عقل سيّئ السمعة

عقل سيّئ السمعة

عقل سيّئ السمعة
(5)

 
ظللتُ سنوات أتهيّب من المصير الذي آلت إليه أمي، في النهاية سقطتُ في الثغرة التي حفرها لي قدري. آمنتُ لحظتها بأن القدر وإن أحكمنا سد الشقوق والثغرات ببيوتنا، لن نستطيع صدّ هجماته! هو مثل ضوء الشمس بوقت الظهيرة، قادر على أن يتسلل عبر شقوق نوافذنا ومن تحت أبوابنا، ونجده واقفاً عند رؤوسنا ويُداعب جفوننا ويُلامس أعيننا التي لم يزل يُداعبها النعاس، قائلاً لنا بنبرة ساخرة.. لن تستطيعوا الهرب منّي وإن كنتم ببروج مشيّدة!
 
دخلتُ جامعة الملك عبد العزيز. كان حلم أبي أن أحصل على الشهادة الجامعيّة. شجّعني على التسجيل بقسم أدب إنجليزي. قضيتُ سنتي الأولى بين مد وجزر. دواء البروزاك لم يعد يُجدي معي، ضعفت الفائدة المرجوة منه مع تزايد نوبات هوسي واكتئابي. أصطحبني أبي لطبيبي. أخبره بوجوب تغيير الدواء واستبداله بدواء الليثيوم. توجّس أبي وأعلن اعتراضه عندما سمع باسم الدواء الذي تتعاطاه أمي، والذي كان أبي على علم تام بآثاره. طمأنه الطبيب بأنه سيكتب لي جرعة خفيفة. أقترح الطبيب على أبي أن أمكث بالمستشفى أسبوعين ليُتابع حالتي عن قرب. رفض أبي بشدة، قائلاً: “هل تُريدني أن أقضي على حياة ابنتي بيدي؟ من سيتقدّم لخطبتها لو تسرّب خبر مرضها. أعذرني فأنا أب بالنهاية”. هزَّ الطبيب رأسه أسفاً على قرار أبي وتقبّل الأمر على مضض. صارت أدويتي جزءاً لا يتجزأ من حياتي. ساعدتني كثيراً على تقبّل مرضي. استطعت بفضلها الصمود. حاولت باالجامعة تكوين صداقات جديدة، لكنني لم أنجح. ظلّت تقف جميعها عند حدود الزمالة. كانت الأعراض الجانبيّة التي تُحدثها أدويتي، تجعل زميلاتي حذرات منّي. أشعر بالإحراج عندما تُداهمتني الأعراض الجانبيّة لأدويتي أثناء محاضراتي. أفقد لحظتها توازني، وأشعر باضطراب في مفاصلي، ويضعف تركيزي، ويُصبح لساني ثقيلاً ومخارج حروفي غير مفهومة.
 
تزايدت أعراض المرض عليَّ أثناء حضوري لإحدى المحاضرات. بدأت أطرافي تهتز وأصابني الغثيان والرغبة في التقيؤ. سقطتُ على الأرض مغشيّاً عليَّ. حملوني لطوارئ مستشفى الجامعة. أتصلوا بأبي على الفور. سأله الطبيب عن الأدوية التي أتناولها. أخبره أبي بأسماءها بما فيها دواء الليثيوم. قام الطبيب على الفور بإجراء تحليل دم لي. كانت نسبة التسمم قد ارتفعت بدمي. أعطاني الطبيب حقنة بالوريد كي يتخلّص من السم. قبعتُ أسبوعاً بالبيت. عدتُ بعدها للجامعة. تألمت من نظرات زميلاتي المطعمة بالفضول والممزوجة بالريبة!
 
