لم أعد أبكي

لم أعد أبكي

لم أعد أبكي
2

 
ترتبط سنة مولدي بعلامة مميزة في التاريخ السعودي. كان العام الذي تولّى فيه الملك فيصل حكم البلاد عام 1964، زاخراً بالوقائع المثيرة والأحداث العاصفة التي انتهت بتنازل الملك سعود عن الحكم لصالح أخيه فيصل، كما درستُ لاحقاً في منهاج التاريخ المدرسي. لا أذكر شياً من تفاصيل سنوات ولادتي الأولى إلا ما سمعته على لسان أبي وأمي من أنني أشعت البهجة والسرور في قلبيهما بعد أن انتظرا قدومي سنوات. بدأ وعيي بطفولتي في سن الثامنة ربما لأن الأحداث التي مررت بها وقتها شكّلت منعطفاً كبيراً في حياتي. نجحت في الصف الأول الابتدائي وترفّعت منه، وكنت فيها في بداية العطلة الصيفية، ألعب بدميتي في غرفتي حين سمعت فجأة صراخ أمي يدوي في أرجاء البيت. رميت لعبتي على الأرض. تسلل إلى أعماقي الخوف. تملّكني الذعر. حضرتني حكايات “أمنا الغولة” التي كانت تسردها أمي عليّ بين فينة وأخرى. خرجت من غرفتي أتعثر في خطواتي صوب غرفة أمي, يسبقني لهاثي. دارت عيناي الهلعتان تبحثان عنها. كانت مسجاة على الأرض. شعرها الأسود مبعثر على وجهها الغارق في الدموع ؛ جفناها متورمان من كثرة البكاء؛ ثوبها متجعلك منحسر عن جذعها السفلي .ارتميت في أحضانها ، دفعتني بغلظة عنها مرددة بنبرة متشنجة:
 
– لقد طلقني والدك . هانت عليه العشرة. لن أسامحه لنهاية عمري.
 
صمت صوتها فجأة ، خبت أنفاسها، أضحت بلا حراك . تفاقم خوفي . هززتها بكفي الصغير منادية إياها:
 
أمي ، أمي !!
 
لم ترد علي. انفلتت من بين أصابعها ورقة مكورة ، التقطتها، تلفتُّ حولي. لم أجد أحداً ، خرجت أجري في أنحاء البيت بحثاً عن مربيتي ، لم أعثر عليها. كان يوم الجمعة عطلتها الأسبوعية. انخرطتُ في النحيب. توجهت نحو باب البيت، وقفت على أطراف أصابعي لأمسك مقبضه ، فتحته بصعوبة ورحت صوب الحديقة إلى غرفة السائق زيد ، الكامنة بالزاوية عند مدخل البيت الخارجي.
 
بيتنا مكوّن من طابق واحد، واجهته الخارجية مدهونة بالطلاء الأبيض وسقفه مغطى بقرميد أرجواني اللون. يحتوي على ثلاث غرف، غرفة أمي وغرفتي والغرفة الثالثة مفروشة بالكامل تحسباً لأي ظرف طارئ. لكل غرفة حمامها الخاص بها. وهناك بهو مفتوح على غرفة جلوس كبيرة مع مطبخ مجهّز بكافة المستلزمات. حديقة منزلنا غاية في الروعة، فقد كان زيد يعتني بها جيداً . يقوم بتشذيب الأشجار وجزّ الأعشاب الميتة، وقام بزرع حوضين من الفل عد مدخل البيت فكانت رائحته الفواحة تملأ أرجاء المكان، إلى جانب قيامه بعمل تكعيبة عنب لكي تظلل السيارة وتحميها من وهج الشمس الحارق.
 
كان باب غرفة زيد موارباً، دلفت إليها ومفاصلي ترتعد. وجدت زيدا ًمضطجعاً على سريره المعدني يتوسط الغرفة. فزع حين رآني ، أخذ يهدئ من روعي، وسألني بلطف عن سبب بكائي. ناولته الورقة، اصطدمت عيناه بالسطور المكتوبة، بدت علامات التأثر على وجهه. كانت الورقة تتضمن طلاق أمي، فردها زيد بباطن كفه ثم طواها بعناية.
 
