وجهة نظر 2008

وجهة نظر 2008

﴿وكالة رويترز/بيروت﴾

﴿زينب حفني في روايتها “سيقان ملتوية”.. ألا نقول جديدا وإن ازداد يأسنا.. لكن بسرد جيد﴾
بقلم: جورج جحا

26/6//2008

 
لا شك في ان الكاتبة والصحافية السعودية زينب حفني تشبه من خلال مسيرتها الادبية فارسا وضع نصب عينيه قضية او قضايا قرر الدفاع عنها بشجاعة وقوة.. لكن بطلة روايتها الاخيرة بدت رغم السرد الجيد كأنها لا تقول جديدا باستثناء انتقالها من الصمود داخل بلدها الى شيء من اليأس منه والتمرد خارجه.
 
تجسد زينب حفني في روايتها الجديدة “سيقان ملتوية” دفاعا عن الانسان وحقوقه من خلال الدفاع عن المرأة المظلومة منذ ايام حواء التي وصفتها في اهداء عمل سابق لها بانها “المتهمة الوحيدة في قضية اخراج ادم من الجنة ..”
الا انها في روايتها الحالية تنتهي الى ان تمتع المرأة بحقوقها ومحافظتها على كرامتها وقيمتها كانسان يعني عمليا ان عليها الانتقال الى عالم يحترم الانسان مهما كان جنسه ولونه ومعتقده.. وهذا لن يتحقق كما يبدو الا خارج وطنها.
رواية “سيقان ملتوية” التي جاءت في نحو 132 صفحة متوسطة القطع صدرت عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” وبغلاف حمل رسما للفنان الامريكي الفرد جوكل.
 
تبدو الرواية اقرب الى مجموعة قصص تتناول شخصيات مختلفة بينها ” خط ناظم” هو شخصية بطلة الرواية. الا ان هذه الشخصيات تتحدث مباشرة ومداورة عن الظلم الذي يلحق بالمرأة حتى وان أتى عبر نية طيبة ومحبة كما جرى في الخلاف بين الاب وابنته الحبيبة. انه التحكم الدائم بالمرأة زوجة وابنة والذي يتجسد احيانا في تصرفات ابوية تستند الى اعتقاد الرجل الاب او الزوج بانه يفهم اكثر منها ويعرف مصلحتها افضل من معرفتها هي بها بل انه يعرف مشاعرها اكثر مما تعرفها هي.
الا ان هذا “الشقاء” او الالم الذي ينتج عن معاملة من هذا النوع لا يصيب المرأة “المظلومة” وحدها بل يصيب بالقدر نفسه وأكثر احيانا الرجل الظالم نفسه ايضا كما حدث للوالد في الرواية اثر صفعه ابنته الحبيبة و”المتمردة” التي تطلب حريتها في الحياة. ويذكر هنا ان هذه العائلة السعودية تعيش في بريطانيا لا في المملكة العربية السعودية ومع ذلك فربّ العائلة مصرّ على المحافظة على تقاليد بلده وقيمه.
 
وشخصيات زينب حفني متمردة في كل اعمالها السالفة لكن تمردها يختلف عما ألفناه من صور التمرد عند عدد من الكاتبات الخليجيات حيث يتخذ التمرد اشكالا مغرقة في التحرر الجنسي بحجة ان هذا هو بعض من ممارسة الانسان لحقوقه. معظم اشكال التمرد عند زينب حفني كانت تمردا على ما تعانيه المرأة من ظلم واستبداد وحرمان. انه مطالبة بحقوق المرأة لكنه في الوقت ذاته رفض للرذيلة والفحشاء ودعوة الى المرأة لاحترام الذات.
 
احداث الرواية تكاد لا تقدم جديدا مما لم نقرأه سابقا عند حفني وعند غيرها. الا انها تسرد هذا الجديد الذي يشبه القديم بطريقة جيدة. ترى هل تود ان تقول لنا ان الامور هي نفسها وليس هناك من تغير الا في موقف البطلة النهائي..
بطلة رواية “سيقان ملتوية” ولدت وعاشت في لندن وبدت في مجالات عديدة اقرب الى فتاة غربية. تمردت على والدها الذي تحب وتحترم.. فعندما صفعها لانها امضت الليل خارج المنزل غادرت هذا المنزل واختفت مما بدا اقرب الى صاعقة ضربت البيت والاب بصورة خاصة فنقل الى مستشفى.
الا انها خططت لتعيش حبها وحياتها وتتزوج بكرامة وان في شبه سرية. كانت تريد عندما تعود فتلتقي عائلتها ان يكون الجميع -خاصة الاب- راضين عنها فخورين بها.
 
اما التطور الذي سجلته الرواية من حيث المواقف فهو اختلاف عن مواقف سابقة وهو يظهر لنا بوضوح قدرا من اليأس من النضال في الداخل اذا صح هذا القول. في رواية سابقة هي “لم اعد ابكي” تقول بلسان احد اشخاصها “ان مشكلة مجتمعنا انه غارق في الازدواجية… كل شيء فيه مباح ما دام يتم في سرية.” وتشير الى موجات تطرف تعصف بوطنها وتدعو الى عدم مهادنتها فتضيف ” العرف اشد وقعا من القانون في بلدنا لذا فانني متوجس مما سيحمله الغد لنا. سيخرج من ظهرانينا يوما ما مارد متطرف يقوم برمي مادة حارقة على وجوهنا لتشويه معالمنا. وسنكون نحن السبب في تقوية شوكته وتسهيل خرجه من الزجاجة.”
 
الا ان بطلة تلك الرواية على رغم حزنها وبكائها تقرر الصمود والمقاومة وترفض السفر الى خارج بلدها فهناك كثير مما عليها ان تقوم به. تقول في هذا المجال “امامي قضايا انسانية كبيرة تحتاج الى دفاع مستميت. وقفت امام المراة. مسحت دموعها مرددة.. لا دموع بعد اليوم …”
الا ان لبطلة “سيقان ملتوية” موقفا اخر. انها متمردة تمارس تمردها من ” الخارج” دون شك لكنها في الوقت نفسه تؤمن بأن والدها سيتفهم موقفها لاحقا وسيكتب قصتها بقلمه الرائع.
 
قالت في نهاية الرواية “كنت اريد ترك اقصوصة صغيرة لابي اقول له فيها ان الحياة مثل رقصة السامبا الشهيرة تستلزم منا تحريك الوسط وهز الارداف لكنها لا تفرض علينا الدهس على رقاب حرياتنا باقدامنا انني بطبعي ابغض الجحود ولا احمل كرها لوطني لكنني ارفض ان احيا في ارض تلتهم حريتي وتصادر كينونتي باسم الاعراف والتقاليد.
 
“انني لا ارغب في الانتماء الى تربة تشعرني انني مطية سهلة لكل من هب ودب. تراجعت في اللحظة الاخيرة موقنة بأنه عندما يتصفح مذكراتي سيتفهم بأن الاوطان تفقد بريقها وتذبل سلطتها اذا قست اكثر من اللازم…”
وهنا تستشهد بقول لصديقتها التي كانت قد قالت لها “… قد تكون جذوري عربية من وجهة نظرك لكنني تربيت على ان اصنع قدري بيدي.
 
﴿﴾
 

﴿ جريدة الرأي الأردنية ﴾

﴿قراءة نقدية لرواية (سيقان ملتوية)﴾
للناقد الأردني
حسين نشوان

17/7/2008

 
برز في العقود الأخيرة، ما يمكن تسميته روايات الصدمة الثانية، على اعتبار أن الأولى مثّلها الاحتكاك الذي جرى مطلع القرن المنصرم، مع طلائع الاستعمار الغربي للبلاد العربية، التي كشفت العديد من التكلسات الاجتماعية والثقافية، والبون الشاسع الذي يفصل المجتمع العربي عن النهضة التي تحققت في أوروبا في مجالات التقنية والحريات والفكر والفلسفة. قد تكون محركات الصدمة الثانية مختلفة عن سياقات الأولى في اتجاه الرحلة التي لم تكن هذه المرة ساحتها البلاد العربية، وإنما تجري وقائعها في أوروبا لعدد من العرب المغتربين. وإذا كانت الصدمة الأولى كشفت أزمة المجتمع والحداثة ، فان الثانية قد فضحت إشكالية الفرد مع البنية الاجتماعية وتجلياتها الثقافية والسياسية والاجتماعية القهرية والطاردة، وهي سمات تتصف بها الرواية العربية الحديثة التي اتخذت من أوروبا مكانا لأحداثها بوضع أزمة الفرد على طاولة النقاش. ومن هذه الروايات مرافئ الوهم للكاتبة ليلى الأطرش، وسيقان ملتوية للسعودية زينب حفني، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. فعادل العراقي يقول: أنا لا اعرف بغداد ، ولا أتذكر نكهة نهري دجلة والفرات،اللذين شربت في طفولتي من مائهما، لكني اسمع هديرهما في أبيات الجواهري.. الإنسان يا سارة يتعلق بمن يسكب رحيق الوطن في ريقه، وبمن يغرس في محجري عينيه نبتة هويته. أما زياد الفلسطيني، فيقول: لم اعد اصدق أن هناك وطنا اسمه فلسطين كان له وجود حتى على خريطة العالم العربي… ومن هنا جاء العنوان سيقان ملتوية بدلالاته التي تشير إلى النمو اللاطبيعي، بالمعنى البيولوجي، والاحتيالي بالمعنى القيمي، فالالتواء هو ناتج عن رغبة محكومة بالممانعة. الذي يفضي إلى الولادة المشوهة وتبدأ الرواية، بالبحث عن سارة التي ولدت في بريطانيا لأبوين سعوديين، وكانت غادرت منزلهما وفقا لقناعات تقوم على حريتها بالاختيار، وهي قناعات غير قابلة للمساومة بنظرها، وتلتقي خلال ذلك بفنان نحات فلسطيني، بدا انه يشكل قناعات تنقطع عما تمسك بها والده، ويراهن على الفن لإعادة صوغ الحياة، والحبيبة بديلا للوطن. وتستذكر خلال ذلك لقاءها مع عادل العراقي الذي خرج من العراق مع والديه وهو ابن الثمانية أشهر، وعاد إلى بلده بعد ربع قرن ليقع ضحية تفجير، ويموت. أما ريبيكا فهي ابنة مريام التي تعرّف والدها السعودي على أمها أثناء الدراسة في بريطانيا، وترفض الفتاة الاعتراف بأبوته، أو على الأقل لم تستطع أن تنتمي إلى تراثه البيولوجي، ورابطة الدم مفضلة عليها رابطة الحياة، وهو ما عالجه غسان كنفاني مع احد إبطال روايته الذي ولد لأبوين فلسطينيين، وتعهدت بتربيته عائلة يهودية ، ليكون ولاؤه للأخيرة. في الروايات التي يمكن وصفها برواية الصدمة الثانية تتداخل فيها أسئلة الزمان والمكان، والماضي والحاضر، وتقيم الشخوص في منطقة مؤقتة، أو قلقة، فالشخصيات محكومة بتقاليد الغياب، أو كما يقال الأموات يحكمون الأحياء، وغياب تقاليد المكان، ليعيشوا فيما يشبه (الكنتون)، فهي أزمة في العلاقة مع الوطن، وأزمة الحاضر، وأزمة الماضي الذي يسحبهم باستمرار إلى التشبث بوهم الوطن الافتراضي. ومما يعمق من جوهرية الأسئلة التي تتناقلها الشخوص أن غالبيتهم ينتمون إلى الفئة المتنورة، التي اصطدمت في بلادها بجمود البنى الاجتماعية، التي قادت المجتمع من هزيمة إلى أخرى. وتركز الروائية على انعكاس ذلك على المرأة التي برزت خلال الرواية أكثر قوة ووضوحا في رؤيتها، وقرارها ورصدها للاختناق الاجتماعي، فأعلنت تمردها بغربة ثانية، مستبدلة غربة حبيبها وطنا يتسع بحدود جسدها وروحه.

﴿﴾
 

﴿جريدة الحياة ﴾

﴿زينب حفني في روايتها الجديدة «سيقان ملتوية» … هوية منقسمة بين الـ«هنا» والـ«هناك»﴾
ماجد الشيخ

0/7/2008

 

ليس الواقع المتخيّل في الرّواية أكثر غنى وتنوّعاً من الواقع نفسه، لكنه ربّما الأكثر إثارة وجرأة واندفاعاً، لقول ما لا نستطيع في الواقع أن نقوله مباشرة وعلانية. ولكن إذ يغرف المتخيّل الرّوائي من الواقع نفسه، فلأنّه لا يستطيع أن يكون نسخة كربونية عنه. إنّه العالم الموازي أو المجازي الذي تخلقه مخيّلاتنا، من أجل إيصال أوجاعنا وآلامنا الرّوحيّة والجسديّة إلى الآخرين، أولئك الّذين قد لا يقلّون معاناة عنّا، في واقع آخر له ما يوازيه من طبيعة فردوسيّة، كل يفتقد عبرها ما يرتجيه من حياة لا تكتمل بالتأكيد؛ لا في الواقع ولا في الرّواية، إنّه اغتراب الرّوح والجسد؛ الاغتراب الأزلي الّذي لا شفاء منه.
 