وأنا أتهيّا للخروج من القاعة بعد انتهاء المحاضرة، أقتربت منّي فتاة اسمها سهى، معروفة بين الجميع أنها من أسرة بالغة الثراء. قالت لي: “حزنتُ على ما جرى لكِ ذلك اليوم أثناء المحاضرة”. شكرتها على مشاعرها الرقيقة. قالت بجرأة:” أنا أيضاً أعاني من مشاكل نفسيّة لكنني لا أعبأ مثلك بما يُقال خلف ظهري. لا تسأليني كيف عرفتُ عن مرضك، فالطالبات هنا لا حديث لهنَّ إلا عنّكِ”. ارتبكت. أكملت حديثها “هل لديكِ مانع أن نلتقي في منزلي؟ أنا أقيم بمفردي مع أبي وهو كثير الأسفار”. أتفقنا أن نلتقي بعطلة نهاية الأسبوع. كان منزل أهلها كبيراً، تُحيط به حديقة واسعة. يقع البيت على الكورنيش قرب عمارة الفارسي السكنيّة. أرتني سهى جناح نومها. كان تقريبا نصف مساحة بيتنا. لا أدري كيف تعيش فيه بمفردها! انتقلنا لغرفة المعيشة. كانت فخمة الأثاث. قادتني من يدي صوب دولاب منحوتة واجهته بالرسومات الفرنسية القديمة. فتحته على مصراعيه. أصابني الذهول. كانت رفوفه تضم خموراً من الويسكي بمختلف أنواعه والنبيذ والبيرة. قالت لي بنظرة ماكرة: “ماذا تُحبين أن تشربي؟”. ” أريد تجربة الويسكي”. صبّت لي كأساً وصبّت لنفسها كأساً. كانت المرة الثانية التي أشرب فيها خمراً بعد تجربتي الأولى بشرم الشيخ. دار الشراب برأسينا. دمعت عينا سهى، وقالت:” وجدان، هل تُحبين أباك؟”. “بالطبع أحبّه، هو العالم بالنسبة لي”. “أنا أكره أبي، وأتمنى كل لحظة موته”. سرحتُ في مصيبتي. كانت أوجاعنا واحدة وإن اختلفت أدوار الأبطال. تابعت كلامها”أنتِ محظوظة. أتعرفين! أصعب الأشياء على فتاة بمثل عمري، أن لا تجد قلباً دافئاً يتفانى من أجل إسعادها. ما فائدة المال إذا لم يجلب لنا السعادة! أنا على استعداد لأن أهدر كل قرش من مال أبي تحت قدمي رجل ارى ببياض عينيه لمعة الحبّ الصافي، المجرّد من أي أطماع”. انفرطت فجأة في البكاء. أخذت تقصُّ عليَّ حكايتها بالتفصيل. وصفت والدها بالفاسق الكبير. التقى بوالدتها التي كانت بعمر صغرى بناته في ليلة من لياليه الماجنة، التي كان يُقيمها مع أصحابه شهريّاً، بقصره الفاره البعيد المطل على البحر مباشرة. كانت يمنيّة الجنسيّة ويُقيم أهلها بجدة منذ سنوات طويلة. لفت انتباهه قدّمها الممشوق وطولها الفارع وشعرها الغجري الذي يصل لمنتصف صدرها. كانت مُهرة عربيّة أصيلة. رقصت مع رفيقاتها على الأغنية الشهيرة “يا منيتي، يا سلا خاطري”. كانت تتمايل بقدّها المياس، وتُخصّه بنظرات ملتهبة، وتبتسم له بغنج. سال لعابه. أنتصب ذكره. هجم عليها وأخذَّ يعبُّ من نبع صباها.كانت أنوثتها تختلف عن اللواتي مررن قبلها. رغب بشدة الاحتفاظ بها. عقد عليها بورقة زواج عرفي. تلك الليلة الشبقة التحمت بويضة أمّها بحيوانات أبيها، وجاءت سهى بعد تسعة أشهر بالتمام والكمال. ظلّت والدتها مع أبيها سنتين ثمَّ ملَّ منها، وقام بتمزيق الورقة أمامها. أشترط عليها مبلغاً ضخماً من المال مقابل أن تختفي تماماً من حياة ابنتها. وافقت على مقايضة ابنتها بالمال، وسافرت مع أهلها لجهة لا يعلمها أحد.
 

