حرية المساءلة وعصا التأديب

حرية المساءلة وعصا التأديب

حرية المساءلة وعصا التأديب

الجمعة 16/9/2005

 
كنتُ في ميامي بولاية فلوريدا، حين حلَّ إعصار “كاترينا” ضيفاً علينا، أحسستُ بالخوف بالرغم من أنه كان ضيفاً خفيفاً، ومر مروراً عابراً، مع هذا أجبرني على المكوث في البيت حرصاً على سلامة أفراد أسرتي.
 
الهلع الذي انتابني حينها، يعود إلى أننا في مجتمعاتنا العربية لم نتعوّد على هذا النوع من الكوارث الطبيعية، لكننا بالتأكيد متعودون على تجرّع كل يوم أنواع مختلفة من الكوارث البشرية، يتسبب فيها مسؤولون من بني جلدتنا، مع سبق الإصرار والترصّد!
 
الدمار الهائل الذي أحدثه إعصار “كاترينا”، جعل كلاً منا يحبس أنفاسه، وهو يتابع عبر شاشات التلفاز ما حلَّ بمدينة نيوأورليانز، التي غرقت بعد انهيار سدودها، حتى ليخيل للإنسان أنه يُشاهد واحداً من السيناريوهات الحاصلة على أرض العراق، فيكتشف بأن ما يجري هو في رقعة أميركية، وفي أقوى دولة بالعالم.
 
لا شك أن إعصار “كاترينا”، كشف عن الوجه البغيض للعنصرية، المتخفي وراء ثوب الديمقراطية، وذلك بعد أن فضح الإعلام المرئي، مشاهد الفقر المدقع الذي يعيشه الأفارقة الأميركيون، وتجاهل الحكومة في توفير مستوى معيشي جيد لهم، وهو ما أدى إلى انتشار عصابات السطو المسلح على المتاجر والمراكز التجارية، واضطرار الجيش النزول إلى الشوارع لحفظ الأمن فيها.
 
لا أرغب التحدّث فيما خلّفه إعصار “كاترينا”، ولكنني وجدتُ نفسي أتأمل مبهورة، ردود الأفعال الجريئة، بداية من توجيه التقصير لحكومة الرئيس بوش في احتواء الأزمة، إلى مطالبة بعض أعضاء الكونجرس باستقالة الرئيس، واتهام بعض المسؤولين السود له بالعنصرية، مما يؤكد أن زعامة الفرد قد ولت إلى غير رجعة، وأن السلطة المطلقة لم يعد لها وجود في الدول المتحضرة، في ظل المؤسسات المدنية الحقيقية، التي تُخضع الجميع للمساءلة، من منطلق أنه لا أحد فوق القانون.
 
لقد قارنتُ وأنا أقرأ التعليقات اللاذعة، المنصبة من كل حدب وصوب على رئيس الدولة وحكومته، وبين ما يجري من مسلسلات درامية على أرضنا العربية، حيث توجد هناك خطوط حمراء محظور على الفرد العربي تجاوزها، عندما يتعلق الأمر بأخطاء جسيمة يتسبب فيها مسؤول كبير، أو وزير، أو رئيس دولة، بوضعه في خانة التأليه التي لا يجب المساس بها!.
 
في بلداننا العربية، عندما تحدث كوارث بشرية، ترمي الحكومات المسؤولية على الرؤوس الصغيرة، بمعنى البحث عن كبش فداء لكل مصيبة من مصائبنا، حتى تمتص غضب الشارع، وينسى الناس مع الوقت آهاتهم، وتظل الرؤوس التي تُطاول قامتها عنان السماء تتبختر في ثياب مناصبها!.
 
في الآونة الأخيرة، انبثق شعاع من النور، داخل أروقة عالمنا العربي، وأصبحت هناك مساحة من حرية التعبير لا بأس بها، فإذا سألت أحدهم: هل هي بداية صحوة؟! رد عليك بحماس “الله يخلينا بابا بوش!”. الحقيقة الواضحة للعيان أننا نعيش في عالم متشابك، نتيجة للثورة المعلوماتية الحاصلة في العالم اليوم، حيث بات من الصعب التكتّم على فضيحة، أو مداراة مصيبة، أو لي الحقائق، مما يستوجب الشفافية مع الشعوب، التي عانت من القمع ومصادرة الحريات أمدا طويلا!.
 
ليت الأنظمة العربية تتقن الدرس جيداً، ولا تنتظر أن يُفرض عليها التغيير بعصا التأديب، التي تلوّح بها أميركا في وجوهها، فكثير من هذه العصي سرعان ما ستتحطم عند أول ضربة موجعة، لأن إرادة الإنسان هي التي ستحقق حرية رأي فعلية في كل بقاع الأرض.