«سيقان ملتوية» الرّواية الجديدة للكاتبة السّعوديّة زينب حفني الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت 2008) محاولة أخرى لتعرية الواقع. إنها امتداد طبيعي لمجموعتها القصصيّة «نساء عند خط الاستواء» التي أثارت في حينه (1996) الكثير من اللغط لجرأة محتواها في مقاربة الواقع الى حد تعريته. يمكن تلخيص موقفها انطلاقاً من إعلان بطلة الرّواية – راويتها – أو السّاردة الرّئيسة فيها – أنها بطبعها تبغض الجحود، ولا تحمل كرهاً لوطنها، «لكنني أرفض أن أحيا في أرض تلتهم حرّيتي، وتصادر كينونتي باسم الأعراف والتّقاليد».
 
منذ بدايتها تعلن الرّواية أنّ مسرحها غربة صقيعيّة في بلاد الشّمال، وأنّ أرواح شخصيّاتها ليست أكثر من أرواح هائمة، لم تستطع التّأقلم في بلدانها الأصليّة لسبب أو لآخر، وأنّ انتقالاتها السّرديّة، من الرّاوية إلى سارة الشخصيّة الرّئيسة التي تحوّلت منذ الفصل الثّاني إلى راوية/ساردة لرواية زينب حفني، وعبرها جددت نقدها بجرأة لسكون حالنا «هنا»، من دون أن توفّر تواطؤ حالهم «هناك»، ما زاد من جرعة نقدها هذا التّواطؤ، لا سيّما في ضوء الحوار الذي يجري بين والد سارة و «جيم» المراسل الصّحافي الذي عمل في «بلادنا»، وتعرّف إلى أحوالها، وعاد إلى بلده بحصيلة نقديّة مكّنته من رؤية حال الـ «هنا» والـ «هناك» على حقيقته، من دون رتوش إضافيّة. وتعرّف إلى ما حاولنا ونحاول إضافته إلى حقيقة موقفنا من إرهاب أيلول (سبتمبر)، ومحاولات زجّنا وحشرنا في فسطاط لم نختره، طالما نحن نمتلك إرادة حرّيتنا في رؤية ما نرى، لا ما يراد لنا أن نراه.
 
الرّواية باختصار حكاية سارة، الشّخصية الرئيسة التي ألفَتْ نفسها بعيدة من الوطن، تنزلق من بطن أمّها في مستشفى في لندن، لتعيش حياة اغتراب كاملة؛ حتى ممارستها حرّيتها الكاملة في اختيار شريك حياتها والسّفر معه إلى روما. لكنّها الحياة التي وسمت أيّامها بالانفتاح على الآخر – مكاناً وأشخاصاً – لتجد في زمن الغربة ضالّتها في التفتّح وإنضاج وعيها ومقارباتها للمقارنة بين الـ «هنا» و الـ «هناك». الحياة التي عاشتها «هنا» بكل حلاوتها. وتلك التي كانت تعيشها لماماً «هناك»، ومعها آخرون؛ أحبّة، أقرباء وأصدقاء، عاشوا وسط حياة بكلّ مرارتها، في واقع لا تمتلك أن تختار فيه وجودك أو حرّيتك، ولا حرّية أن تختار أيّ شيء. فذاك واقع تلتهم فيه الحرّية التهاماً، لتصادر كينونة النّاس على يد أناس آخرين يدّعون أنّهم أدرى بواقع الأعراف والتّقاليد، بحسب سارة في نهاية الرّواية.
 
بين انشطارات الـ «هنا» والـ «هناك»، تنشطر هويّة لم تترسّخ، لم يرد لها أن تتبلور من الأساس، لا سيّما وهي تنشطر نصفين؛ وأحياناً أكثر. إنّها لعنة الغربة؛ ليس خارج الوطن، بل ومعايشة لعنة اغتراب أعمق داخله. شخصيّات مأزومة، مهزومة؛ بفعل فرض قسري لما يضاد إرادة الحياة ويغايرها في الوطن، وفي الغربة على السواء؛ إنّها الدّائرة الفولاذيّة المغلقة التي أوجدت في دواخلنا خوف السّلطة والرّعب من قهرها؛ سلطة التّقاليد التي لا حدود لها، سلطة لا نظير لها إلاّ في الماضي السّحيق، وهي في كلّ حال ليست منظورة إلاّ حين تقع الواقعة، وواقعة «هيا» ابنة عم سارة تلخيص مكثّف لحال تلك السّلطة غير المنظورة، ولكن الأكثر واقعيّة وحضوراً في حياة النّاس.
 
وبين منطق الحياة والرّكون إليه، وبين مــــنطق الأبــــوّة ومــنـــطق العقل، تخوض الرّواية معركتها، أو بالأحرى صراعها؛ ليس ضدّ المكان الّذي ألفنا ونــألف وجوده من مجرّد معايشتنا له، ولا ضدّ الزّمان الّذي صودف وجودنا خلاله، ولا ضدّ ما يجري في الواقع من أوهام وتصوّرات وخيالات؛ أبعد ما تكون عن الواقع. الصّراع الّذي تخوضه الرّواية يتحدّد في ما يحدّ من حرّية اختياراتنا، وفي ما يحدّ من إنسانيّتنا. من هنا كان انتصار الرّواية وراويتها لحرّية اختياراتها؛ الحرّية التي تصان عبرها الهويّة؛ هويّة الاختيار، فبين البقاء والسّفر إلى «هناك»… «الأوطان لا تورّث» وكذا الهويّة.
 
زينب حفني في «سيقان ملتوية» هذه الرّواية القصيرة، تصرخ صرختها الموجعة ضدّ الواقع المفروض بقوّة العادات والتّقاليد، و»تمأسس» بعض هيئات المجتمع وتجاوزها حتّى أعراف أو تقاليد المجتمع في صورتها الرّاهنة. إنّها رواية الوجع الإنساني، ليس اللّصيق بالمرأة فقط، ولكن بكلّ أطياف المجتمع المغلوبة على أمرها، بفعل شبكة العلائق المفروضة والتي ينبغي أن تكون صلاحيتّها التّاريخيّة قد انتهت بعد أن مضى عليها الزّمن، من دون أن تــمضي أو تــقضي عــليها عــربة الــدّولة العصريّة الحديثة بعد. وهذا هو شرط الدّخول إلى واقع الحداثة من أوسع أبوابها، حفاظاً على هويّة متجدّدة في أوطان فعليّة؛ لا نورّثها لأبنائنا كما نورّثهم جيناتنا، فالحياة هي الأجمل، في أوطان فعليّة ينبغي لها أن تكون الأجمل وسط غربة أرواحنا المأسورة للماضي، المسوّرة بحجارته؛ قبل أن تبتلعنا سجون الماضي السّحيق، فلا نعود نرى خارج البئر سوى عتمته الظّالمة والمظلمة.
رواية «سيقان ملتوية» وإن بدأت سرديّة في فصلها الأوّل، إلاّ أنّ تتابع أحداثها في الفصول اللاحقة عبر ضمير المتكلّم (سارة) التي روت فيها قصّة اختفائها، تلخّص فيها صاحبتها – ساردتها – ذهابها كذلك إلى منطقة أبعد من حدود ما قد لا يجرؤ كثيرون أو كثيرات على ارتياده، تجاوزاً لحالة أو حالات الانصياع أو الخضوع لتقاليد يتّفق الناس في المتخيّل الرّوائي، كما في الواقع؛ على رفع صرخة ألم مجروحة في محاولة لهزّها، أو حتّى اقتلاعها كسيقان ملتوية، غدت في امتداد تربتها مسرحاً للعبة الرّيح، بحيث بات من السهل تطويحها. ولكن إذا ما أريد لها أن تستقيم، فلا بدّ لها من متعهّدين يمنحونها الرّعاية، فلا يسومونها وجع الآلام وألم العذابات.

 
﴿﴾
 

﴿صحيفة الدستور الأردنية﴾

﴿قناديل غُربة مطفأة رواية «السيقان الملتوية» لزينب حفني﴾
د. سلطان المعاني
ناقد وأكاديمي أردني

السيت 27/9/2008

 
يغوي عنوان الرواية “سيقان ملتوية” مشاعر الرغبة ، ويستحضر ذاكرة هذا الركام الهائل من تهافت الكُتّاب والقُرّاء في العقد الأخير من عمر الرواية العربية والسعودية على وجه أخص على النص الذي يتعاطى إلهاب الغرائز في إقحام مشاهد نصية لحميمية اللقاء البدني دونما نسغه في سياق طبيعي في لحمة الرواية وبنائها السردي. ولكننا نمضي مع رواية زينب حفني هذه دونما تهاوْ أو تقهقر أمام مواقف مبتذلة مقحمة ، على خلاف ذلك ، فقد كانت وقفات الرواية مع حوار الجسد ، هادئاً مقنعاً سياقياً ، نبش مخبوء بطلة الرواية الحسي تجاه قرينها الآخر في مركب شخصيتها النزاعة للحرية والوعي والانسلال من عباءة البطريركية الأبوية وحتى الذكورية على مطلقها.
 
إن هذه الرواية حالة معايشة حثيثة لجملة مواقف حياتية للإنسان العربي ، بصرف النظر عن الجغرافيا أو الجنس ، فهو غريب في طيفها العام ، قلما كان فاعلاً متفاعلاً ، إنه صاحب رادات فعلْ خائبة وعاجزة تحتم على نهاياتها السلبية والتقهقر وربما الفجائعية ، وكأنما لم ترغب زينب الحفني تجميل المشهد ، ولا حتى شحنه بالأمل.
 
وفي حديث العتبات وقبل الولوج إلى عالم النص الروائي الجميل هذا ، فإن وشاية العنوان بالشبق المحرم لا تترجم واقع النص بالضرورة ، ولكنها الهامَة تحوم حول طريدها ، والخيال المحموم فيما سكننا في فسحة الشيطان التي وطّنها التراث المجتمعي والديني في حال اجتماع الرجل والمرأة.. والتي يستحيل المركب البشري ساعتها مشهداً حسياً شبقاً متآمراً على نبل اللحظة والموقف أياً كان… “… أمطرها بوابل من الأسئلة المحرجة.. كم مرة اختليت بهذا الشاب؟، هل.. وهل.. وهل..؟؟…” الرجال في رواية حفني طارئون ، رغم مركزية الحدث والوظيفة ، ورغم الفضاء العام في أحداث الرواية ، فالقلق المرضي يسكن مساعد ، ومشاهد النبل والاستشهاد يترجمها عادل ، والإلهام وحالة الإبداع ، وصورة الالتصاق بالوطن أو محاولة الانسلاخ منه ينهض بها زياد ، وهكذا يصنع هؤلاء الحدث واللحظة ويؤثثون المكان بكل ما يتطلبة السرد الروائي.. ثم يمضون ، في حين تبقى بطلة الرواية لا تراوح مكانها المتقدم.. ترسم المشهد العنيد الذي ينافح عن الفكرة القلقة في وضع المرأة العربية المجتمعي وحقًّها في النهوض الذاتي داخًلَهُ عوضاً عن الهروب المتمرد خارجه ، الذي قد يقود إلى الجحود أو فقدان الذات وتشظي الأنا والضياع.
 
تنتصر الرواية ، كما اعتدنا في الرواية النسوية العربية ، لقضية المرأة في الحرية وإحقاق واقع تشاركي وبذات السوية مع الرجل.. وتسبح الرواية في أعماق البحث عن مبتغىً: الهوية ، الوطن ، الذات ، الفكرة ، الطموح ، الرغبة في السفر ، جموح الحنين في العودة إلى الوطن. وغالبا ما يكون ثمن اللهاث وراء تحقيق المبتغى غالياً حد الندم أو التمرد أو الموت.. غير أن حتميةً ما تُسعف في استمرار فضاء الحلم وحيز الممكن ، فبطلة الرواية لا تتمرد بالضرورة ، إنها تختار ، وفي خياراتها خيبات ونجاحات ، لكنها ذات إرادة في صنع القرار ، بل واتخاذه أيضاً ، غير أن المشكلة عندها تكمن في زاوية الرؤية التي نتخذها نحن المتلقين منها. إن المعايشة اليومية للأقران والناس في المجتمع البريطاني يسوق البطلة إلى طرفين: طرف الانسجام والانخراط بمنظومة المجتمع دونما مواربة أو تردد ، وطرف النكوص والاغتراب وتشتت الفكر والوجدان بين قيم وعادات مجتمعية تأصلت في الوالد والوالدة في موطنهما الأم السعودية ، أو الخروج عن إرادتهما بقرار فردي محسوب أو غير محسوب غير أنه يمثل الإرادة ومساحة الحرية المتاحة.. ولو كان الثمن تعاسة غشيت البيت ، وهَمّّ ومرضّ ألزم الوالد المستشفى، إن قصة البطلة في رواية حفني الجديدة حالة صراع ثقافي قيمي تكاد تنزلق في أتونات الرفض والتمرد والردة. إنها مؤشرات خلل في حال غياب الحوار والمواجهة ليس داخل أسرة مساعد التي تعيش في بريطانيا فقط وإنما كل الأسر العربية في داخل الوطن العربي أو في العالم بأطرافه. إن بطلة سيقان ملتوية والأسرة بأكملها ضحية اختلال المشهد القيمي والمفاهيمي بين الآباء والأبناء وبين البيئة التي تأصلت فيها هذه القيم والمفاهيم وتجذرت وبين البيئة التي زاحمت منظومتها المجتمعية والقيمية المختلفة ذهن ووجدان وحياة الأسرة في مجتمع جديد فانهارت واضطربت تلك التي خالف فيها هذا الوضع الجديد عند الأبناء ذاك.
 