حملها والدها وذهب بها لزوجته وأم أولاده الثمانية. رفضت أن تُدخلها بيتها. قالت لأبيها بنبرة هازئة:”تحمّلتُ نزواتك، لكنني لا أستطيع رؤية ثمرة شهواتك تعيش معي بالبيت”. أشترى لها هذا البيت الشاسع المساحات، وجلب لها مربية ووضع تحت إمرتها عدد من الخادمات بجانب سائق خاص يُلبّي طلباتها. كانت سهى مضطربة نفسيّاً نتيجة الوحدة التي عاشتها منذ طفولتها، والغياب الدائم لوالدها وفقدانها لوالدتها. كانت تنفعل بسرعة، ولا تستطيع كبح جماح غضبها، وقامت إدارة الجامعة مرّات عدّة بلفت نظرها لأسلوبها العنيف مع زميلاتها.
سرعان ما اقتربنا أنا وسهى من بعضنا. وضعنا أوجاعنا ببقجة واحدة. كنتُ أتحمّل حدّة طبعها واضطرابات نفسيتها، وكانت تتحمّل تقلبات أمزجتي. ذهبتُ يومها إليها عند الظهيرة دون سابق موعد بيننا. كنتُ واقعة تحت تأثير هوسي، وكانت طاقتي الجنسيّة بأوجها. وجدتها مستلقية على فراشها بقميص نومها. تمطّعت باسمة، ومدّت يدها لدرج الكومدينو بجوارها، وأخرجت كيس صغير يحتوي على بودرة بيضاء. سألتني “هل جرّبت من قبل الكوكايين؟ إنّه يأخذكِ إلى دنيا لم تريها”.
 
وضعت القليل منها على ظهر كفّها وسحبتها بورقة لفّتها بمهارة. أرتمت على ظهرها وطلبت منّي أن أفعل فعلتها. أخذتُ شهيقاً ودفعتُ البودرة لداخل فتحة أنفي. دارت بي الدنيا. أرتميتُ بجانبها. ذلك اليوم لم يكن عاديّاًّ. فقدنا السيطرة على جسدينا. بدأت كل منّا تُعرّي الأخرى بوحشية. تبادلنا القبل المحمومة. ألتصق جسدانا وشكّلا لوحة رائعة الجمال، يعجز أي فنّان مهما بلغت مهارة ريشته أن يرسم ألوانها المتداخلة وخطوطها المتوهجة. أنهكنا بعضنا. ارتمينا جثتين هامدتين على السرير. أستيقظتُ عند العاشرة مساء على رنين هاتفي النقّال. كان أبي على الخط يسألني بنبرة قلقة عن سبب تأخّري. نظرتُ لنفسي. كنتُ عارية تماماً وقد تبلل ما بين فخذيَّ بمائي. سهى نائمة بجانبي وعارية مثلي تماماً، وقد تناثرت ملابسنا بأرض الغرفة. دخلتُ بعدها بأيام قليلة في حالة اكتئاب أشدَّ من سابقاتها. هرعتُ لطبيبي. قلتُ له وأنا أبكي: “تمنّيتُ دوماً بأن تكون أول قبلة أتذوّقها من شفتي رجل. ارجوك ساعدني. أفكّر جديّاً بأن أُنهي حياتي بيدي”. “أهدأي، أرجوكِ، ما جرى ليس لك يد فيه، لكن عديني أن تقطعي صلتك بهذه الفتاة نهائيّاً، إذا أردتِ أن يكون لك مستقبل. المخدرات والمسكرات والعلاقات المثلية ستُوصلك لطريق مسدود. ألم تقولي لي بأنك تحلمين أن تلتقي برجل مثل أبيكِ! أنا واثق بأنَّ هذا اليوم سيأتي”. وفّيتُ بوعدي. قطعتُ صلتي بسهى. غيّرتُ رقم هاتفي النقّال. صرتُ أتجاهلها بقاعة المحاضرات. أحيانا تحضر ببالي، وأشتاق لجلساتنا وأحاديثنا، فأقاوم ذكراها بشدّة وأطردها بكل ما أوتيتُ من قوة من خاطري.
 

