تطويع ضربات أوجاعنا

تطويع ضربات أوجاعنا

تطويع ضربات أوجاعنا

الجمعة 17/11/2006

 
من منّا لم يُغلِّف اليأس قلبه؟! من منّا لم يتعرّض لوعكة حياتيّة؟! من منّا لم يقعد في غرفته يوماً، ويذرف الدمع صامتاً على أمنية تسللت بغتة من بين أصابع يديه، أو هدف تبخّر أمام عينيه بين عشية وضحاها، أو واقع تسرّب من تحت قدميه دون أن يشعر بمروره؟! من منّا لم يحس بالرغبة في تحطيم أشيائه الثمينة، في لحظة من لحظات ضعفه الإنساني، نتيجة صدمة، أو انتكاسة؟! من منّا لم يشعر بضآلة الدنيا في ناظريه حين تصيبه ضربة موجعة من الحياة، وتجعله يقتنع بأن السعادة وهمية، والفرح شبح لا وجود له، والراحة صعبة المنال؟! من منّا لم يحس في لحظة من لحظات الوهن الآدمي بالرغبة في الصراخ، وفي رمي نفسه من أعلى القمم، ليحرر نفسه من عذاباتها؟! من منّا لم تتسرب الغيرة لدواخله في ومضة من ومضات حب الذات، حين يجد الآخرين ينعمون بما ضنّت عليه الأيام؟! من منّا لم يُسيطر عليه الحسد ولو لهنيهة، من الهبات التي يهبها الله لغيره من الناس، وهو يقف بعيداً متحسّراً على ما بخلت عليه الحياة؟! من منّا لم يُجافِ النوم جفنيه في ليال باردة، حين يشعر بالعجز وقلة الحيلة على تجاوز محنة ما، أو مصيبة حلت عليه، أو أمنية فشل في تحقيقها؟!.
 
لا أحد لديه ورقة أبدية مضمونة من الحياة، جميعنا بلا استثناء أحس بمرارة الوجع في حلقه، وذاق طعم الانتكاسة في جوفه، وناله نصيب من غدر الزمن، لكن الاختلاف بين البشر يكمن في قدرة كل فرد على تقبّل مفاجآت الحياة. فهناك من يقف عاجزاً عن المضي قدماً، مفضلاً إنهاء حياته في لحظة يأس عارمة. وهناك من يقفل على حياته نادباً حظه العاثر، دون أن يحاول تغيير واقعه. وهناك من يتقبّل مصيره بنفس راضية، ويحاول تطويع آلامه، والتكيّف مع عذاباته، واستثمار تجربته القاسية من أجل الآخرين.
 
إن مقولة “فاقد الشيء لا يُعطيه” من وجهة نظري خاطئة، فكم من البشر حُرموا من دفء الأسرة، وأغدقوا حبهم وحنانهم على من حولهم. وكم من أناس أصابتهم سهام الغدر من أقرب الناس إليهم، فزادهم هذا وفاء لغيرهم. وكم من أناس حُرموا من نعمة الصحة، فسخّروا أموالهم وطاقاتهم من أجل محاربة الأمراض اللعينة التي تسللت لأبدانهم، وحالت بينهم وبين التمتّع بمباهج الحياة.
 
الممثل الراحل كريستوفر ريف، الذي اشتهر بأداء دور “سوبرمان” في سلسلة أفلام سوبرمان، كان تاريخه الفني قد انتهى بسقوطه من على صهوة حصان عام 1995، وهو ما أدّى إلى إصابته بشلل رباعي أقعده على الكرسي ما يُقارب عقداً من الزمن حتّى وفاته عام 2004.
 
لم يجلس كريستوفر ريف في منزله يجترُّ ذكرى أمجاده الفنية، بل قام بإنشاء مؤسسة باسمه تنصب في إيجاد علاجات للمصابين بالشلل، وأطلق حملات تدعو الكونجرس الأميركي لتمويل أبحاث خلايا المنشأ المرتبطة بعلاج إصابات العمود الفقري. واليوم يقوم أبناؤه بتكملة المسيرة من بعده في حث المجتمع الأميركي على تحسين ظروف أربعة ملايين مصاب بالشلل في الولايات المتحدة.
 
لا تبتئس إذا أدارت الحياة لك ظهرها، أو خاب أملك، أو سقطت في دروب أيامك تطلعاتك التي ربيتها في حجرك، تأكد أن في هذا العالم أناساً تعرضوا لأضعاف ما تعرضت له من فواجع. سخّر آلامك لما فيه النفع لمن حولك، فآدميتنا أحياناً كثيرة تنبع من عطاءاتنا للآخرين، وسعادتنا تنبثق في مقدار ما نُقدّم لأحبائنا.