إن التناقض في الموروث القيمي في أسرة مساعد بين الوالدين وابنتهم يكرس حالة المغايرة والإقصاء ، وهو نتيجة التمحور حول مركزية المنظومة القيمية والثقافية المتأصلة في المجتمع الذي تشرب الوالدان فيه سلوكهم ، وقد غفلا تبسيط آلية توجيهه تجاه الأبناء في مزاوجة القبول بالمجتمع الجديد وفق تشاركية المنظومة القيمية والمجتمعية والعادات ، لا أن يعيشا فيزيائيا في ذلك المجتمع ولكن بصورة تهمش حتمية الانخراط فيه سواء لهما أو لابنتهما. إن أبسط ما ينبغي على مساعد فعله هو ترك مساحات للقاء والحوار بينه وبين أفراد الأسرة فيسمع لها ويتفهم متطلباتها ، ويتخذ وأياها قرار الحياة اليومية أو رؤية المستقبل.
 
إن بطلة الرواية لم تستنزف ذاتها في صراع مجتمعي أو ثقافي ، فهي تعيش انتماء متوارثا لا تحس به وواقعاً يفرض عليها متطلباته ، فهي لم تتفهم عادلاً وهو يقرر هكذا ودون مقدمات الذهاب إلى بغداد ، وحتى تلك الاشلاء التي تناثر فيها جسده نتيجة قنبلة عمياء لم تستوعب فيها البطلة الجغرافيا المحترقة عنفاً واغتصاباً.. وحتى بيت زياد الذي يعكس كل شيء فيه فلسطين لم يعني لها سوى واقع اجتماعي وسياسي وثقافي مختلف عن ذاك الذي تعيش فيه ، وربما تعاطت مفرداته بحيادية وجدانية لا يربطها بها رابط إلا علاقتها بزياد الذي يحتفظ تجاه هذا الإرث بالحنين والوفاء لوادين تركاه له ، لا لوطن يسكنه إليه حنين جارف وتوق للعودة.. فتلك حالات تعن على الخاطر دونما تأجيج ولا إلحاح.
 
ولا تدري في أي زاوية من الرواية يقبع الاغتراب المجتمعي في بيت الأسرة حيث الوالدين أم في هروب البطلة عن مؤسسة الأسرة ناشدة بيئة تطابق المرتجى والواقع ، فالقضية إن لم تكن اغترابا فهي صرخة من أجل التغيير ، وراحة للروح حيث مجتمع الأقران ، ولكن الأمور خلاف كل ذلك قد آلت إلى تمزق أسري وغمام أسود ومستقبل يقود يوما بعد آخر إلى التنازل عن الحلم والهروب في التجاه المعاكس لتتسع الهوة بين الأجيال ولتتفاقم مسألة الاختلال ويغيب الاستقرار الأسري.
 
في الرواية جملة اغترابات ، فالوالد والوالدة ارتحلا عن الوطن إلى بلاد الضباب والآماني المعسولة العذاب في سبيل لقمة العيش وحلم الثراء. وفيها غربة بيئية ، حيث شمس الوطن تمنح الدفء تارة وتكوي تارة أخرى ، فيهجرونها إلى بلاد تكاد الشمس تحتجب فيها أغلب أيام السنة ، إن غربة الجغرافيا بعدا وبيئة تترافق مع غربة ثقافية ووجدانية عميقة ينوء تحت وطأتها الآباء في غربتهم والأبناء حيث ولدوا. وليس أعتى من أن يطال برود الغربة الحس تجاه قضايا الوطن وذلك الإحساس المحايد تجاه ما يجري في العراق وفلسطين ، والذي قد ينقلب نكرانا وضدية عندما يصل الأمر إلى الاتهامية والترهيب لكل عربي أو مسلم يعيش في الغرب ، لا لشيء سوى التجريم حسب الدين واللون والجنسية ، دون أن تشفع سنوات الغربة أو الميلاد لأصحابها ، ساعتها يغدو الخطاب مشوشا قلقا غير متفاعل.. ويحل بديلا عن التثاقف والحوار وتقبل الآخر والانخراط المجتمعي السليم عوضا عن الوعظية والخطابية وذهنية القلعة وقائمة التابوهات التي سرعان ما تتحلل منها البطلة بعدما يعيل صبرها من الإملاءات وضبابية العلاقة بل وفوقيتها بين الشمال والجنوب والشرق والغرب.
 
﴿﴾
 

﴿إلمقه/ نادي القصة اليمنية﴾

﴿سيقان ملتوية لـ ” زينب حفني ” والدعوة للكتابة بروح المكان﴾
فهد توفيق الهندال
كاتب و ناقد كويتي

5 أكتوبر 2008

 
لم تكن رواية كمثيلاتها تصرخ بصوتها الأنثوي المبحوح أو الموجع ، احتجاجا على قسوة مجتمعها ، بقدر ما كانت بوحا لأدق تفاصيل الحياة لفتاة تعيش تشظّيا ذاتيا بين محطات عمرها الصغير في ذاكرة من حولها من شخصيات الأماكن المتنقلة ما بين الرياض و لندن ، حيث يمثل المكان الأول ذاكرة الأب و العائلة المحافظة ، والثاني موطن الغربة الذي قضت فيه كل عمرها – 23 عاما – هي نصف عمر والدها الذي تجاوز منتصف الخمسين . فالرواية لم تعتمد بوحا ذاتيا ، يستند على صوت واحد يسترجع ما حدث ، بل على وقع فعل الحدث نفسه ، وصداه الذي خلّفه في ذوات شخصياته ، مع فطنة سردية ذكية من الكاتبة ، لا يكشفها المتلقي إلا في نهاية العمل .
 
سارة ، فتاة سعودية ، تعيش مع والديها في لندن ، اختارتها الكاتبة لتكون بطلة الحدث و الشاهد على ذاكرة الأمكنـة المكتنزة في ذوات بقية الشخصيات الرواية : حبيبها ” زياد ” الفنان الفلسطيني المقيم في لندن الذي يلازمه حنين أبدي لأمه ووطنه ، صديقتها الانجليزية “ربيكا ” التي تنكرت لها أصولها العربية بسبب نزوة والدها ” يوسف ” النازح من جدة إلى لندن للدراسة وحاول بعدها لم الشمل متأخرا ، زميلها ” عادل ” العراقي الذي مات بعد عودته للعراق في انفجار إرهابي ، وابنة عمها المطلقة ” هيا ” التي انتحرت بسبب رفض المجتمع لخيارها المتمثل بالرجل الذي تريد أن تعيش معه برضاها و رغبتها . دون أن نغفل عن أولى شخصيات الرواية التي بدأت ملامحها في حدثهـا الأول بواسطة فعله في التوجه لمركز الشرطة للإبلاغ عن اختفائها ” سارة ” ، و ختمت به في حدثها الأخير ، في مغادرتها لندن ، وإن كان الحدث الأول لاحقا للأخير ، واعني بهذه الشخصية والدها ” مساعد ” . لتستنطقهم سارة في حواراتها المباشرة معهم ، أو عبر ما اختزن في ذاكرتها عنهم ، لتأتي الحوارات و الصور شريطا يمر علينا ، شبيه بالمذكرات التي سيقرؤها والدها يوما بحسب رغبتها لأن يتفهم صنيعتها و يحكي قصتها ، دون أن تكون هذه المذكرات مؤرخة كما هي العادة ، بل مؤرخة بأحداث شخوصها أنفسهم ، كتواريخ ميلادهم أو نزوحهم للندن وغيرها ، وأهم أحداث زمن الرواية ، كنهاية العام الميلادي الموافق لإعدام صدام ، مع ما شهدته الأمكنة من خلال تغير ملامحها و أسماء مرافقها بالأمس و اليوم .
 
جاءت الرواية في 128 صفحـة ، حافلة بتفاصـيل شخوصها ، عبرت الكاتبة فوقها نحو قلق ” الهوية ” ، تكرر هواجسها في حوارية و ذهنية شخصياتها ، وإن كنت أميل إلى أن الكاتبة لم تكن لتخصص عملها الجديد لمجرد تكرار ما قيـل و تم تناوله في أعمال أخرى لها أو لغيرها من كتاب المنطقة ، لكون البطلة عادت للمكان الأول ” الرياض ” وغادرت الثاني ” لندن ” إلى ” روما ” لبدأ حياة جديدة عبر عنها زياد في قوله : ” أريد أن ادخل معك دنيا مضيئة ، لايوجد فيها ركن مظلم و لا زاوية معتمة ” ، فلم تكن عتمتها في أمكنتها أو مجتمعها ، بل في ذاكرة من فيها ، و هنا يضمحل أيضا وهج فكرة أنها جاءت معرية للمجتمع و تقاليده وعاداته ، وإن كانت الكاتبة صرحت وضمنت شجبها لذلك على لسان شخوصها ، ليحسب لها طرق باب اقتحام ذاكرة الألم دون أن تبرئ أحدا فالحارم و المحروم شريكان في العمل ، بما يخرجها من سرد البوح الدامي أو استرسال آلام فردية تعيش لوحدها وحشية المظلومية .
 
كذلك ، يحسب عليها ، إصرارها على أن تكون أسماء الأماكن والشخصيات في لندن مقرونة بتركيبها الحرفي في اللغة الانجليزية ، لسبب واحد ، أن العمل روائي إبداعي و ليس قاموسا لفظيا أو حرفيا ، مع أنها نوهت في خاتمة الرواية بالشكر لمن زودها بالمعلومات عن معالم لندن ، وهي صراحة موضوعية تحسب لها وعليها ، لكون المكان الثاني ” لندن ” جاء صامتا و مفرغا من الأحاسيس ، بعكس المكان الأول ” الرياض ” و ” جدة ” ، حيث كانا غنيين بمشاعر من فيه ، وانطبعا بألوانه المختلفة على شخصيات الرواية .
 
أخيرا .. استطاعت زينب حفني عبر ” سيقان ملتوية ” أن تضيف نموذجا آخر عن التجربة الروائية النسوية في منطقة الخليج العربي عامة و المملكة العربية السعودية خاصة ، بما يشجع الأخريات من كاتبات المنطقة على تجدد أسلوب الكتابة الروائية ، والخروج عن موضة ” التمرد ” أو ” تعرية ” المجتمع ، واستبدالها بأفكار تستند على تجارب قريبة من واقعه و ظروفه ، ليكون العمل فرصة للدعوة للكتابة بروح المكان .
 
﴿﴾
 

﴿مقدم في البناء المتراكب في رواية “سيقان ملتوية” ﴾

﴿الأديبة زينب حفني كنموذج للأدب السعودي﴾
محمد معتصم
ناقد أدبي مغربي

4 – 5- 6 /11/ 2008

 

1/ من دواعي إيقاظ الوعي العربي، والنظر إلى ذاته نظرة متفحص نجد التعرف على العالم الغربي سواء في صورة استعمار غزا البلاد العربية بداية القرن المنصرم، أو في صورة بعثات طلابية تنبه بعض الحكام العرب وقتها إلى ضرورة التعلم من هؤلاء الغزاة الذين تفوقوا علينا علما وقوة حضارة… وكان من الأوائل الذين انتبهوا إلى الاختلاف الثقافي والحضاري بين العرب وبين العالم الغربي الدعاة المفكرون، ثم جاء بعدهم وعي الأدباء الذين افتتنوا بإبداع الغرب شعرا وسردا، وهو ما تفسره المكانة التي احتلتها وتحتلها الترجمة في الفكر والإبداع العربي الحديث والمعاصر.

 
إلا أن هذا التلاقح كانت له أبعاد في الفكر والأدب والحياة والثقافة عامة، وسلوك الأفراد أيضا. وقد انبرت كثير من الروايات العربية لرصد هذه الظاهرة وإبداء الرأي حولها، وتحليل أجزائها وتفكيكها لفهم أسباب التقدم عند الآخر وأسباب التخلف عندنا، وسبيل التفاعل مع المعطيات الجديدة الحضارية، العمرانية والثقافية.

 
في هذا السياق تندرج رواية “سيقان ملتوية” للكاتبة والروائية السعودية زينب أحمد حفني. وقد سبق للكاتبة أن أصدرت روايتين هما بالتتابع “لم أعد أبكي” و “ملامح”، ومجموعة قصصية تحت عنوان “نساء عند خط الاستواء”. كما صدر لها ديوان شعر، وكتاب ضمنته عددا من الدراسات والمقالات التي كانت تنشرها الكاتبة بجريدة الشرق الأوسط.

 
تسعى الكاتبة في رواياتها السابقة إلى إثبات أن الرواية ليست تجريبا مغرقا في الشكلانية، واللعب اللغوي، أو في تدمير خطية السرد، أو ملامح الشخصية الروائية بل غايتها الجمع بين المتعة والوظيفة. أي أن الكتابة لديها تنطلق من هدف وغاية اجتماعيين، ومن الحفاظ على مكونات العمل السردي بناء وشخصية وحبكة وأحداثا…

 
ومن القضايا الاجتماعية التي تتكرر في الرواية عند زينب حفني وضعية المرأة العربية والسعودية خاصة، وقضاياها العامة والخاصة. ومن هنا تكون الرواية عند زينب حفني ذات وظيفة اجتماعية وهدف تنويري ودفاعي عن جنسها.