غرفة زيد صغيرة، معلق في سقفها لمبة نيون، تحتوي على سرير فردي حديدي ومروحة عمودية، تقف بمحاذاته محركة هواء الغرفة الساخن. كانت هناك أيضاً طاولة خشبية متهالكة، رُصَّ عليها أنبوب صغير من الغاز وإبريق للشاي وكوب زجاجي، وقد وُضع إلى جانب الطاولة كرسي من المعدن ، وتتوسط أرضية الغرفة سجادة شرقية قديمة من الصوف.
 
كان زيد يرتدي قميصاً وسروالاً داخلياً من القطن ، وقد برز شعر صدره الكث من فتحة قميصه. العرق يتصبب من جبينه.
 
رائحة إبطيه النفّاذة تملأ المكان. سحبني من يدي ورفعني ليُجلسني في حجره وأخذ يمسح دموعي بكفه. كانت وقتها تسيطر علي مشاعر متباينة مبهمة من التوجس والهلع والالتياع. دفنت وجهي الصغير في كتلة صدره. ، كان الجو حاراً لزجاً. الشمس حارقة في الخارج، والساعة تشير إلى الواحدة ظهراً. غفوت هنيهة على كتفه . أفقت فجأة على حركة غريبة ،رفعت رأسي ونظرت في وجه زيد، كانت عيناه تلمعان لمعاناً غريباً. لم أفهم وقتها تلك الإشارات المنبثقة منهما. ضمني إليه وأخذ يتحسس جسدي. تمادى أكثر. وارى أصابعه بين فخذيَّ، تطلعت إليه مغتبطة، ظل على هذه الحال دقائق معدودة، غاب سواد عينه، أخذت ساقاه ترتجفان، تراخت بعدها قواه، أحسست بسائل دافئ يبلل ثوبي، قلت له ببراءة:
 
– لقد تبولت على نفسك يا زيد. لو رأتك أمي لوبختك. تحذرني دائماً من التبول ليلاً في سريري. تقول إنني كبرت على هذه الفعلة!!
 
طافت على وجهه تعابير من الخجل ونظر صوبي بمجامع عينيه وربّت على ظهري. أنزلني على الأرض، انزوى في أحد الأركان وغيّر سرواله ثم حملني إلى البيت ووضعني في فراشي. سحب نفسه بسرعة بعد أن وضع صك الطلاق على الرف المعلق في مدخل الصالة.
 
***
 
زيد يمني الجنسية من مدينة تعز، قدم إلى السعودية في سن التاسعة مع أحد معارفه الذي قام بتشغيله في أحد المقاهي الشعبية المنتشرة وقتها في مدينة جدة. تعوّد أبي في تلك الآونة على التردد على هذا المقهى لتدخين “الشيشة” فكان زيد يقوم بتلبية طلباته بخفة ومهارة. أُعجب أبي بنباهته، وعرض عليه العمل في متجره. قبل زيد فوراً العرض، وما لبث والدي أن شجعه بعد فترة وجيزة على الالتحاق بمدرسة ليلية ليتعلّم القراءة والكتابة حين لمس هذه الرغبة لديه، وعندما أصبح موضع ثقته بدأ يرسله إلى بيتنا لقضاء حاجاتنا وشراء الأغراض التي تحتاج إليها أمي. اقترحت أمي على أبي بعد أن شب زيد قليلاً، أن يعمل عندنا حارساً بالبيت، ويستمر في مهامه التي اعتاد عليها إلى جانب القيام بمهام أخرى مثل تنظيف الحديقة ومراقبة البوابة. وخصص له أبي بالفعل الغرفة الواقعة في ركن الحديقة لتكون مسكناً له. دخل زيد بيتنا للعيش بصفة دائمة وهو في الرابعة عشرة من عمره. كنت وقتها قد أتممت سنواتي الثلاث. حكت لي والدتي عن تلك المرحلة. كانت تطلب منه أن يلاعبني في الحديقة على تلك الأرجوحة التي مازالت ملقاة في فناء البيت الخلفي بالرغم من الصدأ الذي علاها.وكلما أعلنت أمي رغبتها في التخلّص منها، أرفض بشدة وأصرّ على بقائها. كانت تعني لي الكثير وجزءاً حميماً من ذكريات طفولتي، وما زلت إلى اليوم كلما وقع بصري عليها يفاجئني الماضي بكل خباياه، وأشعر بأن حياتي مثل الأرجوحة، تطوّحني أحياناً في الفضاء، وتقذفني أحياناً على الأرض. حرص زيد على جلب لعبة لي كل عام مع حلول عيد الفطر. كانت أمي تعاتبه على تصرفه وتنصحه بوجوب ادّخار نقوده وأنه هو وأهله أحق بها. ويظهر لحظتها الأسى على محياه ويرد عليها بأنه يعتبرنا مثل أهله الذين حُرم منهم مبكراً ولا يراهم إلا في فترات متباعدة.

