقد عانيتُ طويلاً من منع كتبي داخل وطني وفي بعض الدول العربيّة، والتي -للأسف- ما زال أغلبها لحد الآن يعيش مُهاجراً، ويحيا مُغترباً على رفوف المكتبات بدول العالم! لذا أُدين بالفضل لوسائل التواصل الاجتماعي في نشر نتاجي الروائي، وتعريف القارئ العربي بأدبي، حيثُ استطاعت هذه الوسائل القفز فوق هذه الحواجز التي تمّت صناعتها على أيدي فئة متحجّرة فكريّاً، ونجحت في كسر أنوف الرقباء الذين عيّنوا أنفسهم حرّاساً على العقل العربي. وغدا كل أديب قادراً على التنقّل بحرية بين هذه المواقع، من خلال وضع مقتطفات من روايته، أو نشر فصول منها. كما دفعت كذلك وسائل التواصل الاجتماعي، جلَّ الأدباء، إلى الخروج من صومعتهم التي اعتادوا اللجوء إليها لتسطير إبداعاتهم، ولجؤوا لهذه الأدوات الحديثة التي مهّدت لهم الطريق للاقتراب من الأجيال الجديدة، بمد جسور من التواصل المباشر معهم، وفتح دائرة واسعة من الحوارات الواسعة والمتشعبة حول هموم الشباب وتطلعاتهم.

 
***
 

وعودة إلى مسيرتي الأدبيّة الطويلة. كثيراً ما يسألني قرّائي في أحيانٍ عديدة بسطور يفوح منها الفضول.. هل لديكِ طقوس معيّنة تتّبعيها عند كتابة رواية جديدة؟ أُدرك بأن عملية خلق الكلمات ليست بالأمر السهل. أُشبهها بالنمل الصغير الذي يمشي بهدوء باحثاً عن مخبأ ضيّق، وعلى الكاتب أن يتبع أثره قبل أن ينزوي داخل تجاويف مسكنه! أعترف أنني في كل مرّة أمسك بقلمي لأسجّل خاطرة مرّت ببالي، أو أكتب سطراً عن شخصيّة محوريّة لرواية جديدة لي؛ يُجافيني النوم، وأجد نفسي في أحيانٍ كثيرة أتجوّل بأرجاء بيتي، باحثة عن كلمة مختفية خلف ستارة غرفة نومي، أو سطرٍ مُمددٍ تحت سريري، أو عبارة مستلقية على أريكتي بغرفة الجلوس. أحياناً أخرى يغلبني سلطان النوم، فأستيقظ على يد مجهولة تهزّني، تُحفّزني للاستيقاظ وتسجيل خاطرة نبتت فجأة داخل رأسي، وعليَّ أن أدوّنها قبل أن تتبخّر، فأفتح نور “أباجورتي”، وأكتبها بقلم رصاص في مفكرتي الموضوعة على المنضدة بجواري، ثم أقرؤها صبيحة اليوم التالي وأُعيد صياغتها إذا لزم الأمر.

 
***
 

الروائي الذي لا يعيش في مناخ الحريّة، ولا يستنشق أريجها كل صباح، ولا يسمع زقزقة العصافير، ولا يُشاهدها وهي تُحلّق في السماء سعيدة بحريّتها، سيتوقّف قلبه، ويموت كمداً، قبل أوانه! وسيُقصف قلمه وهو بعد فتيّاً! وسيجف مداد فكره، وهو لم يزل في ريعان صباه! لذا لا بد أن يُناضل لتبقى شعلة الحرية مُضيئة لآخر يوم في عمره، بالطرقات، وفي الحواري، وعند المنعطفات، وخلف الأبواب المغلقة، حتّى يأتي من يحملها بعده، لينير بها درب الإبداع، من أجل بناء مستقبل مُشرق حر لمجتمعه.
 
ستظل الرواية من وجهة نظري المتنفّس لكل مبدع حقيقي، كونها لا تخشى من كشف وجهها أمام الغرباء، ولا تهاب من حسر رأسها أمام المتشددين. الرواية لغة لا تعرف الحياء، وترفض بكبرياء كل أنواع التدليس.

 
***
 
بقلم: زينب أحمد حفني