=============

 
بسنتي الثانية بالجامعة بدأت أثور على مرضي. توقفتُ بمنتصف الفصل الدراسي الثاني كليّاً عن الدراسة. كان ذلك بسبب تفاقم حالتي. كنتُ أراجع فصولاً من كتاب طلبت منّا أستاذة المادة مراجعته لعلم امتحان تجريبي عليه. أستغرقتُ في قراءة فصل واحد ساعات عدّة. أيقنتُ بأنني فقدتُ السيطرة على فكري، وأنني صرتُ أجد صعوبة بالغة في استيعاب دروسي، بجانب الأعراض الأخرى كالغثيان والقيء الذي يتبعه، وتصلّب أطرافي. كل هذه الأسباب دفعتني إلى إعلان العصيان على دوائي وإتّباع نهج أمي في الانقطاع عن أخذه. صرتُ عندما أنغمس بحالة هوسي، أفقد السيطرة كليّاً على أفعالي، وأقوم بتصرفات مغايرة لشخصيتي. أضع مساحيق فاقعة على وجهي. ألبس عباءتي المصممة بدون أزرار أماميّة. أذهب إلى شارع التحلية. أتسكّع بمركز الخيّاط وأعرج على سوق البساتين. أتعمّد رمي وشاحي من فوق رأسي، وفتح عباءتي لأظهر بنطلوني الجينز الضيّق الذي يُظهر رسمتي ساقيَّ. ألقي بابتساماتي على الشباب المارين بجواري. في كل مرّة أخرج للسوق، آخذ رقماً من أحدهم. صرتُ أمدُّ يدي على محفظة أبي لأشتري زجاجة ويسكي، وأدسّها بقعر دولابي، وفي الليل أتناول منها كأسين أو ثلاث وأنهمك في أحاديث ماجنة مع من رمى لي ذلك النهار برقم هاتفه، ونُمارس الجنس عبر أسلاك الهاتف حتّى ساعات الفجر الأولى. وعندما أدخل في حالة الاكتئاب. ألوم نفسي على أفعالها، ولا أستطيع أن أرفع عينيَّ بعيني أبي. أحسُّ بأنني سارقة، نكرة، وتُحاصرني كتلة من التساؤلات.. لماذا أعيش؟ ما جدوى الحياة؟ تستيقظ كوابيسي الراقدة. أشعر بزهد في الدنيا وأتمنى الموت. أعود لدوائي وجلساتي النفسيّة مع طبيبي. أستعيد توازني. تسري بشراييني بهجة الحياة من جديد.
 
قمتُ عند الفجر وكنتُ بذروة اكتئابي. دخلتُ للحمام وخلعتُ ملابسي. أستغرقت فترة طويلة في الاستحمام. لم أتمكّن من رغي الشابو بسهولة على شعري. جففت جسدي بصعوبة. ارتديتُ منامتي واتجهت صوب المطبخ. فتحتُ أحد أدرجه وأستللتُ سكيناً. جززتُ رسغ يدي. سقطتُ على الأرض سابحة في دمائي. لولا استيقاظ الخادمة ودخولها المطبخ بعدها بدقائق لكنتُ ميتة الآن. هرع بي أبي إلى المستشفى. ضمّدوا جراحي. هذه المرة أصرَّ الطبيب على حجزي بالمستشفى. لم ينبس أبي ببنت شفّة. امتقعت صفحة وجهه وارتسم الأسى بعينيه. تلك كانت من أصعب فترات حياتي. أضطر الطبيب لإخضاعي لجلسات كهربائية مرتين أسبوعيّاً، بجانب جلسات العلاج النفسي. أعود بعد الجلسة الكهربائيّة لغرفتي وأنا لا أعرف ما الذي يدور حولي. زاد كُرهي لأمي. لماذا أنجبتني؟ كي تُعذبني في الحياة! كانت أمي قد أشتدَّ مرضها ووصلت إلى مرحلة من الصعب العودة منها، وأضحت تعيش بعالم رسمته داخل بؤرة عقلها الملوّث. خصص لها أبي ممرضة تحضر يوميّاً لرعاية شئونها. لم يعد لأمي وجود بالبيت سوى ظلها الباهت وصراخها الذي يهزُّ جدران غرفتي من حين لآخر، وتوسلاتها لأبي أن يُخرس الأصوات التي تسكن رأسها وتقضَّ مضجعها. عادة استراق النظر لأمي، توقّفتُ عنها عندما داهمتني نوبة جنوني الأول. كان جمال أمّي قد بدأ يذوي مثل شمعة قاربت على الانتهاء، وهي لم تزل في كامل صلابة عودها، وغارت عيناها الساحرتين، وخفَّ شعرها الغزيز، وبرزت ضلوع صدرها ونقص وزنها كثيراً. كنتُ اهرع لغرفتي وأبكي بحرقة عليها، متخيلة ما سأؤول إليه يوماً!
 