زيد هادئ الطبع، قليل الكلام، انطوائي، قامته قصيرة، بنيته ضئيلة، قمحي البشرة، له عينان شديدتا السواد مع مقلتين واسعتين وأرضية ناصعة البياض. شعر رأسه أسود غزير يغطي نهاية رقبته. كانت فورة شبابه قد بدأت تكبر في أعماقه، محاوِلة فكَّ إسارها بالتمرد عليه بين فينة وأخرى، فكان ينصاع لها ويخمد فورانها ليلاً بيده. ولم يعرف ماذا تعني أنثى!! وكيف تبدو تفاصيل جسدها!! كانت معلوماته مستمدة من معارفه المقيمين معه في جده، الذين كانوا يمدونه من وقت إلى آخر بصور لفتيات عاريات، مقصوصة من مجلات أجنبية، فكان يحشرها بين ساقيه ويريق ماء شهوته على إحداها، ويصغي بنشوة إلى حكايات المحرومين أمثاله من الغرباء الذين اعتادوا الذهاب إلى “الكارنتينا” وهو المكان الذي يعيش فيه الأفارقة السود ممن لا هوية لهم وتخلَّفوا عن العودة إلى بلادهم بعد موسمي الحج والعمرة، فيلتقطون من هناك بعض الفتيات ويفضون فيهن شهواتهم. لكنه لم يجسر يوماً على زيارة هذا المكان والإقدام على مثل هذا التصرف، ولا يدري ما السبب ؟! هل كان تهيباً من عالم المرأة ؟ أم خوفاً من الوقوع في مشاكل قضائية بسبب مداهمات الشرطة لهذا الوكر المشبوه!!

أخبرني بعد سنوات من علاقتنا، أنه أحبني منذ كنت طفلة يلاعبها في الحديقة، وعشقني طوال سنوات عمره الفتي وليالي حرمانه الطويلة، واعترف لي بأنه في ذلك اليوم الذي فجّر فيه فحولته المكبوتة معي لأول مرة، عاد إلى غرفته يبكي. أحس بوخز الضمير تجاه الرجل الذي ائتمنه على بيته وأسرته ثم رد له الجميل بالجحود والغدر، مقسما بينه وبين نفسه ألا يعاود فعلته مر أخرى، ثم قام واغتسل وجلس يقرأ آيات من القرآن.
 

