سيقان ملتوية

سيقان ملتوية

سيقان ملتوية
الفصل الثاني
2

 
انزلقتُ من بطن أمي في مستشفى ويلينجتون Wellington Hospital الساعة الواحدة من صباح السنة الميلادية الجديدة ، والناس ملهيون بطي عام واستقبال عام . كانت ندف الثلج تُعانق بشبق سطح الأرض لحظة خروجي من رحمها ، وهو ما أدَّى إلى تعلقي بهذه الكتل البلورية ، وحـمّست أبي في صغري ، على مداومة اصطحابي للمناطق المكتسية بأغطية ثلجية ، فأتمرّغ فيها مبتهجة .
 
يعود لي الفضل الأول في إضفاء لقب أب وأم على والديَّ . بصفتي الابنة الكبرى أتاح لي ذلك ممارسة سلطتي الأخوية على مشاعل والعنود اللتين تصغرانني . ورث ثلاثتنا عن أبينا الأنف البارز مع استواء الأرنبة ، والعيون الدعجاء المكحلة الجفون ، وإن كنتُ اختلف عنهما في لون فصي عينيَّ المائلين للرمادي ، وشفتي الممتلئتين . أخبرتني أمي وهي تبتسم أنها توحّمت على الخادمة الأفريقية التي كانت تأتي ثلاث مرات في الأسبوع لتنظيف منزلنا . كنا نتأهب لوداع 2005 ، صديقتي ربييكا Rebecca وخطيبها جورج George قررا الاحتفاء بعيد ميلادي الثاني والعشرين في مرقص Tantra and Strawberry moon الواقع بشارع ريجنت Regent St . هذا المكان يرتبط بذكرى جميلة عند ربييكا ، فيه التقت بجورج للمرة الأولى ، لفتت انتباهه لحظة دخولها مع مجموعة من صديقاتها . أعجبته طريقة رقصها ، بهرته ابتسامتها التي تُومض بثغر لؤلئي ، وغمازتين مغروستين مناصفة على كلا الخدين . جذبته جلستها التي تبيّن خلفيتها الارستقراطية . اتجه بلا وعي صوبها ، وقف قبالتها مأخوذا ، دعاها للرقص معه ، تفرّسته بعينيها ، جسّت من مقعدها نبض نظراته، أعجبها الهدوء المسترخي في بلاطة عينيه ، مدت يدها ، أطبق عليها بقوة ، من لحظتها لم يفترقا ، عرّفته بوالديها ، رحبا به كزوج مناسب لابنتهما . كان والده يشغل مركزا دبلوماسيّا مرموقا في السفارة البريطانية بمدريد ، قبل أن يتقاعد منذ عدة سنوات ، وهو ما أتاح المجال أمام جورج للعمل بمجال الترجمة في في واحدة من وكالات الأنباء العالمية لإجادته اللغة الاسبانية تحدّثا وكتابة . أخبرتني ربييكا أن جورج سيُحضر معه صديق مقرّب له يُدعى زياد ، من أصل فلسطيني ، يحمل الجنسية الإنجليزية ، يعمل مع جورج في الوكالة نفسها ، عملهما المشترك ساهم في توطيد أواصر صداقتهما .
 

كان المكان مزدحما بفتيان وفتيات في مقتبل العمر ، صوت الموسيقى العالي ، أعجز كلينا عن تبادل أطراف الكلام . حاول بأمانة فرض وجوده , كياسته ، خفة ظله ، قشعا بسهولة ستار الكلفة . دنا مني ، سألني ببساطة إن كنتُ راغبة في مشاركته الرقص!! تسرّبت رائحة أنفاسه إلى خياشيمي ، لم يمهلني ، سحبني من يدي مخترقا الحلبة بجذعه العلوي . راقني تصرفه ، اندمجت مع اغنية Baby one more time لمطربة البوب ((بريتني سبيرز))Britney Spears . قرّب فمه من حلمة أذني ((هل تعجبك أغاني سبيرز؟!)) . أومأت بالإيجاب . رد مبتسما ((تروق لي شطحاتها)) . مع حلول الدقيقة الأخيرة من الثانية عشرة بعد منتصف الليل ، عمّت الظلمة المكان ، طبع على خدي قبلتين خاطفتين قائلا ((كل عام وأنت بخير مرتين)) . أحسست بملمس شفتيه ، مسّت رطوبتهما شغاف قلبي ، خدر لذيذ سرى في عروقي . عاد الضوء ثانية للمكان ، تبخّرت نشوتي الخاطفة رجعنا لمقعدينا ، لاحظتُ ابتسامة مشرقة تطفو على وجه ربييكا ، بادلتها الابتسامة .

 
وأنا أودعه سحب هاتفي الخلوي من حقيبتي قائلا ((هل تسمحين لي؟!)) سجّل رقم هاتفه الخلوي ، متابعا بحسه الدعابي ((زيادة في التأكيد حتّى لاتنسي لقاءنا بمجرد أن تفيقي صباحا من هذه الامسية الصاخبة)) .

 

﴿﴾

 

زياد فنان بارع ، في نحت الأجساد والوجوه وعمل المجسمات الجمالية ، المصنوعة من خامات مختلفة ، كالطين والصلصال والخشب والبرونز الأسمر القاتم . كانت منحوتاته تأخذ حيزا كبيرا من أحاديثنا الهاتفية . دعاني لزيارة مرسمه بعد انقضاء أسبوع على تعارفنا ، قائلا بمرح ((أعدك بأنني لن ألتهم منك قطعة!!))
 

كان المرسم يقع في جنوب كينزنكتون Kensington south ، في منزل مكوّن من طابقين ، قام زياد مع اثنين من زملائه باستئجار الطابق الأرضي ، زميله الأول فنان برازيلي الجنسية ، والثاني تركي متخصص في فن النحت Sculpture ، كلاهما كانا في السنة النهائية بكلية تشيلسي للفنون Chelsea College Arts . اعتاد زياد بيع مجسماته للمحلات المتخصصة ، فكانت تُدرُّ عليه دخلا طيبا ، خاصة الميداليات التذكارية المصنوعة من الخشب والبرونز ، إضافة إلى عمله في مجال الترجمة . لاحظتُ أن حجرة زياد تعمها الفوضى ، في إحدى الزوايا كانت تقبع بعض من الحوامل المعدنية ، وقطع من المجسمات الصغيرة ، إضافة إلى رأس خشبي لامرأة خمسينية متهالكة الملامح ، وبجانبه رأس من البرونز لامرأة في العمر نفسه تقريبا تُعطي الانطباع نفسه ، لو دقق الناظر في تقاسيم كل منهما على حدة ، سيكتشف أنها تعود لامرأة واحدة .
 

((من هذه المرأة؟)) سألته بفضول .
 