 
2/ على غير عادتها في بناء الحكاية، شيدت زينب حفني في روايتها “سيقان ملتوية” الحكاية بطريقة مختلفة كما يلي:

 
أ‌- الفصل الأول: خصته للأب، عرفت بأصوله السعودية وأسباب سفره إلى لندن، واستقراره بها. وطبيعة العلاقة الأسرية التي أقامها بينه وبين زوجته وبناته الثلاث. لكن الأهم هنا الحدث الأساس الذي يقوم عليه الحكاية الإطار في الرواية، والمتمثل في :”خروج سارة من بيت والديها بعد شنآن بينها وبين والدها”، وقد بدا الأب في هذا الفصل منهارا مستسلما، وعاجزا.
 
ب‌- الفصل الثاني: وهو بداية الحكاية الإطار. والشخصية المركزية فيه “سارة”، وهي من يحبك القصة (ينسجها)، وينشيء الحبكة وينظم أطراف وأبعاد الحكاية. وللحكاية الإطار أهمية كبرى في تشكيل الأبعاد الوظيفية للرواية (الخطاب)، سواء تلك الخارجية (الخارج نصية) ذات البعد الاجتماعي أو التربوي والتنويري أو تلك الداخلية التي تنمي النص على مستوى توليد الأحداث، وتنمية المتواليات السردية، واللغة أو الجمل السردية وإحالاتها الدلالية (التأويلية) والمعجمية.
 
إذا كان السارد في الفصل الأول يشخصه (الأب)، فإن “سارة” تشخص السرد في الفصل الثاني. ومن الحكايات الصغرى الموسعة من دائرة المحكي نجد مد الرابط نحو شخصية (عادل) وهو طالب عراقي جاء لندن للدراسة ثم العمل لكنه سيلقى حتفه بالعراق في انفجار عبوة ناسفة، في أول زيارة له لبغداد. ويمثل هذا الامتداد علاقة قصيرة الأمد بين سارة وعادل.
 
الامتداد الثاني نحو شخصية (زياد)، وهو طالب فلسطيني، مترجم ونحات، مثقل بوصايا والديه، والحنين إلى وطنه الأم. وهذه الحكاية لها امتداد في النص، وسيكون لها دور في تشكيل فضاء الفصل الخامس وإغلاق دائرة السرد والخطاب.
 
أما جورج وربيكا، صديقا سارة فإن حكايتهما، ستوسع الحكاية الإطار، وتنهي القصة، وقد جعلت الكاتبة هذه الشخصية (ربيكا) محورا وامتدادا؛ محورا أساسيا لإبراز قضية الاغتراب وآثارها على الأبناء، وأيضا آثار الزواج المختلط على الأبناء. وسيتبلور هذا التصور في فصل خاص بالرواية.

 
ت‌- الفصل الثالث: متن آخر جديد الهوية، وسيرة (ربيكا). بالطريقة ذاتها تشتغل الكاتبة في الفصل، أي أنها لا توسع القصة المؤطرة، الحكاية الإطار، بل تقوم في الوقت ذاته ببناء محكي ذاتي/ غيري. غيري لأن المتكلم آخر غير الذات، خارج الذات، وذاتي لأنه مرتبط بالشخصية المحور في الفصل “ربيكا”. وفيه تكشف الكاتبة عن قضية الزواج المختلط. لكن الفصل الثالث ليس فقط رسما لسيرة شخصية ربيكا، بل هو أيضا قصة صغرى ترتبط بالحكاية الإطار من حيث الفضاء المشترك (لندن) والقضايا المترتبة عنه (الاغتراب في الهوية الأم)، ثم هو أنها توسيع وانفتاح لأبعاد المحكي في “سيقان ملتوية” والشخصية المحورية في هذا الفصل ليس (ربيكا) بل (يوسف) الطالب السعودي والأب، ورجال الأعمال فيما بعد. وتعتبر شخصية (ربيكا) نموذجا ناصعا للحديث عن إشكالية الهوية. وتبرزها أكثر رسالة ربيكا لوالدها بالإنجاب، تقول الرسالة:” لا أرغب في تغيير هويتي. ولا أريد شيئا منك. أبي الحقيقي هو من قدم لي سنوات عمره” ص (91).
 
ث‌- الفصل الرابع: في هذا الفصل يتغير المكان وتبعا لذلك الفضاء من عادات وتقاليد وقضايا فكرية واجتماعية ونفسية…وهنا تبرز الكاتبة الاختلاف بين الإنسان في المملكة العربية السعودية، ثقافة وعمرانا وسلوكا وبين الإنسان في إنجلترا. لكن الشخصية المحورية في هذا الفصل، والتي تحبك خيوط القصة الصغرى الموسعة لحكاية الإطار، هي (هيا).
 
إذا كانت (ربيكا) قد طرحت قضية الزواج المختلط وآثاره السلبية على هوية وشخصية الأبناء، فإن (هيا) ستطرح قضايا مرتبطة بالحياة والعلاقات الاجتماعية والعادات والتقاليد التي تعاني منها المرأة في مجتمع محافظ. وليس السرد هنا وصفا طوبوغرافيا أو استعراضا فادحا بل هي محاولة لنقض الأسوار العالية المانعة للمرأة، والكابحة لقدراتها والمقيدة لرغائبها والمطوقة لمشاعرها، والحاجزة لتصرفاتها وسلوكها وإرادتها في آن. وتتمثل الصرخة المحتجة في إقدام (هيا) على الانتحار. هذا الذي أثر في نفس الشخصية الإطار، الشخصية المحورية (سارة)، وبالتالي سمح لها أن تختار الإقامة في الخارج، بلندن حيث ولدت وترعرعت وتشكلت مشاعرها ورؤيتها للعالم. وقد عبرت الرواية عن هذه الرغبة بقوة عند خروج (سارة) من بيت والدها بحثا عن إقامة حرة بعيدا عن الوصاية والحرمان والحجز، أي هروبا من مصير الانتحار.

 
ج‌- الفصل الخامس: إذا كان الفصل الأول مدخلا هاما لترميم الحكاية الإطار وتوطئة لها، وتشكيلا موضوعيا ومنطقيا لسيرة (سارة)، فإن الفصل الأخير يعد بمثابة (القفلة) التي ستضع حدا لتدفق الحكاية. أي أنها الانحدار نحو الحل والنهاية لما تولد عن خروج (سارة) من بيت والدها بحثا عن ذاتها، وعن الحرية، والاستقلال الذاتي. وإذا كانت كل نهاية انفتاح عن آفاق أخرى للمحكي، وامتداد ممكن لتوسيع الحكاية الإطار إما بالاستمرار أو التحول في خط المحكي، فإن هذا الفصل لم يختلف عن سابقيه في روايات أخرى. فقد وضع حلا سعيدا بزواج سارة من زياد بعد حصولها على الجنسية الانجليزية. وبعد حصول زياد على منحة دراسية إلى إيطاليا. لكن الإشكالية التي خلقها/ تضمنها الفصل تمثلت في تدوين سارة لمذكراتها. فهل الرواية التي قراناها هاهنا وقدمناها، مذكرات لشخصية سارة؟ هل هذه الرواية اشتغال على مادة المذكرات، أي إعادة صياغتها حتى تلائم طبيعة السرد في الخطاب الروائي؟ ممكن.

 
3/ انطلاقا مما سلف يمكن التمييز بين مستويين من أنماط المحكي في رواية “سيقان ملتوية” لزينب حفني، يمكن تقديمهما على صورة الترسيمة التوضيحية التالية:

 
محكي الأب/ توطئة سردية ← محكي سارة/ الحكاية الإطار ← محكي الحل والنهاية زواج سارة وزياد
 

 
حكاية ربيكا وقضية الزواج المختلط
 

 
حكاية هيا وقضية المرأة

 
تبين هذه الترسيمة المحكي الأفقي الذي تقوم عليه القصة الإطار. يقوم المحكي التوطئة بترميم الحكاية الإطار وبناء الأسس المتينة التي سيقوم عليها عالم الرواية (القصة)، ولهذا تضمن الفصل الأول موادا وأحداثا أسهمت في منح (القصة) معنى وطورت محتواها، كما أنها أسهمت في تشكيل (الخطاب). أي أن القصة أخذت من الفصل الأول معنى السيرة الشخصية، كما أنها أخذت منها المعطيات الخارجية التي نسميها ترميم الحكاية، مثل طفولة وسلوك سارة، ويندرج هذا المستوى السردي ضمن عملية الاستذكار. أما الاسترجاع فقد تضمن مقومات مضمونية (خاصة بالمحتوى) مثل أسباب رحيل وإقامة الأب في لندن. كما أن الفصل الأول تضمن الجملة النواة التي تولدت عنها باقي الجمل والمتواليات السردية، الرئيسة والثانوية.

 
وأخذ الخطاب من الفصل الأول البناء المنطقي، فكان بمثابة التوطئة التي تمهد للحكاية الإطار، وتقدم بصورة موضوعية لحادثة الخروج من بيت الأسرة.

 
أما حكاية ربيكا وهيا وحتى الحكاية الصغيرة جدا التي صيغت كخبر، حكاية عادل فهي حكايات غير مركزية ويمكن الاستغناء عنها على مستوى الخطاب لكن لها دور ووظيفة اجتماعية على مستوى أبعاد القصة. فربيكا ذريعة جيدة لإبراز أخطاء الزواج المختلط على الأبناء، وهيا تبرز أخطاء التشدد وتضييق الخناق على الحريات الشخصية، ودور الرشوة والتدخلات السلطوية في الحياة العامة. أما عادل الطالب العراقي فتبرز حكايته الصغرى الأحداث التي يرزح تحت نيرها العراق بعد نهاية حكم صدام حسين وبداية التدخل الأمريكي الدولي في البلاد، وما تلا ذلك من عنف وعنف مضاد وتطاحن عرقي وطائفي…

 
إذا فالحكايات الصغرى لها دور ومهمة تعميق وتطوير محتوى القصة الإطار وتسمح للخطاب بالتفرع واتخاذ اتجاهات سردية غير خطية، أي أنها تكسير مسار السرد المتوارث والتقليدي المهيمن على الخطابات السير ذاتية والغيرية، والسرد التاريخي، والمذكرات واليوميات والرسائل. وكلها خطابات تبدو تبعا لذلك ذات بعد زمني واحد يهيمن عليه التعاقب والتسلسل المنطقي الخارجي. ولولا هذه التفريعات التي جاءت بها الحكايات الصغرى (حكاية عادل) وغيرها لكانت رواية “سيقان ملتوية” خطابا سير ذاتي لكل من سارة وربيكا وزياد وهيا.
 

﴿﴾
 

﴿ زينب حفني والتوق إلى الإنعتاق ﴾

﴿الأديبة زينب حفني كنموذج للأدب السعودي﴾
بلقيس حميد حسن
شاعرة عراقية مقيمة في هولندا

4 – 5- 6 /11/ 2008

 
المقدمة
“أنها تفتح أبواب الشر والنار على مصراعيها ”
 
هكذا قال عنها أحد المعلقين في موقع الكتروني عربي في معرض التهجم على الأديبة زينب حفني , و كعادة رافضي النور والانفتاح في تاريخ البشرية , فحينما لم تستوعب عقولهم الضيقة آفاق الفكر الجديد الهادف إلى التغيير لصالح المجتمع وتطوره , نراهم يكيلون التهم بانفعال , مستخدمين كافة أشكال التهديد والوعيد, فالمجتمعات لا تتحرك إلى الأمام ولا تتوافق مع سير الحضارات المبنية على هذه الكرة الأرضية التي تضم البشر جميعا , دون عقول جريئة تتبنى قضية النهوض به, وذلك على شكل نتاجات فكرية يشكل الأدب احد ركائزها , فكما واجه طه حسين الانتقادات والتهم وخرج منها عميدا للأدب العربي , وكما وقف المعري رغم سجن المحبسين شامخا لم يتورع عن طرح مايراه ويؤمن به خيرا لصلاح الناس ليخلد في عقول ومكتبات جميع العرب .وعلى ذات المبدأ اجبر الفيلسوف سقراط في الماضي على تجرع السم بسبب فكره الذي تتبناه البشرية اليوم في درب بناء رقيها واستقرارها .. أتذكّر هنا بيتا للشاعر الجواهري حين يقول:
إنّ سقراط ذاق سما زعافا ××× ليرى الفكر فوق ريب الظنون ِ
 
وتحمل الأديبة زينب- كالقلة من أدباء العرب – روحها على راحتها باحثة دائبة عن الحقيقة كصحفية وكاتبة دونما ظلم أو انحياز ..
 
إننا لا نختلف عن شعوب سبقتنا في البحث عن طرق الوصول إلى مدينة فاضلة والاختلاف على أسلوب بنائها, لكن مشكلتنا تدور حول عدم قبولنا الخروج من كهف أكد عليه ” أفلاطون ” حتى سُمي باسمه موضحا حتمية الصراع الذي سينشب بين سكان الكهوف المظلمة من جهة والخارجين إلى النور من جهة أخرى والذي يصل بأصحاب الكهوف الوقوف بوجه معارضيهم حد قتلهم والخلاص من فكرهم الجديد الذي يقوض العتمة بكل أوهامها متجاوزا إياها صوب الشمس والحرية ..
 
