الوقوع في أسر ثقافتين

الوقوع في أسر ثقافتين

الوقوع في أسر ثقافتين

الجمعة 28/10/2005

 
لا أعرف أيهما أشدُّ وقعا على الإنسان، غربة الوطن، أم غربة النفس، أم أنهما طريقان متشابكان، يصبان في مجرى واحد! غربة الوطن قاسية، تُشعر المرء بأنه يتجرّع يومياً كؤوس الهوان والظلم، ويُعاني من الفقر، وانعدام الأمان، نتيجة لضياع العدالة على أرضه، مما يدفعه إلى الهجرة خارج وطنه· لكن هذا الطريق في أغلب الأحيان، يملأ صاحبه بغربة النفس، لأن الإنسان مثل النبتة التي اقتلعوها من جذورها، يحس بالوحشة ويتوجس من كل المظاهر الجديدة، المخالفة لما نشأ وتربّى عليه·
 
هناك العديد من الأسر العربية والإسلامية، تتجه أنظارها صوب الدول الأوروبية، باحثة عن ملجأ آمن، تضمن من ورائه عيشا كريما، بعد أن فقدت الحماية داخل أوطانها· لكن ما أن تستقر هذه الأسر في المجتمعات الغربية، حتّى تلسعها الثقافة الغربية، التي تختلف جذريّا عن ثقافتها، التي تقوم على العقيدة الإسلامية والأعراف المتوارثة·
 
هذا الشعور المشبع بالخوف، يجعل أبناء هذه الأسر يتعرضون لانفصام في الشخصية، ففي داخل البيت، مفروض عليهم أن يتعاملوا مع آبائهم بالنهج الذي صاحبهم من بلدانهم، وعندما يخطون بأقدامهم خارج المنزل، ويحتكون بأقرانهم الأوروبيين، يجدون أنفسهم مجبرين على لبس ثوب المهرّج المزكرش الألوان·
 
شاهدت مؤخرا فيلم ”ياسمين” الذي تُسلّط أحداثه الضوء على عائلة باكستانية مسلمة تعيش في بريطانيا· يُصوّر الفيلم التناقضات الداخلية التي يحيا فيها أفراد هذه الأسرة في المجتمع البريطاني، في ظل تنامي العنصرية ضد المسلمين، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر·
 
الفتاة الباكستانية، واحدة من أبطال هذه الأسرة، تبيّن الأحداث كيف تقوم بنزع الحجاب، وارتداء البنطلون، عندما تبتعد عن المنطقة التي تعيش فيها مع أهلها، لتُعاود ارتداء الزى الباكستاني، وتضع الحجاب فوق رأسها، كلما اقتربت من بيتها·
 
هذه الحالة تُجسّد الواقع الذي تعيشه أغلبية الأسر العربية والإسلامية المهاجرة، بوضع سياج من الحيطة والحذر حول أبنائها، حتّى لا تجرفهم مظاهر الحياة الاجتماعية، المغايرة للتعاليم الإسلامية، وهو ما نجد له انعكاسات سلبية لاحقة، من تورّط بعض الآباء في جرائم شرف، تذهب ضحيتها فتيات فضلن الأخذ بثقافة المجتمع الذي ترعرعن فيه، وطالبن آباءهن بحقهن في الاستقلالية بحياتهن الشخصية·
 
لقد ذكرني الفيلم بحكاية سيدة عربية، كانت تعمل في أحد الأندية الصحية بجدة، وعندما سألتها لماذا تركت أميركا، والراتب المغري والحياة المرفهة؟! لمَ ضحّيتِ بكل هذا، وجازفتِ بالعمل هنا، بأقل من نصف مرتبك هناك! أجابتني: خوفي على ابنتي، لقد وصلت إلى سن السادسة عشرة، وكل صديقاتها لهن ”بوي فريند”· لم أنتظر حتّى تسألني لماذا لا يحق لي ذلك الأمر؟! خفت أن تنساق خلف ثقافة الحرية الجنسية المباحة عندهم، التي لا يقرها ديننا ولا مجتمعنا· إن أبناءنا يستحقون أن نُضحّي بالكثير من أجلهم·
 
تُرى كم من الأسر تملك هذا الخيار، حين تجد نفسها محشورة بين ثقافتين يجب أن تخضع لإحداهما؟! ليت الأسر التي تنظر بلهفة وتشوّق إلى جهة الغرب، تعي أنها تحمل في يدٍ سلاح استقرارها المادي، وأنها تحمل في يدها الأخرى القلم الذي يخطُّ قدرها المأساوي دون أن تدري! تُرى كم من أسر أُجبرت على أن تترك خلفها أوطانها، وهي تنوء بحمل أوجاعها! ألا يقولون في الأمثال الشعبية ”من الذي رماك على المر؟! قال·· اللي أمرّ منه”!.