تغيّرت سحنة وجهه ((هي لأمي . ماتت العام الفائت بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان . قصدت تخليدها قبل أن ترحل عني)) .
 
((آسفة . لم أقصد تحريك أحزانك)) .
 
هز كتفيه (( لا عليك، في داخل كل منّا كتل من الانكسارات . أحيانا نفلح في جز بعضها من أرضية حياتنا ، وأحيانا أخرى تعجز سواعدنا عن بتر أي منها ، فنضطر إلى الوقوف عند قارعة الطريق على أمل العثور على متطوّع مفتول العضلات ، ليقوم نيابة عنا بهذا العمل التطوعي!!)) .
 

قبض زياد بعفوية على كفي ، طاف بي غرف المرسم ، أطلعني على أعمال رفيقيه ، لاحظتُ خشونة في باطن يده ، أرجعتها إلى انغماسه في أعمال النحت الشاقة .
 

كانت أضواء المرقص ليلة رأس السنة خافتة ، جعلتني شبه عاجزة عن تصيّد ملامحه ، أجلتُ فيه بصري بجرأة ، كان في حوالي الثلاثين ، مربوع القامة ، قمحي البشرة ، حليق الشارب واللحية ، يميل شعره إلى الكستنائي ، ظريف الهيئة ، يملك رجولة حاضرة على الدوام ، أسبل العينين ، يقفز من فصيهما العسليتين فحولة مشتعلة . لاحظ استغراقي في تفحّص هيئته ، ابتسم (( هل تقبلين دعوتي للغداء؟!)) وافقت بلا تردد .

 
لا أجيد لغة الاكتشاف ، ولا أعرف طريقة حل الكلمات المتقاطعة ، لكني استعطتُ بيسر حل شفرة شخصية زياد ، تجاذبت أرواحنا منذ الوهلة الأولى . تعاهدنا قبل انعقاد جلسة المصارحة المرادفة للحب ، ومن دون أن يبوح أحدنا بخلجات نفسه ، أن يُطوّع كل منا ميوله للآخر ، لحظة أن أخبرته بسر عشقي الطفولي ، سحبني من يدي ، تاركين قهوتنا الساخنة التي لم تزل أدخنتها تخرج من جوفها ، تبرد بمفردها على طاولة المقهى . سألته ((إلى أين؟!)) . وضع سبابته على فمي ((لكي تُطارحي عشيقك الغرام!!)) . عقدتُ حاجبي عجبا ، طوال الطريق أخذتُ أقلّب عبارته في فكري ، فهمت مقصده عندما وصلنا إلى بايس ووترBayswater ، أمضينا بعض الوقت في التزلج في Ice Rank .
 

ألفه قلوبنا سارعت في تلاحم تواصلنا ، في خلال أشهر قليلة غدت لقاءاتنا أكثر دفئا ، أحس بنشوة لذيذة تغمرني كلما دغدغ بكفه بلاطة ظهري ، أو داعبت أنامله بعفوية خصلات شعري . عندما يلمُّ جسدي بين ذراعيه ، ألفي أنوثتي البكر تتفتّح أوراقها ، تتخلى عن حذرها ، تخرج من مكمنها ، تاركة نهرها العذب ينساب بدلال في مجرى أرضه . لم تكن لي تجارب عاطفية عميقة ، كلها لقطات عابرة وقعت مع بداية تشكّل مراهقتي ، أضحك بيني وبين نفسي ، أسخر من سذاجتي ، كلما مرّت في خاطري مشاهدها ، كيف كنتُ أبكي حين يجلس صديقي بيتر Peter بجانب زميلة أخرى ، فأتحاشى التحدّث معه في اليوم التالي عقابا له على تجاهله لي . كيف كنتُ أحثُ زميلاتي على عمل مقالب ضده . شقاوة لذيذة لم يتبقّ منها سوى صورة فوتوغرافيّة أحتفظ بها في خزانتي ، أقلبها بين آونة وأخرى ، حين يشدني الحنين لمشاكسة طفولتي ، لم أدرس في أكاديمية الملك فهد ، آثر والدي تعليمنا في مدارس انجليزية ، وهو ما جعلني ذلك الزمن ، أملك رصيدا كبيرا من الأصدقاء والصديقات من جنسيات مختلفة ، استقل أغلبيتهم قطار الأيام ، فقادهم إلى مدن أجهلها ، ولم أهتم بدوري في تعقب خط سيره . كان حُلم والدي أن أدرس المحاماة في جامعة ((أكسفورد)) أو جامعة (( كمبريدج)) ، فضلّت الدراسة في جامعة ويستمنيستر Westminster ، تخصصتُ في علوم حاسب آلي Computer Science . في سنتي الأولى بالجامعة جرّبت ما يقولون عنه طعم الحب الأول ، أحس بحلاوة مذاقه كلما لامست ذكراه طرف لساني . كان شابا عراقيّا في مثل عمري تقريبا ، وإن كان نضج تفكيره أثار شكوك الغرباء حول صحة شهادة ميلاده!! كان زميلي في الكلية ، حرّك فضولي ، وجهه المخروط ، عيناه الغائرتان الطافحتان بالمرارة ، لم يستطع بؤبؤاها الأخضران مدارة أوجاعهما . جاء عادل مع أهله إلى بريطانيا كلاجئين سياسيين ، وهو طفل لم يتجاوز الثامنة . سألته مرة ((هل ما زالت العراق تعبث بذاكرتك؟!)) . أجاب بنبرة موجوعة (( أنا لا أعرف بغداد . ولا أتذكّر نكهة نهري دجلة والفرات ، اللذين شربت في طفولتي من مائهما ، لكنني أسمع هديرهما في أبيات الجواهري ، وأنصت لزقزقة عصافيرهما في أشعار السيّاب ، وأحس بجريان الدم في عروقي عندما يغنّي كاظم الساهر للعراق ((.. عيناها بيتي وسريري ووسادة رأسي أضلعها ، تمحو كل هموم حياتي لو مسّ جبيني إصبعها ، ضميني يا أحلى امرأة لو صمتت قلبي يسمعها .. بغداد .. وهل خلق الله مثلك في الدنيا أجمعها ..)) . آه يا سارة .. كل العراق مسكونة في مغارة طفولتي مثل مدن الأشباح التي كنّا نتخيلها في صغرنا .
 
في مرة ونحن جالسان في واحدة من المقاهي ، سرح بعينيه بعيدا ، هيمن الأسى على نبرة صوته ((ألا تحنين إلى وطنك؟! ألا تشعرين بالرغبة في ضمه بين أحضانك؟!))
 