ومنذ الأزل ومع كل ثورة فكر جديد, نجد الظلام يتأبط شره محاولا الإطاحة بمن حاول بعقله النشيط تحريك عالم الركود بعيدا عن المقابر صوب الحياة..
 
وحين الحديث عن الأديبة زينب حفني لا بد لنا من تقدير دورها الشجاع في مواجهة المفاهيم التي تختلط على المتعصبين والمتأثرين بالجهلة والمنتفعين باسم الدين في مجتمع تنتشر به الأمية والشعوذة والوهم مما يدفعهم لينسبون إلى الدين كسل عقولهم وقصورها وقبولهم حياة القرون الوسطى بتقاليدها التي تجمد المجتمعات وتعرقل تطورها في عالم يسحق تحت عجلاته مخلفات الماضي الشاذة التي تتساقط في طريق البناء الجديد, فلا يخفى على احد أهمية الأدب في الثقافة العامة للمجتمعات ودور الأخيرة في التقريب من وجهات النظر المختلفة على أساس القبول واحترام الرأي والرأي الآخر ..
زينب رائدة البوح الأنثوي الحكيم
 
عند دراسة أعمال الأديبات السعوديات لا يسعنا إلا أن نقول أن الأديبة زينب تستحق لقب رائدة البوح الأنثوي الحكيم في المجتمع السعودي ,فالحركة الكتابية النسوية في السعودية احدث منها في بقية البلدان العربية , حيث تفجرت في النصف الثاني من القرن العشرين كرد فعل لما تواجهه المرأة من ضغوط وأحجبة وحواجز تمنعها من التواصل مع الحضارة البشرية بشكل سليم وصريح , أي أن زينب تعتبر من جيل الرائدات تاريخا , إما من حيث الإبداع , فأكثر الأديبات السعوديات , كتبن عن هموم ودموع المرأة وعدم احترامها كإنسان له حقوقه الضرورية لإدامة الحياة والمحبة والعطاء إلا أن زينب اقتربت من مناطق الخطر أكثر حينما كشفت عن آهات جسد المرأة الذاوي بين سواد التقاليد في مجتمع ذكوري يكون الرجل فيه سيدا عليها وعبدا مسلوب الإرادة لأوهام وجهل ماهو شائع ومعتاد وسائد أو لا يقال , مما جعلها رائدة في إعطاء صورةٍ عاقلةٍ للتمرد الأنثوي بتحليل أسبابه من خلال تداعياتٍ وأفكار كثيرة تأخذ برؤوس نساء زينب , لتعكس لنا فهمها بان حياة الإنسان واحدة ولا يمكن فصل الماضي عن الحاضر والمستقبل, وبان الطفولة التي تحتل حصة الأسد من ذاكرة كل إنسان , لابد وان ترسم خطاها الحاضرة والمستقبلية , وان جميع الأحداث الاجتماعية والسياسية التي يمر بها المجتمع , تترك حتما بصمات لا تمحي على شخصية المرء , كما إن زينب أوضحت من خلال نقاشات شخوص رواياتها أن النظرة الدونية للمرأة لا تخلو من التباس وجهل لدورها ومكانتها كمساهم فعال وهام يحتاجها كل مجتمع لبناء لبنته الأولى إلا وهي الأسرة . كما تنتقد زينب النظرة المجحفة التي تسحق روح المرأة وتريد كسرها مهما كان اخضرارها ويفاعتها , يمارسها المجتمع بكل سلطاته , ويقهرها إن تصبح هذه النظرة سلوكا يمارسه الحبيب والأب والزوج والابن والشارع وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبشكل عشوائي وتحت مسميات ما انزل الله بها من سلطان ليدمر المرأة كل من أراد إثبات دونيتها بمقابل أفضليته , وان كان متخلفا عقليا طالما هو حاصل على لقب رجل ..
 
– علمانية الطرح أو عدم التعصب لمنظومة فكرية واحدة مما أنتجه العقل البشري من خلال الإلحاح على فهم الآخر مرورا بثنائية ؛المرأة والرجل , العربي والأجنبي , الفقير والغني ,المتعلم والجاهل , ودراسة ظروف الجميع لا كمضاد له إنما بشكل قصصي لا يدع الملل يتسرب للقارئ ولا ينفره بالنصائح والعضات المباشرة , كما انه يبني أساسا متينا لفهم الديمقراطية التي أصبحت هدف المجتمعات البشرية للتعايش بين مختلف الانتماءات والأعراق والأفكار , فكما أن البشر خلقوا على تعدد ألوان عيونهم وجلودهم وملامحهم , فلماذا لا نقر باختلاف أفكارهم كنتيجة منطقية لهذا الاختلاف. , وكما قال الصوفي ” محي الدين بن عربي” في القرن الثالث عشر الميلادي:
 
لقد صار قلبي قابلا ً كل صورة ٍ ×××× فمرعى لغزلان وديرا لرهبان ِ
وبيتا لأوثان ٍ وكعبة طائف ٍ ××××× وألواح توراة ٍ ومصحف قران ِ
أدين بدين الحب أنّى توجهت ×××× ركائبه ُ فالحب ُ ديني وإيماني
 
واليوم نجد أوروبا وكأنها تبنت أفكار ذلك” الشيخ الأكبر” أو “سلطان العارفين” كما سُمي , لتتوحد ولتقوى وتصبح كما هي اليوم , بينما لا زالت نسبة كبيرة من مجتمعاتنا العربية تستهجن أفكار بعض المفكرين والأدباء التنويريين , وتحاصرهم , ناسية أن هذا الفكر معادل ٌ وموازي للديمقراطية التي ترفع شعارها كل المجتمعات العربية تقريبا كمفردة لاتينية دونما اللجوء إلى ما في تاريخنا وحاضرنا من الشخصيات التي تتوق إلى وضع الأساس الديمقراطي الذي لابد من تربية الأجيال عليه من أول خلية في المجتمع قبل أن يكون شعارا سياسيا منعزلا عن عقليات حامليه وانتماءاتهم الفكرية المختلفة.
 
التحذير من الإرهاب
 
لاشك أن المرأة العربية أكثر المتضررين من الإرهاب , وقد ربطت زينب بين معاناة المرأة وعدم فهم الكثيرين للدين كحاجة روحية للإنسان وسلامته لا كمفهوم للقمع والقتل والاضطهاد , لذا نراها لم تغفل الموقف من الإرهاب الذي يتبرقع باسم الدين ويعتدي عليه ليستشري بين أبناء المجتمعات العربية ويزين للشباب الموت والدمار هربا من مواجهة المتغيرات في عالم أصبح قرية واحدة مهما رفضنا الاعتراف بذلك ومهما أحطنا حياتنا بأسوار شائكة خوف دخول الجديد والعصري الذي يعتبره الكثيرون نشازا خارجا عن نمط مفاهيمهم وتراثهم وتاريخهم الذي يتغنون به , خالطين التطور والانفتاح ومفاهيم الحرية وحقوق الإنسان بالمحرمات دون اختبار وتمحيص , واضعين قبل كل شيء الخطوط الحمراء على المرأة هنا وهناك لتزداد الضغوط و تتفاقم يوما بعد آخر , و لم تنس زينب تأثر الأطفال بالمحيط الذي يترعرعون به وخاصة محيط العائلة والعلاقة بين الأم والأب وما يتبعها لاحقا من قوة الشخصية وثباتها أو زعزعتها واندحارها, لتعيش مهزومة مغلوب على أمرها غير قادرة على الاختيار مما يؤدي غالبا إلى الضياع في طرق وعرة من الحياة تقضي على سالكيها وتحرم المجتمع من قيامهم بالدور المطلوب فمثلا نرى ” في رواية “ملامح ” كيف يؤثر تفكك الأسرة وانهيارها بسبب من استغلال الرجل للزوجة ودفعها لطريق الدعارة المبطن بين رجال الأعمال للحصول على المنصب والمال , يرافقها تقاليد التفاخر والتظاهر بإرسال الابن لمدارس داخلية باهظة التكاليف لم تمنع نشأته ضعيفا مربك الشخصية, انعزاليا , غير مشبع بالمحبة , لا يعرف مايريد مما سهل انقياده ليتطوع في أفغانستان ويقضي بعملية انتحارية وهو في سن المراهقة . هنا نعرف مدى الخسارة في مجتمعاتنا التي لا تقدر دور المحيط على التربية والصحة النفسية ومن ثم على عملية البناء والتنمية والتطور الذي يتسارع دون هوادة في جهات العالم لأخرى. إذن نستطيع القول أن الأديبة أرادت التنبيه ومن باب المسؤولية الأخلاقية, وكمصلحة اجتماعية لا مجرد كاتبة , إلى احترام المرأة لأنها الأم أي المدرسة الأولى والأهم لتأسيس وزرع قيم الأجيال حتى يكون البناء متينا غير قلق وقابل للانهيار في ظروف الشدة والعسر أو التأثر السريع بأفكار غريبة وشاذة تودي بالإنسان إلى الموت أو ترمي به إلى طرق الجريمة والانحراف وهما نوع من الموت أيضا .
الواقعية والتنوير .
 
لقد وظفت أديبتنا تجربتها الحياتية التي اتسعت مساحتها في دول عديدة من العالم , فقد حملت ودافعت برواياتها عن قضايا المهاجرين العرب في البلدان العربية التي عاشت بها أو زارتها ودارت أحداث رواياتها في الكثير منها كما في البلدان الغربية كبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة مثلا ,وعكست معاناتهم في الغربة وشوقهم لأوطانهم التي غالبا ما تطردهم لأسباب عديدة , وهنا تشكل أعمال زينب حفني خطا عربيا تنويريا وتثويريّا بعض الشيء ضد إشكال التلاعب بمقدرات الإنسان , فلم تعزل زينب أي عنصر من عناصر رواياتها أو تحركهم خارج الواقع السياسي والاقتصادي الذي تعيشه هذه المجتمعات ,إنما عكست ظلال كل الأحداث على صور وسلوكيات الناس ونفوسهم , وتقصت النكسات والانتصارات والأيام السوداء التي مرت على هذه المجتمعات من حروب وغزو واندحارات وانهيارات وماتبعها من انكسارات روحية عانت وتعاني منها كل المجتمعات العربية بل وخلفت تنافسا وتناحرا حادا بين أبنائها يصل أحيانا إلى اشكال من الاحتراب المعلن والبغض الواضح , فزينب عكست آراء الشارع العربي بخصوص نكسة حزيران عام 1967 وانتصار عام 1973 وآثار 11 سبتمبر عام 2001 على العرب وما جرّته عليهم من مشاكل, وماسببته من معاناة للعرب الدارسين أو القاطنين والعاملين في بلدان غربية أولها الولايات المتحدة والذين يدفعون ثمن جريمة لم تقترفها أيديهم حيث نقرأ في رواية “سيقان ملتوية” على لسان رجل الأعمال السعودي البسيط ” مساعد” وهو في حالة من العصبية مخاطبا صديقه جيم :
 
” جيم, أنا رجل أعمال ليس لي دخل في دهاليز السياسة القذرة, ولو كان الأمر بيدي لأضرمت النار في السياسيين كافة, وتركت العالم يحل مشاكله بمفرده دون خطط أو مؤامرات أو دسائس تحاك في الخفاء ”
 
فيرد عليه جيم :
 
نحن لا نعيش في غابة ياصديقي . العالم بأسره يحتاج لضوابط تحمي إنسانيته وتقنن احتياجاته. في عالمكم العربي يتم الأمر بطرق وحشية , أما عندنا فيجري بأساليب حضارية وهو ما أدّى إلى اتساع الهوة بين مجتمعاتنا ومجتمعاتكم الرجعية , انظر لنفسك لماذا آثرت الغربة ؟ لماذا اخترت العيش هنا كل هذه السنوات !, أليس لأنك تشعر بان الكثير من الأمور الراسخة في فكرك من المستحيل أن تجدها في مجتمعك أو في أي مجتمع عربي آخر ؟”
 
بهذا الحوار تسلط زينب الفارق بين منطق جيم ومنطق “مساعد” , بين من يفهم المجتمع بترابط تكويناته وعدم فصلها عن بعضها فماهو اقتصادي واجتماعي مرتبط بماهو سياسي وعلى الوعي العربي أن لا يبق بسيطا يتمنى هلاك الشر فقط بالأماني وبطريقة العنف كأمنية “مساعد” بحرق السياسيين كافة , إنما أن يفكك ويحلل العلل ويتعمق في البحث عن مسبباتها وان يتعلم ويكافح الجهل لإيجاد مخرج حضاري منها كي يستطيع بالتالي السير بالتوازي مع دول العالم الذي بزنا اليوم بعلومه وابتكاراته وحضارته الحديثة .
 