***

 
لم أعرف السبب المباشر لطلاق والديَّ إلا بعد أن كبرت. حكت لي أمي حكايتها مع أبي منذ البداية إلى النقطة التي نسج فيها القدر خيوط النهاية. كانت أمي السيدة خديجة صابر، من بيت طيب، امرأة عادية الجمال، غاية في الطيبة، تتلو بعض السُّوَر القرآنية عن ظهر غيب. تعلمت مبادئ القراءة والكتابة، وتزوجت وهي في الخامسة عشرة من عمرها، وكان أبي وقتها في الخامسة والعشرين، يكبرها بعشر سنوات. تتمتع بعقل راجح بشهادة الأهل والأقارب. ساندت أبي في مشوار حياته بالرغم من حداثة سنها، ومكثت سنوات بدون أطفال، حتّى منَّ الله عليها وأنجبتني بعد سبع سنوات طوال من الانتظار. طفح قلبها بالسعادة لأن الله استجاب أخيراً لدعائها. وما لبثت أن تدهورت صحتها بعد أن أصبح عمري خمس سنوات. عرضها أبي على الأطباء، واتفقوا على وجوب استئصال المبيضين لأنهما باتا يشكلان خطراً على حياتها. رفضت أمي الأمر بشدة. سافر بها أبي إلى القاهرة لمعرفة رأي الأطباء هناك، وسمعا الرد نفسه، فاستسلمت لقدرها ووافقت على إجراء العملية. تغيرت أمي كلياً بعدها، كانت تتمنى في قرارة نفسها أن تنجب أخوة لي يملأون البيت بضجيجهم، وصارت تتحرك في داخلها الوساوس وتسيطر عليها الأفكار السوداء. أصبحتُ شغلها الشاغل، لا تريدني أن أغيب هنيهة عن ناظريها، وعندما بلغت السابعة صارت تصحبني بنفسها إلى المدرسة في الذهاب والإياب على الرغم من عدم اقتناع أبي بتصرفها. ثم بدأت تنتابها هواجس أخرى بأن أبي سيتزوج عليها لكي ينجب ولداً يحمل اسمه من بعده، وأودت هواجسها هذه بها إلى الوقوع رهينة الاكتئاب، وتفاقم المشاكل بينهما. صار أبي يهرب من جو البيت الخانق ويختلق الأعذار للسفر بحجة العمل. صب همه في تجارته، وبدأت أعماله تتسع وذاع سيطه في السوق. وكما ارتفعت أسهم نجاحاته تأججت نيران الغيرة في قلب أمي. حاول بشتى الوسائل تجاوز خلافاتهما، واستعان ببعض الأقارب لتهدئة المشاكل بينه وبين أمي، لكن ما إن يهدأ الوضع قليلاً حتّى يعاود الاشتعال، إلى أن خرج عن نطاق السيطرة، ونفد صبر أبي وحصل ما حصل في ذلك اليوم المشؤوم الذي قلب حياة أمي وحياتي معها. كانت أمي تخطو نحو عامها الواحد والثلاثين عند طلاقها. كانت في ذروة أنوثتها. وكبتت مع هذا غريزتها. أغلقت الباب على نفسها، لم تحاول أن تدسَّ رجلا ً في حياتها. رفضت كل من تقدّم لها بعد طلاقها، وانعزلت عن المجتمع، واكتفت من الحياة بأن استسلمت لظروفها. تركت أمواج الحياة تدفعها إلى أعماق اليم من دون أن تُبدي أي مقاومة. كنتُ وحدي داخل دائرة الضوء الخافت في حياتها، مما أدى إلى تكالب الأمراض عليها، حتى ظهرت عليها ملامح الشيخوخة وهي ما زالت في ريعان شبابها.
 
لم يتمكن عقلي الصغير وقتها من تفهّم معاناتها. وعندما كبرت وبدأت أدرك ما يجري من حولي، ازددت التصاقاً بها. كان بداخلي نداء صارخ يلحّ علي دوماً محاولة تعويضها عن حب أبي الذي تسرب في لحظة خاطفة من بين يديها .
 