((بل أحس أنني مقيدة بأغلال غليظة ، كلما غاصت ساقاي في بلدي . أشعر بوجوه مشوهة المعالم تُلاحقني في كل شارع أمشي فيه ، وعند كل منعطف أقف عنده . يُحسسني مناخه أنني جارية .. أَمة مستعبدة!!)) .
 

((هل الأوطان تخلق الاستعباد!! سامحك الله)) .

 
استمرت علاقتي بعادل سنتين ، كنّا أثناءها نُهدهد غرائزنا التي لم تزل في بداية تفتقها ، نستبيح لأنفسنا تذوقها بحذر على حشائش الهايد بارك ، أو عندما تلفنا الظلمة في قاعات السينما . استبقينا منطقة عازلة بيننا ، لم يُفكّر أحدنا في اختراقها ، أو العبث بمحتوياتها ، مع هذا إن أعود إلى البيت بعد لقائه ، وأصطدم بالشعاع الحاني الممزوج بالجزع والقلق ، المنبثق من عيون والديَّ على غيابي ، حتّى أحس بأنني اقترفتُ ذنبا هائلا تجاهلهما ، ويُقرّعني ضميري ، فأقبلهما وريق فمي يطلب منهما الغفران ، أهرع بعدها مسرعة إلى غرفتي وأدسّ جسدي المندّى بعرق عادل تحت اللحاف .
 

وزّع عدد من طلبة الجامعة منشورا ، يحث على الانضمام للمسيرة التي ستنطلق احتجاجا على اجتياح القوات الأمريكية للعراق . سألته إن كان يرغب في المشاركة!! أشاح بوجهه عني ومضى ، عاد في اليوم التالي مبديا أسفه على غلظة تصرفه((لا تغضبي مني يا سارة . أنا مع تحرير الأوطان من طغاتها ، مهما كانت الوسائل سيئة السمعة!! فكيف إذا كانت تمس مصير بلادي!!)) .
 

رقص عادل ((الدبكة)) العراقية عندما أعلنت القوات الأمريكية انتصارها على الجيش العراقي ودخولها أرض العراق .
تراقصت ملامحه فرحا وهو يُتابع مشهد سقوط نصب صدام حسين على شاشة التلفاز . راقب بتشفٍّ ، الحشود الهائلة التي تجمّعت لضرب قطع تمثاله المتناثرة بنعالهم. فاجأني بقرار السفر إلى هناك ، قائلا بنبرة يشع منها التفاؤل ، وصوت غامر بالسعادة ((أريد أن أرى بغداد ، أبلل قدميَّ الجافتين في نهري دجلة والفرات)) . رحل دون أن يُخبر أهله ، كان الحنين يُسيطر على جوارحه ، الشوق إلى أرضه يملأ دواخله ، قال لي وهو يودعني وبوارج الفرحة تُبحر في شواطئ عينيه ((لن أتأخر . أريد أن أحفر بغداد في ذاكرتي كواقع . أن أحبّر الصورة الباهتة المطبوعة في خيال طفل لم يزره وطنه إلا في أحلامه . أوطاننا لها حقوق علينا . تذكري هذا جيدا يا سارة)) .
 

سافر عادل ولم يعد ، قُتل بعد أيام قليلة من وصوله ، في واحدة من الانفجارات اليومية ، التي تتكرر يوميا مخلفة آلاف الضحايا . سمعتُ من أصدقائه أن جسده تمزّق أشلاء ، وهو يدندن أغنية كاظم الساهر . شاء حظه العاثر أن يمر في طريق زُرعت فيه سيارة مفخخة . راح عادل ضحية عشقه المستحيل ، لوطن ناداه ليتعرّف إليه عن كثب فلبّى نداءه . قُتل دون أن يعرف لماذا!! ودون أن يكتشف جنسية قاتليه!! سألته مرة عن مذهبه ، وإلى أي طائفة ينتمي !! أجابني بعصبية ((أنا عراقي . أتعرفين ماذا تعني هويتي!! أنا من منبع الحضارة . أنا لا أتعصّب لمذهب ، ولا أمثّل طائفة معينة حين يرتبط الأمر بمواطنتي . أنا أعذرك فأنت لم تقرئي تاريخ العراق جيدا ، ولا تعرفين شيئا عن عظمة هذا البلد!!)) .
 

شدني يومها من يدي قائلاً ((سأريك حضارة أجدادي)) . أخذني إلى المتحف البريطاني ، Museum British ، قادني إلى القسم الخاص بالحضارة الأشورية . كان يشرح لي تاريخ كل قطعة معروضة ، كأنه خبير آثار . يتحدّث ولمعة الاعتزاز ، وبريق الفخر ، يُضيئان أرضية عينيه .
 

لا أدري كيف أصنّف علاقتي بعادل!! هل كانت علاقة عابرة من تلك التي نستخدمها ، كأداة لاستكشاف أرضية مشاعرنا لحظة تفتّح براعمها!! أم بداية لهوى صارخ ، لم يمهله القدر ليُصبح رمزا في حياتي؟! ما زلتُ أتذكّر عبارته التي كان يرددها أمامي دائما ((الإنسان يا سارة يتعلّق بمن يسكب رحيق الوطن في ريقه ، وبمن يغرس في محجري عينيه نبتة هويته)) . ما زلتُ أجهل مغزى كلماته ، وهو لم يعد حيّا لأطلب منه تفسير مضمونها!!
 

﴿﴾

اعتدنا أنا وزياد التسكّع في منطقة البيكاديللي Piccadilly ، وعلى الأخص ميدان ليسترLecister Square ، وارتياد دور السينما لمشاهدة الأفلام فور نزولها . يستهويني طوال فترة العرض ، ترك كفي مسترخية في باطن كفه ، إسناد رأسي على كتفه ، أحب الاستكانة فيه ، تزكم أنفاسي رائحة رجولته الشامخة ، تروق لي لهجته الفلسطينية . عندما نكون لوحدنا لا يخاطبني إلا بها ، سألته مرة ((كيف تمكنتَ من إتقان مخارج حروفها؟! كثير من الناس الذين يولدون في الغرب ، يفقدون لسانهم العربي!!))
 

((أنتِ كذلك ولدتِ في بريطانيا ، مع هذا تتحدثين بلهجة سعودية متقنة ، مثل التي أسمعها في قنواتكم التليفزيونية)) .
 

(( أبي وأمي لا يتحدّثان معنا داخل البيت إلا بها)) .
 