(6)

هناك سرُّ بيني وبين الله لم أفشه لأيٍ كان! كنتُ بصغري كلما انتابت أمّي نوبة من نوبات جنونها، أختبأ بحجرتي وأظلُّ مستيقظة حتّى الهزيع الأخير من الليل، فأفتح نافذتي وأبثُّ شكواي، موقنة بأنَّ كتلة تذمراتي لن يسمعها سوى الله بعد أن خلدت كافة الكائنات للنوم. أتطلّع إلى السماء وأخاطب ربّي بنبرة ساخطة.. إلى متى ستظل تُعاملني بهذه القسوة؟”. نعم ظللتُ سنوات أنقم على الله وأتساءل عن السبب الذي أجاز لأقداره أن تسرق منّي طفولتي! لماذا تركها تقذفني مثل كرة لهب إلى أن تنفجر أحشائي بالفضاء وتُحوّلها إلى أشلاء صغيرة؟ هل يتقصّد الله تعذيبي؟ قال لي أبي مرّة بأن الله عندما يُحبُّ عبده، يسقيه من عذابات الدنيا كي يظفر بالجنة. كنتُ أندهش من كلامه، وأتساءل، إذا كانت هذه غاية الله، لمَ إذن خلق لنا مباهج الدنيا؟ ألا يعرف بأنني أريد أن استمتع بها قبل أن يأخذني لدار الآخرة؟ كل ما أطمح إليه، أن يكون ربّي عادلاً وألمس السعادة مثل أقراني. أن ألهو وأرقص وألعب ككل البنات. كنتُ قد بلغتُ الرابعة والعشرين دون أن أظفر بحبيب أو زوج. قبعتُ بالبيت أتجرّع آلامي في صمت. حاول أبي ثنيي عن قراري وحثّى على العودة للجامعة. كنتُ مصرّة على موقفي. ذات ليلة وقفت كالعادة عند نافذتي. كانت الساعة تقترب من الثانية بعد منتصف الليل. كان مزاجي معتدلاً بعد نوبة من نوبات هوسي واكتئابي. نظرتُ صوب السماء. كانت هناك نجمة ساطعة. تخيلتها تتطلع إليَّ ضاحكة. رجوتها أن تكون وسيطتي عند ربّي، وتخبره بأنني نادمة على أن ثقتي تزعزت فيه، وأنني أرجوه أن يُعيد كتابة قدري من جديد. قلتُ لها بأنني لا أريد أن أكمل حياتي وحيدة، وأنني أحلم بأن أغمض جفوني وأموت بين ذراعي رجل أحبه. ليلتها نمت مرتاحة البال. حلمتُ بنجمتي تُضئ زوايا غرفتي وصوت يُبشّرني بأنً الله قد غفر لي تطاولي عليه، وسامحني على أفعالي واستجاب لدعائي. لم أتكّأ على حلمي. ظلً القنوط يُلازمني بأنني لن أحمل يوماً لقب سيدة إلى أن يُوارى جثماني القبر. يظهر بأن الله قد قرر أن يُوقف عذابي عندما ألقى بطريقي يوسف، الذي تبدّلت حياتي رأساً على عقب عند زواجي منه. تعرّفت عليه وأنا أتسوّق بمركز البساتين. شاب من عائلة معروفة. كان قد عاد للتو من الولايات المتحدة الأمريكيّة بعد تخرجه من إحدى جامعاتها هناك. يومها كانت تُسيطر علي نوبة من نوبات هوسي، متلازمة بحمّى شرهة لشراء ما يلزم وما لا يلزم. كان وشاح رأسي منحسراً عن شعري الذي ارتمى فوق عباءتي كالعادة. مظهري كان ملفتاً بطبقة المساحيق الموضوعة على وجهي، ورسمة (الآيلينير) العريضة المرسومة على جفنيَّ العلويين، ولون (الروج) الأحمر القاني لذي صبغتُ به شفتيَّ. رأيته يُحدّق فيَّ باسماً، وأنا أسير مثقلة بأحمال مشترياتي. راقت لي ابتسامته. سحرتني نظراته التي رماني بها. تمنيّتُ لو رأيتُ شعره المخبّأ تحت الشماغ والعقال. أشار لي برقم هاتفه. تعمّدتُ الوقوف عند أحد مصاطب الاكسسوارات. وقف بجانبي. دسَّ الورقة المدوّن بها رقم هاتفه بباطن كفي. أطبقتُ عليها بيدي. ليلتها تسامرنا على الهاتف قرابة الساعتين. أقفلتُ الخط قرابة الثالثة صباحاً. خرجتُ مع يوسف قبل أن ينقضي أسبوع على تعارفنا. أقترح عليَّ الذهاب لشاليه والده الكائن بكبائن الفال بأبحر. طمأنني بأن الكبائن في منتصف الأسبوع تكاد تكون شبه خالية.. لحظة وصولنا قمتُ بخلع حذائي وعدوتُ حافية صوب شاطئ البحر. أخذ يلاحقني. كانت رنّات ضحكاتي تمتزج مع هدير البحر فلا أعرف من يطغى منهما على الآخر.
 
