مطلوب الإفراج عن الفكر

مطلوب الإفراج عن الفكر

مطلوب الإفراج عن الفكر

الجمعة 17/3/2006

 
تم الإفراج عن رواية “أولاد حارتنا” للأديب النوبَلي نجيب محفوظ، بعد منع استمر خمسة وأربعين عاما من قبل الأزهر. وأنا أقرأ الخبر، تداعت في فكري تفاصيل الحادثة التي تعرّض لها محفوظ تلك الفترة، على يد فتى قام بطعنه في رقبته عمدا قاصدا قتله، وهو عائد لمنزله سيرا على الأقدام كعادته، وقد اعترف الفتى حينها في التحقيق، بأنه لم يقرأ الرواية ولا يعرف شيئا عن محتواها، وإنما قام بهذا الفعل الإجرامي بعد أن همس له بعضهم بأن الرواية تتعرض للرسل، وأنها تمس الذات الإلهية، فأخذته “الغيرة على الإسلام” وارتأى “تطبيق شرع الله” بيده، على اعتبار أن نجيب كاتب ملحد، وفق تصوره.
 
الأديب العربي واقع بين فكي كماشة، فهو من جهة مُراقب من قبل أنظمة بلاده، التي تنظر صوبه بعين حذرة إذا فكّر في المروق عن الخط المرسوم له. ومن جهة أخرى هناك الجماعات الأصولية المتطرفة التي تتربص به في الخفاء، تفتش في دفاتره عن سقطة قلم، أو زلة لسان، لتُلصق به تهمة الخروج عن الملة!!.
 
من يحمي الأديب العربي، في عصر تقلصت فيه مساحة الحريات على يد حكومات قمعية؟! من يدافع عن المفكر العربي، مع تزايد المد الأصولي المتطرف بين فئات الشباب تحديدا، نتيجة الغلو الديني، ورواج المعتقدات الخاطئة التي سممت أفكارهم؟! من يحفظ المثقف العربي من ضربات المتطرفين، الذين صاروا يقومون بدور القاضي والجلاد؟!.
 
أتذكّر في الثمانينيات، عندما ارتفعت موجة العنف في مصر، أن دفع الكاتب فرج فودة حياته، ثمنا لمواقفه الليبرالية الشجاعة في الحد من الإرهاب، على يد واحدة من الجماعات الأصولية المتشددة. وقبل عشر سنوات تقريبا، أثار الدكتور نصر أبو زيد الكثير من اللغط حوله، حين دعا إلى وضع تفسير علمي للقرآن مدعم بالحجج، مما دفع الأزهر إلى إصدار حكم قضائي بتفريقه من زوجته، وفقدانه لوظيفته كأستاذ جامعي، وإهدار دمه من قبل جماعة أصولية متشددة، مما اضطره للهجرة إلى هولندا، التي فتحت له ذراعيها، وأصبح يعمل هناك في مركز ابن رشد، الذي قدّم له العام الفائت جائزة ابن رشد للفكر الحر.
 
كلما قرأت شيئا من كتب التراث التي تركها لنا المفكرون المسلمون، أجد نفسي لا شعوريا أقارن بين ما يجري اليوم من تقييد لحرية الكلمة، وبين ما كان يقع في العصور الإسلامية الزاهرة من احترام لحرية التعبير. تُرى ماذا كان سيحدث لصاحب طوق الحمامة العلاّمة ابن حزم ومن على شاكلته، لو كانوا يعيشون في عصرنا بكتاباتهم الجريئة؟! ماذا كان سيجري للشاعرة الولادة بنت المستكفي، صاحبة القصيدة الشهيرة التي يقول مطلعها: أنا بنت المعالي أتيه تيها.. الخ، التي تعكس الواقع الاجتماعي المتحرر فكريّا بتلك الحقبة الزمنية؟!.
 
للأسف في بلد كبريطانيا، نجد صور ويليام شكسبير وفرجينيا وولف وتي. إس. إليوت وغيرهم، معلقة في واجهة المكتبات العامة، كتقدير لهؤلاء الأدباء الذين أفنوا حياتهم من أجل الارتقاء بالإنسانية، في الوقت الذي يتم فيه تحريف تراثنا الأدبي، وتجاهل مفكرينا عمدا، وتكفير بعضهم!!.
 
متى نصل إلى هذه المرحلة المضيئة؟! هل يجب أن يتساقط أدباؤنا يوميا على قارعة الطريق، لكي نصل إلى بوابة الحضارة؟! هل يجب أن تظل الوصاية قائمة على الفكر، بحجة أن مجتمعاتنا ما زالت بدائية تحتاج دوما إلى تقليم أظافرها، حتّى لا تغرسها في وجوه من يدّعي حمايتها من الانزلاق؟! أكاد أشك في النوايا!!.