((لا أخفي عك سرّا إن قلت لك بأنني بدأت أفقد حماستي للهجتي ، وأنني متمسك بها لأريح والديَّ في قبرهما . لم أعد أصدّق أن هناك وطناً اسمه فلسطين كان له وجود على خريطة العالم العربي . كنتُ حتّى الأمس القريب كلما وقع نظري على أبي وأمي ، قبل أن يختارهما الله لجواره تباعا في سنة واحدة ، أتوه في بيداء فكري ، وينفطر قلبي ألما عليهما وأنا ألمح بصيص الأمل يُضيء روحيهما عند كل بادرة سلام يتم الإعلان عنها . يُداهمني إحساس قاس بأنهما يُجدّفان بمجدافين قديمين ، وقارب متهالك سيهوي إلى القاع في أي لحظة!! وقتها كان ينتابني خوف شديد عليهما ، من أن يطول أمد انتظارهما وتُصبح الغربة كفنا لهما!! قالت لي أمي قبل أن تموت وعيناها مُعلقتان في الفراغ ((أوصيك بفلسطين)) . وأعطاني أبي كل ما خلّفه وراءه هناك ، من عقود تُثبت أنني وريثه الوحيد ، راجياً أن لا أفرّط في حقي . تُذكّرني وصيتهما بقصيدة جميلة للشاعر محمود درويش ، اسمها رسالة من المنفى ، يقول في مقاطع منها .. ماذا جنينا نحنُ يا أماه؟ حتّى نموتَ مرتين .. فمرة نموتُ في الحياة .. ومرة نموتُ عند الموت! هل تعلمينَ ما الذي يملأني بكاءً؟ هبي مرضتُ ليلةً .. وهدَّ جسمي الداء! هل يذكر المساء .. مهاجراً أتى هنا .. ولم يعد إلى الوطن؟ هل يذكر المساء .. مهاجراً مات بلا كفن؟)) .

 
((لا أدري ماذا أقول !! لكنني أسمع أبي يُردد دوما وهو يُلاحق بعينيه نشرات الأخبار ، أن الأوطان مهما طال أمد احتلالها لابد أن تعود يوما لأهلها)) .
 

((حُلم إبليس في الجنة!! ثم من قال لك بأنني أحلم بالعودة!! أنا أؤمن بأن الإنسان لا تعلق في ذاكرته، إلا الأشياء التي تنطبع مشاهدها في لوحة عينيه . أنا لم أرَ فلسطين ولا أعرف شيئا عنها!! حلمي أن أعيش مثل بقية خلق الله)) . تبدّلت نبرة صوته ((أنتِ لم تعيشي في بلدك . بل لم تلدك أمك هناك . هل تتخيلين نفسك تُقيمين في السعودية ، وتلبسين العباءة باسم الدين؟! أشك في هذا!!))
 
((لم أعش هذه التجربة بسائر أبعادها!! كل ما أعرفه تكوّن عندي من خلال لقطات سريعة عند زيارتي الصيفية لأهلنا في السعودية . لكن أحيانا يغفو حب في قلوبنا ، إلى أن تقع زوابع وعواصف تُهدد وجوده ، ويتسلل لأعماقنا شعور غامض بأن هناك من يفكر بنزعه من أيدينا ، لحظتها قد نهبُّ بحماسة لنجدته . أتعرف لماذا؟! لأنه يشكّل هويتنا ، يمنحنا قيمة إنسانية وسط شعوب العالم)) .
 
((هل قرأت رواية ((بيوغرافيا الجوع))؟!تقول مؤلفتها آميلي نوثومب عن وطنها ((من بين جميع البلدان التي عشتُ فيها ، كانت بلجيكا هي البلد الذي فهمته أقل من سواه..)) ))
 

((هل تقصد أن وطنها بلجيكا لم تشعر بانتمائها له!! عموما لن أصدّع رأسي بالمجهول!! سأترك الأيام تحل لي الألغاز المستعصية علي)) .
 

(( إياكِ والأيام . أتدرينَ ماذا أوصاني أبي قبل وفاته؟! قال لي .. لا تُصبح أحمقَ مثلي .. حلَّ لغز حياتك مبكرا.. في شبابي لم أسعَ لمعرفة ذاتي إلا بعد أن ألفيتُ نفسي مزويّا عند سفح جبل خالٍ من العشب الأخضر!! كانت قد أنهكتني الضربات ، وهدّتني الصدمات ، وسلبتني الشيخوخة عافيتي .. لحظتها يا بني رفعت عينيَّ إلى لأعلى ونظرت بحزن إلى موقعي .. تحسّرتُ على مدى غبائي في بعثرة أيامي هباء .. قلت لنفسي .. هل كنتُ بحاجة لإضاعة عمري لأكتشف معنى حياتي!!))
 

((لا أظنّك استمعتَ لنصيحة أبيك . في عمرنا هذا لا نلتفت لحكم العجائز!!)) أجبته ضاحكة .
 
تفحّصني بنظراته ، علّق مبتسما (( أتعرفين يا سارة . هناك قوة خفية تجذبنا لبعضنا ، لم أضع يديَّ عليها بعد ، لكن مؤكد أن الأيام ستقشع لكلينا خباياها)) .

 
((أرأيت!! حتّى أنت بالرغم من تحذيرات أبيك تركن أحيانا لمنطق الحياة)) .
 

﴿﴾

يُقيم زياد في شقة صغيرة ورثها عن والده ، كانت ثمن غربته الطويلة ، تقع بالقرب من مرسمه ، يفصله عنها شارع واحد ، تمتلكني الدهشة وأنا أخطو بقدميَّ داخل الشقة ، شعرتُ بأنني أطير على بساط ريح ليحطّ بي في فلسطين التي لم تقع عليها عيناي قط ، ولا أعرفها إلا من خلال منهج التاريخ الذي درسته في المدرسة ، ومن الصور المشوشة التي تعرضها شاشة التلفاز . حرص زياد على ترك كل شيء على حاله بعد رحيل والديه ، كل ركن يؤكد هوية ساكنيه ، تتوسط صالته الصغيرة لوحة معلقة على الحائط ، مصنوعة من القماش وقد نُسجت بخيوط متعددة الألوان للمسجد الأقصى ، قال لي زياد وهو يشير إليها ((صنعتها أمي بيديها على مدار سنتين من ذاكرتها البعيدة ، يوم اصطحبها أبوها لزيارة القدس ، والصلاة في المسجد الأقصى قبل أن تُنهي أعوامها السبعة . كانت تُردد أمامي بأن أصعب لحظة في حياة الإنسان ، حين يترك خلفه الأرض التي ولد وترعرع فيها ، يظل يُجاهد بإخلاص ليتخلّص من خوفه الطاغي الذي يُوحي له على الدوام ، أنه لن يلتقي ثانية بمعشوقته الأولى)) . لفتت انتباهي صورة لرجل بزيه الفلسطيني وبيده بندقية ، وتحتها كُتبت أبيات قليلة لمحمود درويش ((يا صديقي! لن يصب النيل في الفولغا ، ولا الكونغو ، ولا الأردن ، في نهر الفرات! كل نهر ، وله نبع .. ومجرى .. وحياة! يا صديقي! أرضنا ليست بعاقر .. كل أرض ، ولها ميلادها .. كل فجر ، وله موعد ثائر!)) . قال لي وأنا أتأمل الصورة ((إنها صورة جدي في حرب 1948م . حكى لي أبي الكثير عنه . كان بطلا ، تطوّع في جيش الوطنيين غير النظامي الذي تكوّن دفاعا عن فلسطين . قاتل ببسالة حتّى استشهد)) .
 