أمسك بي والقى بي فوق الرمال الدافئة. حسر الهواء ثوبي القطني للأعلى. لفَّ أردافي العاريتين بساقيه الطويلتين المشعرتين. أغمضتُ عينيَّ. كانت حالة هوسي الجنسي تُسيطر علي مغموسة بشبق مسعور. أزاح خصلة شعري المنفلتة عن وجهي. أخذ يتأمل صفحة وجهي بانبهار. بلل سبابته بريقه ومسح بها على شفتي السفلى قائلاً: “أريدك أن تتذوقي طعم ريقي. ريق الرجل والمرأة عندما يمتزجان، يبعث الله في قلبيهما الحب الأبدي”. أخرجتُ لساني وأخذتُ ألعق رطوبة لعابه باستمتاع. كانت المرّة الأولى التي أتذوّق فيها قبلة من رجل غريب! ظللتُ لهذا العمر لا أعرف طعم قبلة رجل، إلا من خلال الأفلام التي أشاهدها وأتحرّق شوقاً لتجربتها. عندما ارتفع صهد شبقي، بركتُ فوق يوسف، ولففتُ ذراعيَّ حول عنقه. حاول في البداية التملّص برفق من قبضتهما. تشبثتُ به أكثر. خارت مقاومته وولج بداخلي دون وعي. أحسستُ بالدماء الحارة تتدفق من بين فخذيَّ. أفاق مذعوراً من غيبوبة شهوته. صاح قائلاً: “أقسم لك بأنني لم اخطط لهذا الأمر”. كانت حالة الهوس لم تزل تتملكني. أنزوى بركن من الشاليه وأطرق في التفكير. قمتُ من مكاني. أخذتُ دشّاً دافئاً. كنتُ أحلّقُ منتشية من فرط سعادتي كأنّ شيئاً لم يكن، وكأنَّ عذريتي التي فقدتها منذ دقائق لا تعني لي شيئاً! طوال عودتنا كان صامتاً، كأن لسانه أصابه فجأة داء الخرس! أوصلني إلى أحد مداخل سوق حراء الدولي، ومن هناك خرجتُ من مدخل آخر حيث كان سائق منزلنا ينتظرني.
 

من ص 89 – ص 100

*********************