النهل من بئر المجون

النهل من بئر المجون

النهل من بئر المجون

الجمعة 2/6/2006

 
قرأت على الإنترنت خبراً نشرته إحدى الصحف السعودية، مضمونه أن أحد المواطنين السعوديين البالغ من العمر ستين عاماً، بعثر راتبه التقاعدي المكوّن من 800 ألف ريال سعودي، في الملاهي والمراقص الليلية. ورجل ستيني آخر، اضطر إلى التسوّل ليسدد ما عليه من ديون، بعد أن ضيّع كل مدخراته في اللهو والعبث. ويتساءل كاتب التقرير عمن يتحمل المسؤولية عن مثل هذه التصرفات اللاأخلاقية؟!.
 
بلا شك، الفرد الخليجي يتعرض للابتزاز المبطن في عدد من البلدان العربية التي يُسافر إليها، نتيجة للنظرة التقليدية إليه بأنه قادم من أرض النفط التي تتمرّغ فيها بلاده، إلا أننا يجب أن نسأل إن كان الرجل الخليجي بالفعل ضحية لهذه المجتمعات، التي تُعاني شريحة كبرى من أهلها من الفقر؟! أم أن القضية تنحصر في نهم نوعية معينة من الرجال الخليجيين، في الركض خلف المحرَّمات الوقتية وإن كانت الأثمان فادحة؟! وما المغزى من رمي هذا الرجل وأمثاله، مخزون عمرهم تحت أقدام الساقطات، دون أن يُفكروا في العواقب المترتبة عليها؟!.
 
لا أدري لماذا دوماً نُصر على أن نرمي وزر أخطائنا على غيرنا!! الانحراف المفتوح على مصراعيه دمار على المجتمعات، ومن الممكن توجيه اللوم للمجتمع لغضه النظر عمّا يجري، لكن كذلك يجب أن نوجه اللوم الأكبر للمرء، الذي يجري خلف أحلامه المارقة دون أن يوقفها عنوة حين يلفاها تخرج عن طوعه!!.
 
هناك ما يُسمى بمجون العقل، فعندما يفقد المرء القدرة على تحقيق التوازن داخل نفسه تبدأ رحلة الانفلات، فجميعنا تربض في جزئية من عقولنا أحلام متباينة النوايا، منها ما هو عقلاني، ومنها ما يتعارض مع أعرافنا. قد نُطلق لها العنان طواعية لكي تتحقق على أرض الواقع، إذا وجدت المناخ مهيأ لها لتتبختر في الهواء الطلق، غير آبهة بالعيون التي ترشقها بسهام اللوم والتقريع!! أو قد نكبحها بإرادتنا حتّى نُكمل طريقنا بلا عواصف رملية!!.
 
القيم جميلة حين نجعلها من أولويات حياتنا، لكن حتّى المبادئ لا يمكن وضعها في خانة واحدة، لأن النظرة إليها تختلف من مجتمع لآخر، بل وتتغيّر من عصر لعصر، وكذلك حسب رؤية الإنسان لنفسه ولأسرته وللمحيط الذي ينشأ ويعيش فيه.
 
مشكلتنا في عالمنا العربي، أن الإنسان العربي لم يتعوّد كيف يعقد صلحاً مع نفسه، ومع مجتمعه، فهو منذ ولادته مُحاصر بالرقابة الأبوية التي لا تعلِّمه كيف يتحمّل مسؤولية تصرفاته، ثم يُسلمه أبواه إلى المؤسسة التعليمية التي تُمارس سطوتها الفعلية عليه، من خلال مناهج عقيمة لا تُحرّك نبضات فكره، والتلويح بعصا الترهيب في وجهه، لو فكر في المروق عن شرائع مجتمعه، مما يجعله يكبت كل ما بداخله في جراب الخوف، وما أن يدخل الحياة العملية، حتّى يُفاجأ بسلسلة من الأقماع، متمثلة في عدم أحقيته في إبداء رأيه، إلى فرض الوصاية الجبرية على كل ما يقوله، ويفعله، وينتهجه، والنهاية جيش من الأفراد مسلوبة إرادتهم، يجرون خلف أهوائهم بلا روية أو تفكير.
 
قد يكون شيئاً مقرفاً على المرء الذي تجرّع الشيخوخة، أن يبعثر أحلامه المارقة على أبواب الرذيلة والفسق والمجون، لكن أحياناً كثيرة التشبث بما بقي من العمر، يدفع المرء إلى الارتواء من بئر الحرمان، الذي عاش طويلاً ينظر إليه بنهم من ثقب الباب، ويجفل عند الاقتراب منه، وما أكثر آبار الحرمان في مجتمعاتنا العربية!!.