((هل تعتبره مثلك الأعلى؟!))
 
((أحيانا أحس بالفخر كوني حفيد هذا الرجل الذي قدّم نفسه قربانا لوطنه . لكنني كما قلتُ لك سابقا ، أحس بأنه لا جدوى من هذه المحاولات اليائسة لاسترداد وطن أصبح في خبر كان . أجد نفسي أقف أمام صورة جدي أقرّعه ناعتا إياه بالغبي ، لأنه فقد حياته من أجل شعارات جوفاء!! جعل نفسه كبش فداء!! التضحيات يجب أن يكون لها مردود فعلي على الأرض وإلا فالاستغناء عنها أضمن . بكل صراحة أنا لا أفكر يوما في حمل بندقية على كتفي لأحارب بها اليهود . لقد أصبحوا واقعا مفروضا شئنا أم أبينا ، فلماذا أزيد رقما خاسرا لآلاف مؤلفة راحت ضحية أوهامها!!)) .
 

((ألهذا قرر أهلك تحديد النسل في ابن واحد؟!))
 
((أهلي كانوا عقلاء . المعتوهون وحدهم من جعلوا مهمتهم محصورة في تفريخ أطفال ، يستخدمونهم كأدوات لتخليص وطنهم من حبل المشنقة . بلد تمّت كتابة نعيه منذ ما يقرب من ستة عقود!!)) . لمعت عيناه ببريق أخّاذ ، أمسك يدي متابعا ((دعينا من هذا الحديث الذي يبعث على الكآبة)) . قادني إلى غرفة نومه ، كانت الغرفة الوحيدة التي تشذُّ عن طراز البيت المصبوغ بالصبغة الفلسطينية ، معتدلة المساحة ، حيطانها الأربعة تعجُّ بصور لفنانين وفنانات ، عرب وغربيين ، يتوسطها سرير فردي من الطراز الحديث ، وبجانبه مكتب صغير وضع عليه جهاز كمبيوتر وقد تناثرت عليه عدد من المجلات العربية والأجنبية . جلس زياد أمام الشاشة ، حرّك الفأرة ، أراني صور كثيرة لرحلات قام بها في أنحاء أوروبا ، معظمها أخذها في أماكن أثرية ومعارض تشكيلية تُظهر مقدار عشقه لعالم الفنون . كشف لي عن حلمه في زيارة روما ، رؤية متاحفها ، الاطلاع على منحوتات فنانيها العظام ، رأيته يتأملني من جانب وجهي ، ألقى عليَّ سؤالا لم يرُقني ، قاله ببساطة لا مكر فيه ((سارة . هل تعرّيت يوما أمام رجل؟!)) . طفح الدم في وجهي . تابع كلامه ((أكره أن ألمس في ردك شيئاً من التصنّع الأنثوي!! دعينا نقرأ صفحات بعضنا دون أن يتعمّد أحدنا إخفاء بعض سطورها عن عيني الآخر . أتدرين!! لقد انتهكت بكارتي امرأة أنا لم أتجاوز الخامسة عشرة)) .
 

((وهل الرجل تُنتهك بكارته؟!))
 
قلتُ بنبرة متهكمة :
 
((لماذا تعتقد المرأة بأن الرجل من السهل أن يستبيح نفسه!! الرجل يضنُّ أيضا بجسده ولا يُقدمه لكل عابرة سبيل تهزُّ له ردفيها!! نعم لقد نهبت مراهقتي امرأة)) .
 
((احكِ لي قصتك معها)) قلتُ عبارتي بتلهّف .
 
افترشنا الأرض بجسدينا ، بدأ يحكي وأنفاسه الدافئة تُناكف أرنبة أنفي ((احتملت عندما كنتُ في سن الرابعة عشرة من عمري ، بداخلي مخزون ضخم من الرغبات ، تنفلتُ دون قصد مني كلما تطلعت لمؤخرة فتاة تسير ببنطالها الضيق أمامي ، أو عندما أتصفّح مجلات ((البلاي بوي)) . سكنت بجانبنا امرأة فتّانة المحاسن ، هيفاء القوام ، صبّ فيها الله أنوثة طاغية ، من أصول برازيلية ، تزوجت بإنجليزي عجوز ، متخم الثراء ، لم تعبأ بقدميه الواقفتين عند حافة الموت ، كانت تُخطط للبعيد ، ترملّت بعد رحلة زوجية قصيرة . كنتُ أذهب إليها في عطلتي الأسبوعية لترتيب ملفاتها الخاصة ، حيثُ كانت تدير أعمالاً تسويقية من منزلها . ذلك اليوم ارتدت ((تنّورة)) بالكاد تحجب سروالها الداخلي ، وقميصا علوياً بحمالتين رفيعتين ، أظهرا حلاوة نهديها النافرين . طافت ابتسامة ماكرة على وجهها وهي تراني انتفض أمامها وقد تفصّد جبيني عرقا ، وشحمة ذكورتي تقفز من تحت بنطالي ، دون أن أملك حيلة لإيقاف شيطنتها . شدتني لحظتها من ياقة قميصي قائلة بغنج ((أنت محظوظ . ليس كل فتى في عمرك ، تسنحُ له الفرصة لأخذ دروس مجانية في العشق)) . كانت ينبوعا متدفقا من الرغبة المتوحشة التي لا تعرف الشبع ، انبهرت بأرضها الخصبة ، جموحها زادني اندفاعا لإرواء همجية فحولتي . انتهت علاقتي بهذه المرأة بعد انتقالنا إلى منطقة أخرى قريبة من عمل والدي . سقطت صورتها في حقيبة النسيان مع الكثير من أشيائي العتيقة)) .
 