***

 
تزوج أبي بأمي زواجاً تقليدياً كعادة معظم الأسر السعودية في ذلك الوقت. أخبرته جدتي أنها وجدت له العروس المناسبة. لم يسألها عن شكلها. كان أهم شرط لديه أن تكون من عائلة متدينة، وذات سمعة حسنة. كان يردد على مسمعي أن أمي كانت وجه السعد عليه بالرغم من الفجوة التي حصلت بينهما وأدت لاحقاً إلى الطلاق. حكى لي قصة كفاحه: كيف نشأ طفلاً يتيماً وحيداً، وبدأ تجارته بالميراث الضئيل الذي تركه له جدي. قام باستئجار دكان صغير لبيع الأقمشة النسائية في شارع ضيق بأحد الأحياء الشعبية. حرمت وقتها أمي نفسها من أشياء كثيرة واقتصدت في مطالبها لكي توفر له المال، حتى استطاع بعد فترة استئجار دكان كبير في موقع تجاري حيوي، وتوسعت تجارته شيئاً فشيئاً إلى أن أصبح يمتلك عدة فروع في أكبر مدن المملكة.
 
حكى لي بتأثر أنه لم يفكر يوماً في طلاق أمي، لكن تفاقم الخلافات أوصله إلى قرار الطلاق بعد أن اقتنع بأن الحياة غدت مستحيلة بينهما. حفظ أبي صنيع أمي. فلم يتخلَّ يوماً عن واجباته تجاهها، وكان يرسل في نهاية كل شهر مظروفاً يحتوي على مصاريفنا إلى جانب تحمله كافة تكاليف علاجها.
 
كان أبي يخطو عامه الثاني والأربعين حين خاض تجربة زواجه الثانية. تزوج بابنة أحد أصدقائه الذي قام بعرضها عليه. وافق أبي بعد تردد لفارق السن بينهما. كانت في السابعة والعشرين يوم تزوجها، ومع هذا نجحت علاقتهما الزوجية، وأنجبت له ولدين وبنتاً. اشترط عليها يوم عقد القران ألا تتدخل في أي أمر يتعلق بي وبأمي أو بمسؤولياته تجاهنا، فكان أهم ما يميز علاقتها به احترامها رغبته، وكان هذا التصرف مبعث تقدير في نفس أبي مما عزز مكانتها في قلبه. حاول أبي مراراً أن يقربني من زوجته ومن أخوتي بإلزامي أسبوعياً بقضاء نهاية الأسبوع معهم. وكانت زوجته لا تكلُّ من محاولاتها التودُّد لي من خلال ترحيبها الدائم بي كلما ذهبت إلى زيارتهم. إلا أن كل هذا لم يؤد إلى إذابة جدار جليد التحفظ القائم بيني وبينهم!! كنتُ أحمل في أعماقي، لا شعورياً، عتباً داخلياً على أبي كونه لم يحاول لملمة الخلافات التي حصلت بينه وبين أمي، إلى جانب حرصي على مراعاة مشاعر أمي التي أفنت زهرة شبابها من أجلي. وقد ظل إحساسي بالوحشة والاغتراب يصاحبني في كل مرة أخطو فيها بيت أبي، بل كانت الغيرة في كثير من الأحيان تتحرك في أحشائي حين أرى أخوتي يتحلقون حول أبي وهم يتضاحكون، فأتذكر لحظتها أمي وأحس بغيوم الغم تحوم فوق رأسي وتتسرب المرارة إلى أعماقي لأني حُرمت مبكراً من دفء الأسرة ومن تذوق طعم الحياة الطبيعية بالعيش في كنف أبي وأمي .
 

***

 
كان زيد الرجل الذي ملأ عالمي الصغير، وتفتحت براعم أنوثتي على يديه. صحيح أن ملامحه سقطت في قاع ذاكرتي مع مرور الأيام وتعاقب السنوات، إلا أن الحزن على فراقه ظل ينتابني بين حين وأخر. كان زيد في ذلك الماضي البعيد الملجأ الآمن، الذي عوضني عن الحضن الأسري الذي افتقدته مبكراً ،خاصة في الفترة التي أعقبت طلاق أمي. كانت مغموسة في أحزانها. تتلهّى بلملمة همومها المبعثرة، وتطبيب جراح فؤادها. أما أبي فقد انكبَّ على عمله وحصر فكره في تنمية تجارته. لم أجد سوى دنيا زيد التي كانت تثير دوماً دهشتي وغبطتي. وقد عاد إلى تكرار فعلته مرات ومرات بعد ذلك اليوم الذي أطلق فيه قيود فحولته معي .
 