كما تطرقت زينب إلى العنف في الجزائر في قصة “المرأة الأخرى” ووثّقت ماسببته حرب الثمان سنوات المجنونة بين العراق وإيران من معاناة وإهدار للطاقات العربية ليس اكبر ماسببه لهم غزو العراق للكويت من انقسامات وطعنة في قلب قضية الوحدة والقومية التي يتغنون بها وينشدونها دوما ومنذ أزمان الاستعمارات والانتدابات التي مرت بهم والتي لم يبق منها سوى الأغاني والأشعار, كما لم تنس رغم دموع بطلاتها ورغم العشق الجارف الذي حملته قلوبهن التواقة إلى عالم رومانسي جميل أن تعكس اثر الحروب الخارجية مع إسرائيل وأمريكا ومأساة فلسطين والعراق وهجرة الملايين العربية من مواطنها التي تحب, إلى بلدان غريبة لاتعرفهم ولايعرفونها سوى ملجأ يحمي أرواحهم وأطفالهم من الدمار والهلع الذي يطاردهم بشتى الوسائل , كما نقرأ في إحدى روايتها الفوارق الطبقية والاقتصادية بين بلدان عربية , وعربية أخرى وما يتبعه من نظرة تصل حد الحقد أحيانا , ويستمر النقاش بها كمادة أساسية لنزاعات واتهامات جاءت أثناء نقاش طلابي في رواية ” الرقص على الدفوف” :
 
“الم اقل لك ِ انكِ محقونة بأموال نفطية ؟؟”
 
وفي قصة ” وفاحت رائحة عرقها” تطالب زينب بتغيير القوانين المجحفة بحق المرأة في السعودية إذ نقرأ:
 
” …لقد حكموا لي بألف ريال فقط, أتدرين, يقولون في الدول الغربية تأخذ المرأة المطلقة نصف ثروة مطلقها إذا اثبت كفاحها معه.. تجيبها:
 
هذا هناك لكن عندنا المرأة تعامل كالخيل العجوز, يطلق القناص عليها الرصاص بمجرد انتهاء الصلاحية ”
 
وهكذا تكون زينب قد وظفت عملها الصحفي ووعيها لأدبها لا بمعزل عما يدور في العالم , فهي تذكرنا بأدب الواقعية التي جعلت نجيب محفوظ ثورة فكرية رسخت في أذهان وعقول الشباب العرب بحيث أصبح خطا تنويريا قائما بذاته لايُدانيه تأثير الأحزاب والتجمعات مهما كانت قوية وفعالة .
 
زينب العاشقة أبدا
 
دافعت زينب عن المرأة لصالح المجتمع ككل بشكل موضوعي وليس الانحياز الأعمى لها على حساب الرجل , فالأديبة لم تعط المرأة دورا ملائكيا بالمجتمع ينزع عنها الصفات البشرية كما وقعت به بعض المدافعات عن حقوق المرأة في أعمالهن حيث صورن المرأة كمخلوق قادم من كواكب أخرى , إنما تعكس أديبتنا فهما ناضجا لعملية احترام المرأة ودورها للوصول لهدف العيش السعيد والمحبة بين الجنسين ,ورغم أن زينب لا تتغافل عن وجود سقوط ورذيلة في مجتمعها ككل المجتمعات البشرية , إلا أنها تركز في مجمل أعمالها على الحب كغاية سامية بين الجنسين لابد منها لاستدامة المجتمعات وبناء الحضارات على أساس قويم ,فزينب عاشقة أبدية لن تنزع ثوب الأنوثة من بطلاتها مهما كانت المعاناة والعواقب , نراها تطير لاهثة نحو الحب وان عرفت مسبقا أنها ستحترق , لتقول بطلة رواية ” الرقص على الدفوف :
 
“لا أتصور حياتي بدون رجل” و”لن الغي أنوثتي ”
 
تعكس بطلات زينب روحها التواقة للحرية والحب المطلق , وكأنها ذات المرأة التي تمسح دموعها في كل مرة محاولة إسكات نبضها الحارق شوقا لرفيق درب صادق المشاعر , تركض بالأمل, وبقوة أجنحتها التي تتكسر كلما ابتسمت وخطت خطوة واحدة نحو السعادة الشفافة, وتبقى بعد كل سقطة, تزين الحب لروحها وان كان وهماً, لتقول على لسان عبير في ذات الرواية :
 
” ليس هناك أجمل من سقوط العقل في غيبوبة اللذة ”
 
” الحب اختيار ودقات قلب ” أو كما تقول هو
 
” خيار إلزامي تفرضه علينا ذبذبات مشاعرنا ”
 
فرغم نكسات الحب في مجتمع يضني المرأة ولا يعترف لها بحق الاختيار , ورغم انه يضعها في خانة الثانويات , يهمشها ويعتبرها شيئا محرزا لراحة السيد ورغم معرفتها بان الواقع يخنقها ويلحفها كما عبرت عنه زينب
 
لكن بطلات أديبتنا تصر على العشق لبلوغ السعادة التي تعرف زينب أنها لا تأت بالمال أو الجاه فقط, إنما بذاك التجاذب الروحي الجميل والمليء بالاعتزاز بشخص الحبيب, بذاك الذوبان الذي يسقط قوانين الجسد لصالح الروح.. فرغم النظرة القاصرة لدى الرجل العربي ونفاقه في العشق الذي يبيحه لنفسه دون النساء , ورغم الخداع الذي تتعرض له غالبا أيّة امرأة يخفق قلبها بتلقائية الانجذاب للجنس الآخر كبشر, فالحب عند زينب شامخ نبيل وصادق, غير مبتذل ولامباع بثمن , حتى حينما يكون إعجابا سريعا لرجل على ظهر قارب في نهر السين كما في “إيقاعات أنثوية محرمة” فبذل الجسد متلازم عند الأسوياء مع بذل الروح إذ الحب قيمة تتسامى بها الروح طائرة تفيض بالعطاء غير متوقفة عند حدود ما, وهنا يكون الحب عند زينب انعتاقا عظيما للروح والجسد معا .
 
﴿﴾
 

﴿ جريدة الرأي الأردنية ﴾

﴿شرق وغرب من زاوية جديدة﴾
يوسف ضمرة
كاتب وقاص أردني

7 /11/ 2008

 
هذه الرواية هي أول عمل يقع بين يديّ للكاتبة السعودية زينب حفني. وربما أكون ممتنا لصورة الأدب السعودي النمطية، التي تحفزك دائما للتخلص منها.
لعل أهم ما يميز هذه الرواية (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2008) هو استجابتها للمتغيرات الثقافية والحضارية الكونية، التي شملت الشرق والغرب، وألقت بظلالها على مفردات الحياة اليومية في الجبهتين.
 
فقد اعتدنا مقاربة العلاقة بين الشرق والغرب من زاوية واحدة، هي العلاقة بين الرجل والمرأة، والعلاقة الجنسية تحديدا، لكي نختزل الفارق العميق بين ثقافتين وهويتين وحضارتين وتاريخين وحاضرين. وهو ما جعل ناقدا مثل جورج طرابيشي يكتب كتابا نقديا مهما أسماه شرق وغرب: ذكورة وأنوثة ، تعرض فيه إلى بعض العلاقات التي تندرج في هذا السياق في بعض الروايات العربية.
 
وإذا كان جورج طرابيشي محقا وموفقا في رؤيته وقراءته آنذاك، فلأن الأعمال الروائية العربية التي انطلقت في النصف الأول من القرن العشرين، واستمرت إلى ما قبل عقد أو يزيد قليلا، كانت هي التي تدفع الناقد إلى هذه القراءة. فقد كانت تلك الأعمال أشبه بالسير الذاتية لأصحابها الروائيين، وكان المجتمع العربي يعاني حصارا اجتماعيا ودينيا يرى في العلاقة بين المرأة والرجل فعلا محرما وملمحا غير سوي.
كان الكاتب العربي يذهب إلى لندن أو باريس، حاملا سنوات القمع الاجتماعي، والكبت الجنسي، وصورة المرأة العربية المغلولة باسم الدين والأخلاق، ليفاجأ بامرأة أكثر حرية منه في قرارها وسلوكها اليومي، بعيدا عن الوصاية الأبوية بأشكالها المتنوعة.

 

وإذا كان جورج طرابيشي رأى في العلاقة بين الشرق والغرب ذكورة وأنوثة، فإنه لم ينتبه إلى أن المرأة الغربية وهي تقرر إقامة علاقة مع الرجل العربي، كانت هي في الموقع الذكوري، والرجل العربي مستسلما لرغباتها وأهوائها وقرارها. أي أنه كان يلبي شروط الصورة الراسخة في العقل الغربي، من حيث كون العربي والشرقي عموما، يشكل هامشا للمركز الغربي، وهو ما انطلقت منه المرأة الغربية.
 
ويمكن القول إن الأمر اختلف الآن، خصوصا بعد اختلاف هوية المقاومة الفلسطينية، التي جعلت الإسلام مرشدها الرئيس، ما أنتج أشكالا جديدة من المقاومة، كالعمليات الاستشهادية. إضافة إلى أحداث الحادي عشر من أيلول في نيويورك، التي وضعت العربي مباشرة أمام أسئلة جديدة ومفاجئة، وأمام مواجهة جديدة أيضا.
من هنا يمكن الولوج إلى رواية سيقان ملتوية لزينب حفني، لا من باب النقد إلى المجتمع السعودي المغلق، وإلى حرية المرأة المعدومة، لأن في الرواية ما هو أكثر أهمية من هذا الموضوع الشائع والصحفي.
 
ثمة علاقة جديدة بين الشرق والغرب، رأتها الكاتبة بعين ثاقبة، وإن كانت في جوهرها رؤية سوداوية وجارحة مليئة بهجاء الذات الفردية والجمعية الروائية. وهي معاكسة للعلاقة القديمة التي لم تعد تعني الكثير. وربما هذا هو ما دفع الكاتبة إلى استلهام نماذج مأزومة، نتيجة الصراع القائم في أعماق تلك النماذج حينا، ونتيجة إقرار هذه النماذج في العمق بالاستسلام والذوبان في الآخر، والخضوع لسطوة أفكاره ومفاهيمه وقيمه.
هنا نرى الفتاة السعودية (سارة) تختار بوعي وبإدراك رجلا عربيا للارتباط به. أي أن الذكورة والأنوثة لم تعد -كما تقول الرواية- هَمّاً أساسيا، إلا في الصفحات التي يحتل المجتمع السعودي مساحتها. أما في بريطانيا فثمة أمر آخر.
 
فرغم كون سارة مولودة في بريطانيا، إلا أنها تعيش محنتين وتجربتين معا، وهما التجربتان والمحنتان اللتان يعيشهما الأب السعودي (مساعد)، الذي عاش في منفاه الاختياري قرابة الثلاثين سنة، مع فارق في المحنة الثانية التي نشأت قبل ما يزيد على عقد واحد من السنوات.
 
المحنة الأولى التي تعيشها سارة، تتمثل في محاولة الأب إسقاط المنظومة الاجتماعية السعودية التي يعرفها، والتي تسكنه وتشكل جزءا مهما من ثقافته، على بناته اللواتي ولدن في بيئة غربية مغايرة، وتعلمن في مدارسها وجامعاتها. ورغم مساحة الحرية التي يفرضها هذا الواقع، إلا أن الأب لم يكن مستعدا ثقافيا لتقبل المنظومة السلوكية الغربية، كجزء من تكوين شخصيات بناته.
تغيب سارة (الابنة الكبرى) عن البيت ليلة كاملة، ما يشعل النار في رأس أبيها، وهو ما يجعله يضربها حين تعود في اليوم التالي، ولكنها تفاجئه بالقول في ثقة: أنا لم أعد قاصرا لأقدم لك تقريرا عن تحركاتي اليومية. أمس كان عيد ميلادي الثالث والعشرون، يعني أنا في نظر القانون راشدة.
هنا يفقد الأب أعصابه تماما فينهال عليها ضربا، إلى أن تفاجئه مرة أخرى: بإمكاني الاتصال بالشرطة الآن ليأتوا ويأخذوك. ما تقوم به تصرف غير قانوني.
إذا لم تكن هذه المحنة والتجربة واضحة في السابق بينهما، فقد آن لها أن تتفجر معلنة حضورها في قوة وثقة. وهو ما يدفع سارة بعد تلك الواقعة إلى الخروج من المنزل، واختيار شريكها الفنان الفلسطيني.
 
كانت هذه المحنة حاضرة من قبل، في ذهن الأب والأم من جهة، وفي رأس سارة من جهة ثانية، خصوصا بعد زياراتها المتكررة إلى الرياض، ولقاءاتها بنات عمومتها وقريباتها، والاستماع منهن إلى وضع المرأة السعودية في مجتمع بطريركي. بل وربما كانت سارة في أعماقها تدرك أن المواجهة بينها وبين هذا المجتمع ممثلا في الأب، قادمة لا محالة ذات يوم، وهو ما كان.
أما المحنة الثانية، فهي التي جعلت سارة ربما، تختار رجلا عربيا لا أوروبيا شريكا لها. وهو ما يتبدى في سياق الرواية مع الأب الذي أخذ يعيش هذه المحنة يوميا.
صار مساعد فجأة شخصا متهما في عيون الغرب. وصار لزاما عليه أن يتعرض لاستجواب منطوق أو صامت كل حين. صار مضطرا للدفاع عن أمة كاملة، لتبرئة نفسه. وهو ما جعله يتحول واعظا دينيا أحيانا في شروحاته للإسلام وتوضيحاته التي كانت تأتي في سياق ذلك الدفاع.
 