﴿﴾

طاف بنا أبي العديد من بلدان العالم ، كان يهتم بشرح ثقافة كل بلد نزوره ، يُخصص برنامجا لارتياد متاحفه ومعابده وآثاره ، احتسيتُ كأس طفولتي حتّى آخرها في بيت لم يقتحم يوما حجراته ولا فناءه خلاف أو شجار عائلي ، لكنني لم أعِ جمال الدنيا وأفهم مآخذها وأقلّب أوجهها إلا مع زياد ، من أجله انكببت على قراءة كل ما يتعلّق بفن النحت ، لأفهم أعماله وأبدي ملاحظاتي عليها. أجلس قبالته ساعات دون تململ أو تبرّم وهو مستغرق بحواسه ، وأنامله منهمكة في نحت مجسّم ، أو وجه أو جسد . يُحبّذ استخدام الطين الصلصال في صنع تماثيله ، يرى أن الطين الصلصال تتوفر في خواصه المرونة ، متشابها في ذلك مع خصال الإنسان الذي يخضع لقوانين الحياة حتّى لا تتحجّر روحه . اهتمَّ زياد بشرح ما أجهله في طبيعة عمله الذي لم أجده بين طيّات الكتب ، سألته مرة ((ما الذي تشعر به وأنت تنحت مجسماً أو وجهاً أو جسراً؟)) . قال لي ويداه ملطختان بالطين ((تعلمتُ من قراءاتي لسير العباقرة العظام ، أن كل حجر وكل مشهد وكل وجه ، تقبع روح وهّاجة بداخله . المبدع الحقيقي تستفزه هذه الكينونة الخفية لأن يُعريها بيديه أو بريشته أو بأدواته . هل تذكرين سؤالي لك يوم دخلتي بيتنا لأول مرة؟! تتملكني رغبة قوية في نحت تمثال لجسدك مثل تمثال فينوس آلهة الحب والجمال والخصوبة . لا تنظري إليّ هكذا ، أريدك أن تتعرفي على نفسك من خلالي . كيف أراك بعينيَّ . ثقي بي . أنا لا أراك مجرد أنثى تستثير غرائزي . أنت امرأة عمري وعميدة قلبي)) . جاءت عطلة نهاية الأسبوع ، رتبتُ أموري في البيت ، أخبرتُ والديَّ أنني سأتغيّب اليوم بطوله مع بعض صديقاتي ، سنقضيه في رحلة إلى مدينة برايتون Brighton . كان المرسم خاليا باستثنائي أنا وهو ، انتحيتُ جانبا ، أخذ قلبي يدق دقات متلاحقة كأن طبولا إفريقية تقرع في أعماقي ، أعطيت ظهري لزياد ، شعرت بسهام عينيه تخترقني ، خلعتُ قميصي ، رميتُ حمّالة صدري ، أخفيتُ هضبتيَّ الصغيرتين بطول ذراعيَّ ، أدرتّ وجهي ناحيته وقد تخضّبت وجنتاي خجلا ، أخذ يتأملني (( لا أستطيع أن أسيطر على حواسي ، وأنا أرى هذا الجمال الشامخ ، يقف متحديّا قدرتي على مواجهته . أمهليني بعض الوقت لأجمع شتات نفسي المضطربة)) . ألقى رذاذاً من الماء على صفحة وجهه ، أخذ يُدندن بصوت خافت ، تبخّر حيائي ، لم أتمالك نفسي من الضحك ، قال بتفاخر((ليتني أستطيع سكب نغماتك الساحرة في تمثالك!! لكنني قادر على تجسيد روحك الشفافة فيه)) .
 

قام بتغطية جسدي السفلي بلفافة من قماش الكتان الأبيض ، أراني صورة فوتوغرافية لتمثال فينوس ، طلب مني أخذ طريقة جلستها نفسها على الأريكة ، نسي وجودي ، خبا بريق الشبق الذي صوّبه منذ لحظات على جسدي ، لاحظتُ اهتمامه بتحضير كل شيء ، ركّب القضيب المعدني الفولاذي على قاعدته ، رصَّ الأدوات التي سيستخدمها على منضدة صغيرة . راقبته بإعجاب وهو مستغرق في عملية صنعي ، ركّز عينيه في الطين الصلصال المخروط أمامه ، كان قد تركه لمدة يومين في وعاء إلى أن فقد ماءه ، انهمك في عجن الطين بيديه إلى أن أصبح غير قابل للالتصاق بكفيه ، حوّل حدقتي عينيه تجاهي ، أخذ يتأملني بعيني راهب انغمس في أداء طقوسه التعبديّة ، بدأت أتململ ، ترجاني أن أتحلّى بالصبر . بعد شهر فرغ زياد من وضع الرتوش النهائية لتمثالي ، كان قد أخفاه تحت غلالة شفافة ، ما إن دلفتُ إلى مرسمه حتّى أزاله عنه ، شهقت انبهارا ((هل أنا فاتنة إلى هذا الحد؟!)) . رأيتُ أضواء الحب تقفز في واحة عينيه ((روحك تملأني . أنت المرأة التي دمغ الله حبها على جلدي . لنحتفل الليلة بخلود أنوثتك إلى الأبد)) .
 

ذلك المساء ، تمشّينا على أقدامنا إلى منطقة وستمنستر Westminster Abbey حتّى بلغنا الجسر ، ارتكزنا بمرفقينا على سوره ، نُرهف لسماع جريان ماء نهر التايمز Thames من تحتنا ، تلاقت عيوننا المغرمة ، دفنت ولهي في صدر زياد ، كانت تُراقبني من البعد سماء مضاءة بنجوم برّاقة ، شعرت بقشعريرة الهيام تسري في شراييني ، حديقة غنّاء تُورق في أعماقي ، ضوء ساطع يُنير مجامع قلبي ، كانت المرة الأولى التي أسدل فيها جفنيَّ هاتفة بكل جوارحي ((أحبك .. أحبك)) دون أن أُعير اهتماما لأبواق السيارات السائرة ، ونظرات الغرباء الفضولية.

 

