كساد سوق الحرْف

كساد سوق الحرْف

كساد سوق الحرْف

الجمعة 3/11/2006

 
نقرأ ونسمع كل يوم عن الأرقام الفلكية التي يحصل عليها الفنان من حفلة غنائية يقيمها، أو فيديو كليب يُشارك فيه، إلى درجة أن بعض الفنانين باتوا يُصنّفون من الأثرياء ولم يمر على مشوارهم الفني سوى سنوات قليلة، مما يرسم علامة استفهام كبرى حول مستقبل الثقافة التي لم تعد تُؤكّل عيشاً، وتدفع الأديب والكاتب والصحفي إلى المقارنة على استحياء بين الدخول الضخمة للفنانين، وبين دخله المتواضع الذي يُعد قطرة في بحرهم، متحسراً وهو صاحب القلم على عصر الإسلام الذهبي، الذي كان فيه الملوك والأمراء والساسة يُغدقون الدراهم على الأدباء والشعراء، ويتمتعون بحظوة عالية عندهم، وينفقون مبالغ ضخمة على دور العلم والمعرفة، وهو ما يُؤكد على أن دنيا الحرف تعيش حالة من الكساد كنتيجة حتمية للخواء الفكري المتوغّل في بنية مجتمعاتنا.
 
طفت هذه التداعيات على سطح أفكاري وأنا أقرأ خبر تبرّع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بمبلغ خمسة ملايين درهم لدعم ميزانية صندوق التكافل الاجتماعي الخاص بجمعية الإمارات للصحافيين، لكي تتمكن من الإيفاء بالتزاماتها، التي من ضمنها تسديد القروض الخاصة بعدد من الصحافيين، للتخفيف عن معاناتهم المعيشية. وهي بلاشك لفتة أبوية جميلة، خاصة وأن الأدباء والكتّاب والصحافيين في جلِّ الدول العربية لا يتم دعم أعمالهم ماديّاً، ولا يستطيع إلا قلة منهم التفرّغ لنتاجهم الفكري نتيجة لمطالبهم الحياتية.
أتذكّر أنني قرأت منذ فترة، مقالاً طريفاً للزميلة جمانة حداد، تحدّثت فيه عن حوار دار بينها وبين صديقتها الشاعرة السويدية، التي بثت لها لواعجها، وشكت من تقصير الحكومة السويدية في دعم أدبائها، مسترسلة في أن الدعم المادي الذي تخصصه الدولة للأدباء على اختلاف توجهاتهم بالكاد يكفي لتسديد إيجار البيت وتكلفة التنقلات ولدفع فواتير الكهرباء والهاتف والمياه والتدفئة والخليوي.
أنا واثقة بأن كل من ينتمي لعالم الحرف، وهو يقرأ تبرّم هذه الشاعرة من تضييق حكومتها يدها على أدبائها، سينعتها بـ”البطرانة” متمنّياً لو أنها استطاعت التجنّس بإحدى الجنسيات العربية لتعرف قيمة العز الذي تحيا فيه، ولقلبت كفها وجهاً وظهراً على النعمة التي تتمرّغ فيها، ولحمدت ربها على ما أسبغ عليها من كرم.
 
جميعنا يعلم أن الصحافي في بلداننا العربية بالكاد يتحصّل على قوت يومه من الصحيفة التي يعمل بها مقابل ما يُقدمه من تحقيقات أو حوارات، أو يجلبه من أخبار ساخنة. والأديب لا يستطيع التفرّغ لنتاجه الأدبي وإلا مات هو وأسرته من الجوع. إضافة إلى وقوفه أمام أبواب دور النشر حتّى تتعطف عليه، وإذا أسعفه الحظ ونجح في أخذ موافقة واحدة منهن على تبنّي نشر إبداعاته، نال أجراً زهيداً على عمله الذي سهر من أجله الليالي، وأهدر الساعات لكي يخرجه للنور.
 
إن معضلة الأديب والكاتب والصحفي في عالمنا العربي كبيرة، فهو إن نجح في إيجاد موقع مناسب له في صحيفة محترمة، عانى من جانب آخر من احتكار دور النشر لنتاجه. وإن نجح في تجاوز الاثنتين تعرّض قلمه للمضايقات والمحاصرات والاستجواب القسري من قبل حكومة بلاده، إذا كان قلمه نزيهاً وسنّه لمواجهة سلبيات مجتمعه. في كل الحالات الكاتب والصحفي والأديب العربي يحمل روحه على كتفيه، ويدفع طوال الوقت أثماناً باهظة مقابل عشقه للحرف، لكن متى كان العشق بأيدينا، إنه قدر جميل مهما كانت قسوة ما ينال صاحبه بسببه.!