التعذيب بين البدائـية والتحـضُّر

التعذيب بين البدائـية والتحـضُّر

التعذيب بين البدائـية والتحـضُّر

الجمعة 8/7/2005

 
لا أدري من اخترع فكرة التعذيب في العالم! ولا أعرف إن كانت ثقافة موغلة في القدم مرتبطة ببدائية الإنسان، أم صناعة تطورت أساليبها مع تطوّر فكره! وكيف يمكن الربط بين فكرة التعذيب والتحضّر، إذا كان التمدّن يُرقّي البشرية ويُهذّب سلوكية أفرادها! ربما لأن فكرة التعذيب مرتبطة ارتباطاً وثيقاً في أذهان الكثيرين، بمصادرة الحريات، وتدجين عقول الشعوب، حتّى تظل خانعة، مستسلمة لأقدارها!.
 

بعد فضيحة سجن أبو غريب، والانتهاكات الحاصلة في معتقل جوانتنامو، والتي أثارت ضجة كبرى في العالم، أعلن الاتحاد الأوروبي مؤخراً، حظر المتاجرة بأدوات التعذيب ووقف تصديرها خاصة إلى الدول العربية. كما دعت الأمم المتحدة إلى وضع تدابير صارمة على الشركات التي تستمر بتصنيع هذه المواد، وقد قال رئيسها كوفي عنان: دعونا نعقد العزم على تخليص عالمنا من التعذيب.
 
أتذكّر عندما قمتُ بزيارة متحف “مدام توسّو” في لندن، كيف تملكني الخوف، وشعرت باختناق في أنفاسي، وأنا أدور في الطابق السفلي المخصص لتجسيم مشاهد التعذيب والقتل، وقد قامت إدارة المتحف بإضافة أصوات وهمية للضحايا، لكي تجعل الزائر يعيش في هذا الجو القاتم صوتاً وصورة.
 
قرأت منذ فترة رواية “تلك العتمة الباهرة” للأديب المغربي الأصل الطاهر بن جلون، وقد نجح الكاتب في جذب القارئ من خلال تصويره الدقيق لحياة أحد السجناء، من الذين كانوا متورطين في حادثة الصخرة، حين قام الجيش وقتها بقيادة وزير الدفاع الجنرال بوفقير، بمحاولة انقلاب على الملك الحسن للإطاحة بحكمه.
 
يقولون في الأمثال الشعبية المصرية “يا ما في الحبس مظاليم”، كان بطل الرواية مجرد جندي يُطبّق أوامر رؤسائه، لكن دوما الضعفاء يدفعون جريرة الأقوياء، وحُـكم على الرجل بالسجن، دخله وهو في العشرينات من عمره، وخرج منه وهو في الأربعينات.
لم يُمارس على هذا الرجل أيٍ من أساليب التعذيب، ولم يتم تجربة أي نوع من الأدوات على جسده، بل ألقي في حفرة ضيقة، ليعيش فيها مع الجرذان والحشرات والظلمة والوحدة، وعندما أُطلق سراحه بعد ما يقرب من عقدين، خرج محطما، يحيا في خوف دائم، فاقدا القدرة على العيش طبيعيا بين الناس.
 
لا أرغب في الدفاع عن إسرائيل، ولكنني ذُهلت حين رأيت الجاسوس الإسرائيلي الذي أدلى بمعلومات عن المفاعل النووي الإسرائيلي، قد خرج من السجن سليما، معافى، خاليا من أي عاهات نفسية أو جسدية،، مُـدلياً هنا وهناك بتصريحات في كافة القنوات الإعلامية.
 
القضية إذن ليست محصورة في منع أدوات التعذيب، ولا في وضع قوانين صارمة لمن يخترقها، بل في كيفية التعامل مع آدمية الإنسان، ومساعدة الإنسان الذي انزلقت قدماه إلى إنسان سوي، قادر على أن يُواصل حياته من جديد، في احترام الرأي المعارض الذي يقول لا بأسلوب حضاري، وإعطاء صاحبه الحق في أن يرفع صوته بعقلانية، دون أن يتلقّى هراوة على رأسه، أو يقضي ما بقي من عمره ملهيّـا في تـطبيب جراح نفسه!.
 
جميل أن يتوقف تصنيع هذه الأدوات، ولكن الأجمل أن تتوقف ثقافة التخويف والتلويح بعصا التعذيب، أن تُؤمن الأنظمة العربية بأحقية الشعوب في إبداء رأيها، ألا تكزَّ أسنانها غيظا حين تخترق أسماعها كلمة بريئة رددها صاحبها بشفافية، حتّى لا تتحول المجتمعات العربية إلى مجموعة من المعاقين قد لا نجد يوماً أماكن كافية لإيوائهم!.