﴿﴾

 
سبقني زياد إلى الدنيا قبل ثمان سنوات من مولدي ، همست أمه في أذنه وهي تضمه إلى حضنها لتقبله قبلة أمومتها الأولى((كنتُ أتمنى أن تُبصر عينيك في موطن أجدادك)) . انزلقت دمعتان حارتان على جبين طفلها الصغير ، الذي لم يستوعب حينها مضمون الدرس الأول !!. عوّض أبواه وطنهما المفقود فيه ، تُهدهده أمه في حجرها لينام على أهازيج فلسطينية ، ما زال بعضها محفورا على جدار ذاكرته . حين ينغز خاصرتيه الفراق ، ويحن لحضن أمه ، يُردد كلماتها في صوت خافت ((نيمتك في العلية .. خوفي عليك من الحية .. على صوتك ينام تعاليله يا بدريه .. بركن نيمتك بالمرجوحه .. خوفي عليك من الشوحه .. بركن على صوتك بنام تعاليله يا عندوره)) . اضطرت أسرتا والديه اللتان تربطهما صلة قرابة ، إلى النزوح من بلدتهما ((البريج)) إلى الأردن ، وحصولهما لاحقا على الجنسية الأردنية . كانت أمه في الثامنة من عمرها عندما خرجت من بلدتها ، وأبوه في الخامسة عشرة . بعد هزيمة العرب سنة 1967 تغيّرت نظرة أبيه للحياة ، تملّكه يأس عارم ، استحوذ القنوط على فكره من إمكانية العودة . في الأيام الأولى للحرب كان يمشي متبخترا كلما أعلنت إذاعة صوت العرب عن سقوط عشرات الطائرات ، وتحطيم مئات الدبابات التابعة للعدو الإسرائيلي ، ظلّ يُهدهد حلمه في العودة منذ أن يفتح عينيه مع إطلالة كل صُبح ، يُتابع الأخبار بلهفة المتعطش للارتواء بعد سنوات طويلة من الظمأ . مع إعلان هزيمة الجيش العربي أو كما أُطلق عليها لاحقا ((النكسة)) ، دوت صرخات الألم في دواخله ، لفح سواد الحزن وجهه ، ظل فترة معتكفا في البيت ، رافضا التحدّث مع أي كان ، ينخرط في البكاء طوال الليل كطفل رضيع يحنُّ لثدي أمه . يُقلب في ذاكرته أزقة قريتهم الصغيرة وحواريها ، مزرعة أبيه التي استولت عليها العصابات اليهودية ، يستعيد مشهد أمه وهي متشبثة بأغصان شجرة الزيتون حين حانت لحظة الرحيل ، علّق فوق سريره لوحة صغيرة ، سطّر فيها أبياتا شعرية لنزار قباني .. ((أنعي لكم يا أصدقائي اللغة القديمة ومفردات العهر والهجاء والشتيمة . أنعي لكم ، أنعي لكم . نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة . يا وطني الحزين حولتني بلحظة . من شاعر يكتب شعر الحب والحنين . لشاعر يكتب بالسكين)) . كل صباح يمر عليها بعينيه قبل أن يستهلّ يومه . مثل البشر كافة ، انزلقت سنوات الفجيعة إلى سفح ذكرياته ، سلّم خيبته للأيام ، انخرط في عمله كمصوّر ، صادف أن كان مدير أحد وكالات الأنباء في بريطانيا ، الذي يعود إلى أصول شامية في زيارة لعمّان ، أعجبته الصور التي التقطها له في حفل زفاف أحد أقاربه ، عرض عليه أن يعمل لديه كمصوّر فوتوغرافي في الوكالة العربية التي يرأسها ببريطانيا ، لم يتردد هنيهة ، كان يود الهرب من كوابيس الهزيمة التي تقضُّ مضجعه . عند قيام حرب 1973 ، عادت الفرحة تقرع طبولها في دنيا والده ، أخرج مفتاح بيتهم في ((البريج)) ، أعاد تلميعه ،نفض الغبار عن صكوك أملاك أسرته ، هيّأ نفسه للعودة ، غدا يمشي مختالا على أرضية آماله ، يغني بصوت جهوري ((وطني حبيبي الوطن الأكبر)) ، عند كل نهار جديد ، يقشع الستائر عن نوافذ بيته ، يترقب قدوم مناد يحمل له تباشير النصر . ذات ليلة دخلت عليه زوجته حجرة النوم ، وجدته يضرب رأسه في الجدار وقد سال الدم من جبينه ، هرعت نحوه ، أمسكت به ، ترجّته أن يتوقف ، قالت له بهلع ((ماذا جرى؟!)) صاح فيها ((نكبة جديدة . الرئيس أنور السادات باع القضية الفلسطينية . سيزور القدس دون أن يُساوم على حقوقنا!!)) . من يومها أصابه داء البكم ، لم يعد يُردد ((وطني الأكبر)) ، صار يتجنب التطرّق لقضية العودة ، ظهور ابنه زياد على مسرح حياته ، أعاد السرور إلى نفسه ، انتشله من دوامة انكساراته ، حط همّه في تعليمه ، تعوّد أن يقرصه من لحمة أذنه قائلا له بحزم ((يجب أن تحصل على شهادة عالية ، من دونها ستُصبح في العراء . ليس لك وطن يحميك من طعنات الزمن)) أحيانا يغلبه الشوق ، يخترق صمته ، يأتي لزياد وهو يُقدّم رجلا ويؤخّر أخرى ، طالبا منه بنبرات دهكها الحنين ، أن يدخل على شبكة الإنترنت ، ويفتح على خريطة فلسطين ، يريد أن يعرف هل تغيّرت مدنها ، قراها ، طرقاتها ، شوارعها ، حوانيتها ، بساتينها التي تحيط بها!! كان زياد يُجاريه مدركا بأن فلسطين التي تركها وراءه لم يعد لها وجود ، وأن هويتها أصبحت يهودية ، لا تمت بصلة لماضي أبيه المنحوت في أعماقه!! التحق زياد بجامعة لندن University of London ، حصل على شهادة البكالوريوس في دراسات شرق أوسطيّة Studies BA Middle Eastem . ساعده والده بعد تخرجه في العمل كمترجم في وكالة الأنباء التي تعرّف فيها على صديقه جورج . لم يكن خافيا على المحيطين به شغفه بفن النحت منذ صغره ، اهتمَّ بالحصول على دورات عديدة ، لفتت أعماله الفنية الأنظار ، حرص على استقطاع جزء من دخله للقيام برحلات سياحية حول العالم ، كل بلد زاره نحته في ذاكرته ، قد تكون عينان ، أو شفتان ، أو صفحة وجه ملائكي ، أو جسد عاجي ، أو يكون مشهد من الطبيعة جذب انتباهه ، كموجة بحر ، أو ربوة ناعمة ، أ, محطة قطار قديمة مهجورة . اعترف لي أن روحي شدته لي منذ الوهلة الأولى ، مس كهربائي هز أعماقه عندما تلاقت نظراتنا ، وأن ضحكاتي السخية أضاءت جنبات قلبه ، وأن شعورا مبهما داهمه وقتها وهو يُراقصني أنني سأغيّر مجرى قدره ، وأنني سأكون وطنه الذي سقط منه في زمان ما ، وفي غفلة عن أهلها البسطاء .

 

﴿﴾

 
تُحاصرني أحيانا جحافل الحيرة من أفعال زياد ، يتصرّف بطريقة تُخرجني عن طوري ، يختفي من ساحة حياتي ، لا يرد على اتصالاتي ، يتجنّب لقائي ، عاتبته مرة بحدة على استمرار غيابه عدة أيام دون أن أتلقّى أي اتصال هاتفي منه ، عبّرتُ له عن تذمري من مزاجه المتقلّب ، رشقني بسهام نارية قائلا بنبرة منفعلة ((أعذرك فأنت تنتمين لبلد نفطي . لم تُجربي الحرمان . لم تتذوقي المهانة . لم تحسي يوما بمعنى فقدان الهوية)) .
 