كان مساعد قرر الحياة في بريطانيا بعد نيله شهادة الدكتوراه من هناك. ولكنه ارتضى أن تختار له أمه قبل سفره النهائي فتاة سعودية لتكون زوجته. فقد عاش تجربة الذكورة والأنوثة مع امرأة بريطانية، ولم تعد الكاتبة تشير إلى أي اتصال بين الأب وامرأة أخرى غير الزوجة. وهو ما يوحي برغبة الكاتبة في التركيز على مسائل أخرى كما أشرنا من قبل.
 
وإذا كانت سارة هكذا، فإن الفنان الفلسطيني كان أكثر وضوحا في هذا السياق. حيث لم يكن مهجوسا بالعلاقة مع المرأة الأجنبية، مقدار هاجسه بفنه وأحلامه الفنية. فهو الشاب الذي فقد الثقة بالوضع العربي، وأقر بالأمر الواقع في فلسطين وما حدث لها ولأهلها. ويرى أن المقاومة لم تعد مجدية، لأنها لن تغير في الأمر الواقع شيئا.
لكنه حين يفوز بجائزة في معرض نحت دولي، يفوز بنحت لوجه أمه، فيقول ما معناه: هكذا أسهم في إبراز المعاناة الإنسانية، وهذا أهم من الرصاص.
 
هذا الفنان أيضا يعاني محنة مساعد و سارة والعرب الآخرين جميعا في الغرب ومعه. فالذي يقر في بدايات ظهوره الروائية بالعجز، ويقبل بالأمر الواقع، ويفقد الثقة بعالمه العربي والكون كله، لن يكون مهتما بإظهار معاناة الفلسطيني، أو بأي شكل من أشكال المقاومة، في ما لو ظن أنه استبدل النحت بالمقاومة.
 
إنه في بساطة يستسلم إلى محاولات تذويب الهوية، سعيا للاندماج في ثقافة ترفضه بفجاجة. ففي أول لقاء بينه وبين سارة يسألها إن كانت تحب بريتني سبيرز ! وحين تبدي إعجابها بلهجته الفلسطينية، يخبرها أنه أخذ يضيق بهذه اللهجة التي لا يتحدث بها إلا إرضاء لوالديه في قبريهما! ولكن ما هو أهم من ذلك، هو بوحه بعدم رغبته في العودة إلى فلسطين لأنها ليست وطنه، حيث ولد خارجها ولم يعرفها من قبل، وأنه يتوق إلى أن يحيا مثل بقية البشر!.
 
هذه هي الشخوص العربية في هذه الرواية المشوقة.. شخوص وجدت نفسها أمام خيارين: إما أن تكون إرهابية وتتعرض إلى مساءلة أخلاقية وفكرية يومية، أو تحاول التنصل من إرثها العربي الذي أصبح عبئا عليها بعد التغيرات التي عصفت بالعالم كله، إثر أحداث نيويورك والعمليات الاستشهادية في فلسطين والعراق ولبنان. وبأسف، فإن شخوص الرواية تختار الانصياع إلى رغبة الآخر وحكمه القيمي على الهامش العربي الذي ارتضى هنا أن يؤكد هامشيته، وقبل بها ظنا منه أن في ذلك النجاة!.
وقد جرى ذلك كله فنيا في سلاسة ومتانة، وعبر بنية روائية محكمة، لا تبحث عن أي إبهار، ولا تنساق إلى مساحات الجنس المعتمة، التي اعتدنا عليها في السنوات الأخيرة من كاتبات أخريات. وإذا كان الجنس هنا حاضرا، فهو من دون أي محاولة لرشوة القارئ، في خلال ابتذال أخذ يشيع مؤخرا كلازمة في الكتابات الجديدة. وهو لا يعني أننا ضد الخوض في هذا الموضوع الكبير، لكننا ضد توظيفه سطحيا لغايات غير فنية على الإطلاق.
 
﴿﴾
 

﴿ دروب ﴾

﴿ملامح – زينب حفني – شمعة تقتات على الظلام﴾
محمد الأصفر

7 /11/ 2008

 
السرد الذي تكتبه المرأة في السعودية عرفته من خلال الروائية ” رجاء عالم ” عبر روايتها سيدي وحدانة .. وخاتم .. وحَبَى .. حيث أشعرتني هذه الروائية بأنني أعيش في مكة وأشتم عطرها وبخورها وأشرب الشاي بالقرفة وأتمتع بمذاقات لذيذة للتمر والزنجبيل والزعفران وأرتوي من نور شمسها وماء زمزمها .. وكانت كتابة ” رجاء عالم ” عن مكة شبيهة جداً بكتابة الكاتبة المغربية ” فاطمة المرنيسي ” في كتابها التي تتحدث فيه عن طفولتها في ” فاس ” مدونة الحياة فترة الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم وراصدة الأحوال الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها مدينة ” فاس ” في تلك الأيام .
 
وعلى الرغم من قيمة إبداعات ” رجاء عالم ” الفنية خاصة عندما تغوص في العالم الرمزي الصوفي بلغة متماسكة تليق بعالم الرمز والتصوف والأسطورة .. فقد نجحت في توثيق جزء من سيرة المجتمع المكي روائياً مبرزة ما يحتوي هذا المجتمع من سكينة وصفاء وروحانية .. ومن هذا المنطلق سنجد أن الكثير من المتحمسين لهذه الكاتبة من كتّاب المكان والعمارة والغائصين في عالم التصوف من شعراء وروائيين وعلى رأسهم مثلاً الروائي ” جمال الغيطاني ” .. ولقد انبهرت كثيراً بلغة تلك الروائية ” رجاء عالم ” مع اعترافي بعدم فهم وهضم وتمثل كثيراً جداً من سطورها بحكم جهلي شبه التام بعالم التصوف وندرة دراستي أو قراءتي له .. لأنه مثل الرياضيات والهندسة معقد جداً ويحتاج إلى ذهن قادر على حل ألاف الأحجيات في زمن قصير .. فلم يعجبني من عالم التصوف شيء سوى رقصات أتباع ” جلال الدين الرومي ” وبعض القصائد الصوفية سهلة الفهم لابن الفارض وابن عربي والحلاج وآخرين لا أذكرهم الآن وبعض المقاطع الحكمية البليغة مثل : ” إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة للنفري ” .
 
عالم الهدوء والصمت والسكينة والتأمل والإبداع بطريقة الشطرنج لا أحبذه فدائماً أبحث عن الصخب والعنف والضجيج والحياة الواقعية التي تمس الإنسان مباشرة .. فتقلبه وتعريه وتخدشه وتدمغه ببصمتها الطازجة التي لا تمحى .. وهذه الأشياء حقيقة وجدتها عند هذه الكاتبة التي نستضيفها الآن ” زينب حفني “ التي عرفتها من خلال شبكة الأنترنيت .. فقرأت لها بعض القصص وبعض المقالات وأخيراً تحصلت على كتابين من كتبها في إحدى مكتبات ” بنغازي ” هما : نساء عند خط الإستواء ( قصص ) وملامح ( رواية ) .. وبعد قراءتي للكتابين وجدت نفسي أمام كاتبة تمارس التمرد على كل شيء بما فيه فعل الكتابة نفسه .. تمس بسن قلمها كل المحظورات في مجتمعها محللة وعارضة ومقترحة .. تعلم القراء الصدق أمام النفس والشجاعة والشفافية مستخدمة في ذلك لغة بسيطة مفهومة خالية من كلمات القواميس المعقدة والمتحفية أو الاشتقاقات ذات الفذلكات اللغوية .. ماسة القراء من وترهم الحساس جداً وهو الجنس .. حيث تستخدمه الكاتبة عقدة أساسية فاقعة أو مضمرة قليلاً في معظم نصوصها خاصة في مجموعتها القصصية ( نساء عند خط الإستواء ) التي تطرح فيها عبر سردها القصير عدة قضايا تعيشها المجتمعات العربية وتخفيها بورقة توت هشة تفضح أكثر مما تستر .. فالكاتبة تتناول في قصصها كرامة المرأة التي تُفهم خطأ عندما يقدم لها الشريك الذي اختارته بمحض إرادتها في نهاية الليلة المال ثمناً لمتعته منها .. تتناول أيضا قضية السحاق والتي تستمر بؤرتها تتقدم لتغطي الكثير من صفحات روايتها ملامح .. تتناول الكتّاب المشهورين من خلال كتاباتهم القيمية وحياتهم في الواقع حيث تكتشف الكاتبة المبتدئة أن قدوتها في عالم الأدب كما كانت تقرؤه هو مجرد إنسان هش يسعى للإيقاع بها ومضاجعتها .. تتناول أيضا قضية الفقهاء والمشعوذين وما يتمتعون به من متع محرمة يتحصلون عليها بواسطة إرهابهم وبخورهم من المريضات .. الروائية ” زينب حفني ” لم تقدم لنا البيئة الحجازية والمكية كما قدمتها لنا ” رجاء عالم ” ملفوفة في أوراق السولفان ومرشوشة بماء الورد ومستورة بستان غامق لامع يؤذي بؤبؤ السبر المتشمم للحقائق .. لقد قدمت لنا زينب البيئة المتخيلة لديها كما هي بالضبط .. قدمت لنا العالم السري التي تعيشه المرأة في الجزيرة العربية .. أحرقت الأستار لنرى الحقيقة كما هي بالضبط .. ولنتعايش ونتعاطف مع حالات إنسانية ليست غريبة عنا .. فما يحدث في الجزيرة العربية من انتهاكات لحقوق المرأة يحدث في كل مكان في الوطن العربي ويتم ذلك بطريقة إرهابية تتخذ من الدين سنداً لها ومن العرف والعادات والتقاليد التي مازالت تؤثر مساند أخرى ولعلّ الشيخ المغربي الذي أفتى منذ شهور بجواز زواج البنت ذات التسع سنوات خير شاهد على ذلك .
 
نساء تحت خط الإستواء كتاب قصصي .. مواضيعه في الجزيرة العربية وبعض البلاد العربية القليلة تُعتبَر من المسكوت عنه .. تميز الكتاب جاء في اختيار بؤر قابلة للتطور .. ولقد شهدنا ذلك في رواية ملامح من خلال عدة شخصيات مثل هند وثريا .. لغة الكتاب جميلة .. غير ركيكة .. والقصص كلها قصص كتبت بطريقة كتابة القصة القصيرة المعروفة .. كتبت لتقرأ وتفهم ويمتص منها العبر أو الإضاءة التي تريدها الكاتبة في نهاية كل نص .
 
كتاب تحت خط الإستواء لم يشبع نهمي في التمتع بقراءة قصة قصيرة جيدة .. والطلب عليه من فئة معينة من القراء وفي أمكنة معينة من هذا الوطن نتيجة ما يناقشه من مواضيع جنسية .. وللأمانة لم تعرض هذه الكاتبة في كتابها أي موضوع جنسي بطريقة الدعارة .. إنما تتكلم عن الجنس كهم إنساني يعيشه كل إنسان من الجنسين .. لن نجد وصفاً لأوضاع جنسية مثلاً .. لكن سنجد مشكلة سببها الجنس أو جنساً سبب في مشكلة .
 
وبالطبع الرقابة في بلادها ستمنع مثل هذه الكتب المتحدثة عن مجتمعاتها بينما لو كان الكتاب نفسه لم تكتبه زينب وكتبته كاتبة لبنانية أو عراقية أو أجنبية فسوف يوزع ولن يمنع بشرط ألا يكون المكان في الكتاب هو وطن الرقابة .. وهذا الأمر كما تصنف زينب حفني في روايتها ملامح .. العهر إلى : عهر سياسي .. عهر اجتماعي .. عهر اقتصادي .. عهر فني .. عهر ثقافي .. نحب أن نسمي منع الرقابة لكتاب يكون كاتبه من نفس وطن الرقابة ( عهر رقابي ) .. ولكي يتأكد القارئ بنفسه عليه أن يزور المكتبات في بلاده ليجد كل الكتب التي بها جنس فاضح وبها كل شيء لكتاب أجانب تزين الأرفف بينما يمنع أي كتاب به كلمة واحدة لكاتب أو كاتبة من نفس بلد الرقابة .
 
تتميز زينب حفني بالشجاعة في الكتابة وما تزال حتى الآن تستفيد من فن القصة القصيرة أثناء تدوينها لكتابتها الروائية خاصة في إنهاء الفصول بإضاءات ذات صدمة وشرارة مبهرة .. في رواية ملامح حدث واحد يتم تداوله بين ثريا وحسين .. مع بعض الشخصيات المكملة .. زاهر ابنهما .. صديقات ثريا .. أسرة عم حسين .. هذا الحدث هو الجنس .. وما يجعله يحدث من أفعال وأسباب وظروف محيطة .. تبدأ الرواية بمشهد طلاق بين الزوجة ثريا وزوجها حسين .. لتبدأ ثريا في سرد حكايتها مع عالم الجنس منذ أن حضرت حفلة لإحدى صديقاتها الغنيات فتتخذ عشيقاً وتخرج معه وتكتشف جسدها وأسراره وتتجسس على ممارسات أمها وأبيها .. ليستمر هذا العالم حتى تختفي شخصية نور من حياتها بالزواج والسفر إلى أمريكا .. لتتزوج فيما بعد ثرياً من حسين الذي اهتدى إليها بواسطة الخاطبة وحيث إنها لديها تطلعات كبيرة في الغنى والعيش في عالم الأغنياء فإنها تقاسي في بداية زواجها من الفقر والتقتير حتى يقوم حسين بالخطوة الثانية والذي يحمل نفس أفكار ثريا في الصعود إلى أعلى بأية طريقة والطريقة التي أوجدتها لنا الروائية في طريقة الوصول إلى القمم المادية هي طريقة الجنس .. أيقونتها الدائمة في كل فكرة أو مشهد أو هم تريد تدوينه .. يقوم حسين بتسهيل اللقاءات بين زوجته ومن يجلبه معه من رجال أعمال .. وكل سهرة مع زوجته تدفع به إلى الأمام أكثر وعندما يصل يقوم بما يقوم به كل دنيء وقذر .. ينفصل عن زوجته التي أوصلته عبر جسدها إلى الغنى ويرسل ابنه الوحيد إلى مدرسة داخلية في الأردن .. ليعود ويجد أمه مطلقة .. يعود متديناً جداً ويلتحق بالمجاهدين في افغانستان .. ثم العراق .. ثم يقضي نحبه جراء قصف أمريكي وتصاب أمه عند سماع الخبر بالشلل النصفي وتتعافى فيما بعد وتعيش وحيدة بقية أيامها حتى تموت بالسكتة القلبية ذات ليلة .
 
تناولت الروائية الأحداث من عدة وجوه .. شخصية ثريا تحكي الأحداث نفسها حسب وجهة نظرها .. شخصية حسين تحكي الأحداث نفسها حسب وجهة نظره مع إضافة كليهما إلى الأحداث التفاصيل الخاصة به وهي حياته قبل التعارف بينهما وبعد الطلاق .. حيث يشق كلاهما طريقه .. حسين يصير رجل أعمال كبيراً في لندن وثريا تصير صاحبة محل ملابس كبير في جدة .. وقد كتبت هذه الرواية بتقنية قريبة من رواية الصخب والعنف لفوكنر ورواية البحث عن وليد مسعود لجبرا ابراهيم جبرا .
 
والملفت للنظر في هذه الرواية هو ممارسة الكاتبة لفعل قتل الشخصيات بإفراط للتخلص من تفاصيل سردية كبيرة تستدعي تدوينها لو ظلت تلك الشخصيات في الحياة .. قتلت أب ثريا وأم ثريا وعم حسين وزوجة عم حسين وأخ حسين صالح بالرضاعة وزوجته التي تكبره سناً وشخصية الابن زاهر وشخصية البطلة ثريا نفسها لتبقي على الرجل فقط .. الرجل الذي دمرها .. وقوّد عليها .. وسلبها إنسانيتها .. تبقيه حياً .. بل تزوجه بإنجليزية شابة .. وتجعله ينجب ولداً جديداً في مناخ الشمال البارد وتسميه زاهراً .

 
هذا إن إفترضنا أن السارد الأساسي في هذه الرواية هي ثريا أو الكاتبة .. أو جان جاك روسو عندما يحوله خيالنا إلى امرأة مقهورة تعيش في الجزيرة العربية .. تدفع بقهرها إلى الورق .. ليشتعل الورق فيضيء قلبها الذي فرض عليه الظلام على الرغم من دقاته الحية المتفجرة بالضوء .
 
رواية ملامح تقدم لنا الكثير من الرؤى في هذه الحياة .. تقدم لنا السعادة المزيفة التي ندفع ثمنها من جسدنا وروحنا .. تقدم لنا صورة واضحة للخطأ الأول الذي يرتكبه الإنسان مانحاً نفسه المبررات التي يصنعها بنفسه ليقنع بها نفسه .. ليتطور هذا الخطأ ويفرخ ثماره التي ستغرقه مستقبلا ًبسمها .. تقدم لنا تفاهة هذه الحياة ما لم نجد لها معنى في نفوسنا .. تقدم لنا المرأة كيف تفكر ؟ والرجل أيضا كيف يفكر ؟ كلاهما يفكر في الجنس .. كلاهما يريد أن يستغل الآخر .. الحب غير موجود .. علاقات مصالح بين جسدين .. الهاجس الذي يشتعل فيهما منذ الصغر .. ليكبر وتكبر معه الهموم .. في الرواية كل شيء يدور حول نواة الجنس .. الخروج من أجل الجنس , جمع المال نتيجة الجنس وبيعه .. السفر من أجل الجنس .. الزواج من أجل الجنس .. الخمر من أجل الجنس .. الهرب من الفقر والتخلص منه بواسطة الجنس .. الأرملة الكبيرة التي تزوجت صالحاً وأنفقت عليه من أجل الجنس على الرغم من حبه الصادق لها .. كل شيء في الرواية الجنس هو محركه فيما عدا شخصية الابن زاهر الذي يتطرف والذي كان من أسباب تطرفه طلاق والديه وعيشه في مدرسة داخلية والطلاق سببه الجنس الذي صعد عليه حسين ليصل والذي تمتعت به ثريا من رجال عدة لأن حسين لا تحبه خاصة بعد أن صار قواداً وحولها إلى عاهرة خمس نجوم .
 
لكن كما قلنا سابقاً هذا الجنس ليس جنس دعارة .. ليس كالجنس الموجود مثلاً في رواية شنغهاي بيبي لوي هوي .. في مشهد مضاجعة بين بطلة الرواية ورجل أعمال ألماني شاب تفوح منه رائحة عطر كلفن كلاين ، يجعل القارئ يثار جنسياً لا إرادياً .. لكنه جنس يولد هموم ويفحصها ويعريها وينظفها ويجعلها ترى وتحس وتقدم معرفة نبيلة للقارئ الذي يكمن في كل شخصية من شخصيات الرواية فيسأل نفسه لماذا فعلت ثريا ذلك ؟ لماذا فعل حسين ذلك ؟ .. لماذا مات زاهر ؟ .. لماذا حدثت كل هذه الأشياء ؟ .. ولماذا ولماذا ولماذا وفي الوقت نفسه يجد القارئ أمامه الكثير من لأن .. لأن .. لأن .. يجد السين كما يجد الجيم .. يجد هذا البعبع الرهيب الجنس في أعتى سطوته وتمرده وعنفوانه ويجده بعد حين ميتاً جافاً .. فالنهود تتحول إلى أوراق جافة والأسنان تذهب إلى الشمس والعجيزة تترهل وتتضخم .. والسوق تمتلئ بالدوالي والأنف يعوج ويرتخي والعيون تضيق وتذبل والشعر يبيض ويتساقط .. سنجد في الرواية الجنس يعيش كما الإنسان بالضبط .. يعيش مراهقته ونضجه وأفوله نحو المغيب .. يسبب المشكلات ويعالجها .. يجري في المضمار الذي لا نشعر به .. يجري في قاتل الجنس اللا مرئي وهو الزمن .. فالزمن كلما يمر إلى الأمام يكمش من حياتنا الجنسية حفنة لذة ويهرب .. سواء قد استهلكنا هذه اللذة أو أدخرناها لأجساد وأرواح تستحق .. في الرواية قتال شرس بين الزمن وبين الجنس .. لكن الروائية تختار لنهاية ملامحها رؤية إيجابية متسامحة تزوج المجرم والقواد من فاتنة إنجليزية وتجعله ينجب لتعوّض عن طريق رحم غير رحمها طفلها الذي وقع في شرك الموت وتجعله يعيش في بيئة هي من وجهة نظرها مثالية وصحية .. بها الجنس مشاع وليس وسيلة مضمونة للصعود كما في وطننا العربي للأسف الشديد .. الكاتبة لا تنشر الرذيلة أو تدعو إليها أو تروّج لها .. إنها تقوم بتفكيك هذه المنظومة السوداء المخجلة التي تجعل هزة من مؤخرة امرأة ترفعك وترقيك وتمنحك قرضاً وسيارة وعملاً وشهادة جامعية ورصيداً مالياً ومنحة خارجية وكل شيء بغض النظر عن كونك مؤهلاً لذلك ولديك كفاءة أو ليس لديك .. بهذه الروايات وحفرها في هذا الواقع القذر ستجعل الجنس وسيلة متعة وتكاثراً وحباً وسلاماً وشفافية وصراحة وليس وسيلة وصولية وإفساد ذمم ونشر رذيلة وأمراض مستعصية وغيرها .
 
سيأتي الوقت الذي سننتهي من الحياة وسط هذه المشكلة التي تؤرق الكبير والصغير في مجتمعاتنا .. ولنكن صادقين ثلاثة أرباع تفكيرنا تذهب في الجنس وما يجلبه من مشكلات .. أتحصل على المال من أجل أن أمارس الجنس .. أريد بيتاً وبه دار نوم من أجل الجنس .. أتزوج من أجل الجنس .. أعمل من أجل الجنس .. ألبس من أجل الجنس .. أذهب للمزين أو الحلاق من أجل الجنس .. أمارس الرياضة من أجل الجنس .. أقرأ وأكتب من أجل الجنس .. أطلق من أجل الجنس .. النقود التي تصرف في الوطن العربي على الجنس والوقت المهدور في التفكير فيه والحصول عليه لو تم إنفاقهما في البحث العلمي لوصلنا إلى المريخ .
 
رواية ملامح ، أعجبني ما فيها من ضجيج وصخب وشخصيات كثيرة تنتهي معظمها إلى الموت وما تعرضه علينا من حياة متخيلة مليئة بالمفارقات وبعلم النفس الفرويدي تعكس ما يعيشه المجتمع السّري في الجزيرة العربية الذي هو شبيه بدرجة كبيرة ببلدان الشرق الأوسط والمغرب العربي .. حيث نشترك مع هذا المجتمع في اللغة والدين والقومية والحرمان والفساد الضارب أطنابه في كثير من مؤسسات المجتمع الحيوية .
 
الجنس في الرواية جنس يحركه العقل .. ليس به صور تحمل دلالات كما يفعل ميلان كونديرا فيبني على كل وضع جنسي حدثاً إيدلوجياً معبراً عن شخصيتي الملتحمين وزمنهما ومكانهما .. الجنس في رواية ملامح تحركه الحرية .. إنسان سجين يريد أن يخرج إلى النور .. كبت يرغب في التنفيس .. المرأة تبحث عن سعادتها في رجل تحبه ولا تجده إلا في خيالها والرجل كذلك .. التفاهم والتوافق يأتي عن طريق الصدفة .. كما حدث مع والدي ثريا .. المرأة تبحث عن كرامتها وعندما تجدها يحاول الرجل أن يغتصبها منها .. ليبيعها .. فبيع الكرامة يجعله بطلاً .. يجعله تاجراً كبيراً غنياً .. والكرامة مطلوبة جدا في سوق القيم .. سلم واستلم السلّم وأصعد على مهل من دون خوف من السقوط .. فلا رياح ولا زلازل تقترب من سلالم الوصولية المصنوعة من الحديد والنار .
 
الرواية تبدأ بطلاق ، بالتخلص من قوة الرجل وسيطرته وتبعيته .. تستدعي في إحدى مراحلها حبها الأول فؤاد فيمنحها اللذة لكن لا يمنحها السعادة .. يفكر بعقله ولا يفكر بذكره .. تستمر العلاقة وترضى بأن تكون عشيقة حتى تفقد أنوثتها وتكبر في السن فيأتي ليخبرها بأنه سيتوقف عن اللقاء بها .. قال لها : ” لقد صرت جداً الآن ” .. تبكي ثم تنسى .
 
الرواية بشكل عام غير محكمة .. مملوءة بالثقوب .. وهذا الأمر جيد وإيجابي لرواية ملامح التي تعرض لنا نساء مثقوبات و رجالاً مثقوبين بالشقاء .. تعرض لنا ملامح مريضة من مجتمع نخره النفاق والكذب والزيف والإدعاء والحرمان والجبن .. ولقد نجحت الرواية في تصوير هذه الحياة المؤلمة التى عاشتها الشخصيات على الورق .. متتبعة بذرتها الأصل التي نبتت منها وعارضة الظروف المحيطة التي صاحبت حياوات الشخصيات .. الكاتبة كتبت لنا واقعية قذرة يعيشها إنسان اليوم كما عاشها إنسان الأمس وبالطبع لن يعيشها إنسان الغد الذي في طريقه إلى حل مشكلة الجنس وكل مشكلة آخرى مسكوت عنها .. فثورة الاتصالات الحالية ستجعل التقارب بين الجنسين أكثر .. وكل تقارب سيؤدي إلى مزيد من الفهم والتفاهم والتعلم والثقافة والحياة المريحة المشبعة مادياً ومعنوياً .. وبالحوار الشفاف الصريح الشجاع سنهدم الكثير من الظلام وسنخلص لذتنا المقدسة من أمراضها ونفوسنا من وساوسها وأرواحنا من ضبابها الكثيف الذي نفخه عليها فوه الزمن وكما تقول زينب في صفحة 103 من روايتها ملامح : ” خذ من التل يختل ” وها هي قد أخذت من التل وقربنت نفسها على محراب الفن في سبيل أن تضيء شمعة .. شمعة كلما ذابت ارتفع نورها ليشمل مساحات أوسع وأبعد .. شمعة تقتات على الظلام وما أكثره حولنا .