لكنه لم يفكر يوماً في أن يغوص في مساحات جسدي الخطرة، ربما خوفاً علي، أو تحسباً من العواقب. وظلت حدود “اللعبة” لا تتجاوز هذا الخط. فكنت أستسلم لمداعباته بنشوة عفوية. قال لي يوماً بعد أن أراق ماء شهوته والعرق يتصبب من جبينه:
 
– إياك أن تخبري أمك عن “لعبتنا”، فهي لا تحبها. وإذا عرفت فستطردني من البيت ولن تريني مرة أخرى.
 
رددت يومها عليه ببراءة:
 
– لا، لن أخبرها، فأنا أحب اللعب معك.
 
كنت أحس عندما لا أراه بأنني تائهة، وثمة شيء مجهول ينقصني. وأظل أبحث عنه في أرجاء البيت ولا أهدأ حتى تقع عيناي عليه، فيحملني على كتفه، ثم يصحبني إلى غرفته ليلعب معي لعبتي المفضلة. لحظتها تعلو رنات ضحكاتي في فضاء المكان. لم أكن أدرك أن طفولتي غدت مخدوشة، وأن براءتي قد انتهكها زيد بشبابه الفائر!!
 
بدأت أنوثتي تتفجر عندما بلغت الثالثة عشرة من عمري، وتولدت في داخلي طاقة هائلة من الرغبة، وغدا كل من حولي يتغزلون بجمالي. تفاقم خوف أمي علي وبدأت تحاسبني على خطواتي. منعتني من الخروج إلى الحديقة بمفردي، أو التحدث إلى زيد من دون أن أضع وشاحاً على رأسي. شعرت وقتها كأنني في سجن انفرادي، وأن شيئاً جميلاً في حياتي قد انتُزع مني. كنتُ مثل المدمن الذي منعوا عنه مخدّراً يستطيع وحده أن يهدّئ من توتره لم أعد أركّز في دروسي. انطويت على نفسي. غابت ضحكاتي التي كانت تصدح في البيت. فقدت شهيتي للأكل، وهزل جسدي. حارت أمي في تصرفاتي. حاولت معرفة ما بي، ولم تفلح في نزع اعتراف ولو ضمني بالسر الذي أحمله بين جوانحي. كانت تحذيرات زيد تطنّ في أذني. أشارت عليها قريبة لنا باصطحابي إلى أحد المشايخ لطرد العين الحاسدة التي أصابتني. أعطاها الشيخ بعض الماء المقروء عليه وأوصاها بأن أستحمَّ به، وأكد لها أن النتيجة مضمونه. أضحت أمي من يومها لا تنام قبل أن تقرأ بعض الأذكار وهي واضعة يدها على جبيني لطرد العيون الحاسدة. إلا أن كل هذا لم يُجد. كان الشوق إلى لعبة الجسد مع زيد تلح عليَّ بشدة يوماً بعد يوم. استيقظت ذات ليلة مذعورة من نومي كأن ناراً تندلع في فراشي. كانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل. يتصارع شبقي المتوحش في داخلي، يحاصرني من كافة الاتجاهات محاولاً دفعي إلى الاستسلام. وجدت نفسي بلا وعي أنفض اللحاف عن جسدي وأتسلل بخفة من غرفتي. ألقيت نظرة على أمي النائمة. فتحت بحذر باب البيت، وتوجهت صوب الحديقة إلى غرفة زيد. كنت أرتدي منامتي القطنية السماوية اللون، يربطها من الكتفين خيطان رفيعان، وقد برزت هضبتا نهديَّ اليانعين من فتحة الصدر. الجو معبَّأ برطوبة أغسطس، والليل ساكن لا يخترقه إلا مواء القطط الشاردة خارج سور البيت يتردد صداه مع أبواق السيارات لحظة مرورها. طرقت باب غرفة زيد طرقات خفيفة. لم أتلقَّ رداً، عاودت الطرق. فتح الباب وهو يفرك عينيه. لمحت بريق الفرحة يقفز في عينيه لحظة رآني، من خلال انعكاس شعاع الضوء المنبثق من الأنوار المعلقة بسور البيت على صفحة وجهه. كان مرتدياً كعادته قميصه الداخلي وسرواله الأبيض الطويل. تلفّت حوله في ارتباك ثم سحبني من يدي وأغلق الباب. لم يسألني ما الذي أتى بي، كأنه كان يترقَّب مجيئي. ضمني إلى صدره بقوة ثم نظر في عيني بأسى طالباً مني برجاء وتوسّل أن أعود إلى غرفتي قبل أن تكتشف أمي غيابي. لم أّعِر اهتماماً لكلامه، ودفنت شفتي في شفتيه. فجرنا في ومضة خاطفة كل براكين أشواقنا المكبوتة على تربة اللاوعي. كان لقاءً عاصفاً. ظللنا ساعات متلاحمين حتى لاحت خيوط الفجر الأولى. لملمت لحظتها نفسي وهرعت إلى داخل البيت. اندسست في في سريري وغرقت في سبات عميق. استيقظت عند الظهيرة، شعرت كأنني كنت أعيش حلماً جميلاً. أعدت شريط لقائي بزيد. تحسست عانتي . أدركت أنني لم أعد عذراء. صرت امرأة أنا أخطو إلى سنتي الرابعة عشرة. لم أشعر لحظتها بالخوف أو بتأنيب الضمير، ولم أحاول نصب قوس محكمة لجلد ذاتي. كانت مشاعري منجرفة خلف هذا الرجل بلا تفكير. حاولت بعدها مراراً مصارحة أمي بكل ما وقع لي، لكن خوفي على زيد وهلعي من ألا تتفهم مشاعري نحوه، جعلاني أتراجع عمّا كان يدور في عقلي. استمرت علاقتنا إلى أن بلغت السابعة عشرة. كان زيد وقتها قد أصبح في الثامنة والعشرين. لم أكف عن لقائه. كنا نلتقي أحياناً مرة في الأسبوع، وأحياناً أخرى مرتين أو ثلاثاً حسب ملاءمة الوقت والظروف. كانت والدته في تلك الفترة تلحّ عليه في رسائلها بوجوب العودة إلى اليمن، كي يبدأ حياته في بلده ويكوّن أسرة. كان يخبرني عن رسائل أمه، وكيف أنها لم تعد تطيق له أن يبقى أجيراً. وكان هو حائراً بيني وبينها: أنا التي أعشقه حتى الجنون، وأمه المسكينة التي أصبحت في أمسّ الحاجة إليه بعد أن كبرت في السن واعتلت صحتها.
 
اختفى زيد من حياتي بين ليلة وضحاها. عرفت بقرار رحيله المفاجئ من والدتي. هرعت إلى غرفته كالمجنونة. بكيت بحرقة على صدره، سألته بعينين مذعورتين وقلب واجف:
 
– هل صحيح ما سمعته من أمي؟! هل بالفعل سترحل؟!
 
بكى طويلاً كطفل بين ذراعيَّ قائلاً:
 
هناك هوة كبيرة تفصل بيننا. أين أنا منكِ ؟ أنت في القمة ، وأنا في القاع !! أنا رجل بائس يا غادة ؛ مجرد عابر سبيل ضلَّ طريقه ولا بد من أن يعود يوماً إلى أرضه. من المستحيل أن أظل قابعاً في الظلام طوال عمري. يجب أن أرجع إلى بلدي وأبني مستقبلي. غداً تتزوجين بالرجل الذي يليق بكِ. سأرحل من أجلك. بقائي فيه خطورة عليك. اعتبريني حلماً أفقتِ منه بعد سبات عميق.
 
استعطفته ، رجوته أن يبقى، لكن توسلاتي ذهبت أدراج الريح.
 

***

 

 

لم أعد أبكي – رواية – من ص 15 إلى ص 28