نظرت إليه مندهشة ((أنت تقول هذا يا زياد!! أنت لم تعشْ هناك لتولول هنا طوال الوقت . لاتغضب مني!! أنا أراك دخيلا على ذاك الوطن . الفلسطينيون الحقيقيون هم أولئك الذين يتلقون الرصاصات القاتلة بصدورهم العارية دون أن ترتجف أجفانهم)) .
 

هدأت أنفاسه المبعثرة ((معك كل الحق ، لكنني كلما قررتُ تمزيق هذه الصفحات المأساوية ، زارني طيفا أبي وأمي في مناماتي ، أصحو مفزوعا على نظرات أبي المكلومة ، وتأوهات أمي الحزينة ، فتهزني من أعماقي ، تنبهني أن الماضي لابد أن تمتد جذوره للحاضر والمستقبل ، وأن أصولنا هي التي تصنع شخصياتنا سواء رضينا أم أبينا)) . أطبق كفه على كفي متابعا ((انظري الفارق بين كفينا!! هذا الفارق صنيعة ربانيّة ليس للبشريّة دخل فيه ، لكن هذا لا يعني نكران الهوة التاريخية التي تفصل بيني وبينك . أنت فتاة يشع من ملامح وجهها النعيم ، ويفوح من إبطيها عبق العطر الشرقي ، وأنا رجل أتى أهله من أرض انتهكت بكارتها بمباركة العالم المتمدّن)) .

 
حاولت تبديد ضباب الكآبة ((إذن لنعقد اتفاقا . سأخلع هويتي كلما أتيتُ إليك ، وترمي أنت بصرة قومك الثقيلة قبل أن تجيء لملاقاتي)) .
 

أستحضر بسعادة أين أعترف لي زياد بحبه ، كان ذلك يوم سبت في شقته ، وقد انبطحنا بكامل جسدينا على سجادة متوسطة الحجم ، أعجمية الصُنع ، تفترشُ أرضيّة غرفته ، ذهني مشغول بتقليب كُتيّب صور لأحد المعارض الفنية ، قام زياد بسحبه على حين غفلة من يدي ، لمحتُ بريقا متقداً يطل من فسحة عينيه قائلا بمرحه المعتاد ((اسمعي . أريد أن أراك في الخمار الأسود!!)) .
 

ضحكت معلقة (( هل تفكّر في تنقيبي من رأسي لأخمص قدمي ، وضمّي لواحدة من الجماعات الإسلامية المتطرفة؟!)) .
 

((بل أريد اختراق الأزمنة الغادرة التي تحول بيني وبينك . أمحو من خلالك كل المؤامرات التي حيكت لتفريقنا . كسر القيود التي تعزل روحينا . هناك قصيدة جميلة قرأتها ورسخت في ذاكرتي لشاعر عربي من مكة ، ذكرها الأصفهاني في كتابه الأغاني ، يقول مطلعها .. قل للمليحة في الخمار الأسود .. ماذا صنعتِ بزاهد متعبد؟! آه ياسارة . أنا العبد الفقير الهائم في محراب حبك . مولاتي شهرزاد . هل تقبلين بي عاشقا؟! هل توافقين سيدتي أن يُحبك رجلٌ لايملك سوى قلب مكسور ، وسائح على باب الله أمنيته أن تكوني وطنه الصغير؟!)) .
 

يومها غمرتني الفرحة ، انعكست آثارها على صفخة وجهي ، حضرتني عبارات ربييكا ((لاتكترثي بعبارات التخلّف التي جاء منها والدك . لاتفسحي أمامها المجال لتهزم حبك. عيشي كما تريدين ما دامت فيها سعادتك . السعادة أنفاسها قصيرة وتضيق ذرعا بمن لا يُقدّرها وتفرُّ دون أن نلحظ غيابها!!)) .
 

أحببتُ جنون زياد الذي يهب من أعماقه مثل زمهرير الشتاء المباغت ، عشقت الدفء الأهوج الذي يربض في أرضية عينيه ، أستعيد عبارته التي يرددها (( نحن شعب دفعه الحرمان إلى اختزال الحياة ، وتجرّع كأس العمر دفعة واحدة)) .
 

أكتئب أحيانا ، وأضحك أحيانا أخرى ، كلما حضرتني أحاديث ومواقف حدثت لي مع زياد . سألني في واحدة من جلساتنا ((هل شاهدت فيلم ((تقرير أقلية)) Report Minority للممثل توم كروز Tom Cruze ؟!)) .
 

(( نعم . لكن لم ترق لي أحداثه . شيء مرعب أن نُحاكم على ما نُفكر فيه داخل أمخاخنا!! . كيف يمكن مُعاقبة شخص على جريمة خطط لها ولم يقم بارتكابها؟!)) .
 

((آه ياسارة .. ليت الإنسان ينجح في استشراف المستقبل ، ويقدر بالفعل على منع الجرائم قبل وقوعها ، خاصة تلك المتعلقة بسرقة الأوطان!!)) .
 

أتذكّر زيارتنا لمعرض الفنان سلفادور دالي ، تناقشنا طوال الطريق حول لوحاته ومجسماته ، عن تفاصيل حياته التي كان يكتنفها الكثير من الغموض ، وعن نهايته المفجعة . قلتُ ((شيء مؤسف أن يموت فنان بهذه القامة على هذه الطريقة البشعة!!)) .
 

((الفنان الحقيقي لابد أن يتقمصه شيطان الإبداع ليُخرج إبداعنا مميزا. شيء رائع أن يُودّع الفنان الحياة ، وهو يحتضن بعينيه فنه الذي أفنى عمره من أجله)) .
 

أخذتنا أقدامنا دون أن ندري إلى محطة ووترلو Waterloo ، سألني ((هل قرأت كتاب عزيز نيسين .. مرحبا ياعمري السبعين؟ في واحدة من فصول الكتاب يقول البطل لحبيبته إن كانت ترغب في ركوب حافلة لاتعرف خط سيرها ، أو ركوب سفينة ستبحر في بحر مجهول ، أو الركوب في قطار يقودك إلى حيث يكون؟!)) .
 
لحظتها شددته من يده قائلة (( لنرَ من أكثر جنونا !!)).
 

قطعنا تذكرتين إلى مدينة برايتون Brighton وهناك فاجأنا المطر ، خلعتُ حذائي ، أخذت أرقص حافية على الشاطئ وسط الرمال وهو يحوطني بمعطفه الجلدي قائلا بنبرة حانية ((ستُصابين بنزلة برد أيتها العاشقة التي لن أكفّ عن حبها يوما . أعترف بأنك أكثر جنونا من بطلة عزيز نيسين ، بل ومن سلفادور دالي نفسه)) .
 

سيقان ملتوية – رواية – من ص 43 إلى ص 75

 

***