القضية النبيلة والهدف الرخيص

القضية النبيلة والهدف الرخيص

القضية النبيلة والهدف الرخيص

الجمعة 24/11/2006

 
كلما قلَّبتُ في كتب التاريخ، وقرأتُ عن العظماء الذين غيَّروا مجرى التاريخ، ونهضوا بمجتمعاتهم، من قادة ومفكرين وساسة، أتساءل: هل من حق المرء أن يُضيِّع عمره من أجل الدفاع عن قضية آمن بشرعيتها، والمحاربة بكل نفيس من أجلها؟!.
 
جميعنا يُدرك أن كل ثورات العالم من أقصاه إلى أدناه، قامت على أيدي أناس ضحوا بأرواحهم مقابل أن يروا قضاياهم تتجسد على أرض الواقع، وكم من ملوك ورؤساء غابت أسماؤهم بموتهم، وعاشت أفكار ونظريات علماء ومفكرين اضطهدوا في حياتهم، وعانوا الأمرَّين داخل مجتمعاتهم، وكان كل ذنبهم أنهم سبقوا زمانهم بمعتقداتهم.
 
لا أتذكَّر قائل عبارة “كل ما نفعله لأجل أنفسنا، يموت معنا. وما نفعله من أجل البشرية يُخلَّد بعد رحيلنا”. لكنها مقولة بلاشك تنطبق على الكثير من أوجه الحياة. ففي كل مجتمعات الدنيا، هناك أناس عاشوا من أجل متعتهم الذاتية، وهؤلاء اندثرت ذكراهم لحظة أن وارى أجسادهم التراب. وهناك من رأى أنه جزء من هذا العالم، وأن الحياة الحقيقية تلك التي يؤمن الإنسان فيها بقضية ما، يُحارب من أجلها، ويرددها على شفتيه، إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يتغنَّى بعشقها.
 
لكن هل كل قضية تستحق من المرء أن يُضحي بالغالي والنفيس من أجلها؟! لماذا يستميت البشر من أجل قضاياهم، ويُضحون بأرواحهم من أجل أن يبذروها في أرض واقعهم؟! هل إحساس الإنسان بآدميته، يقوم على تشبثه بقضية ما؟! ألم تقم حضارات الدنيا على فكرة أو حلم أو خيال تبناه صاحبه؟! ألا يعتبر هذا الرأي مبالغاً فيه، كون قضايا الإنسانية يختلف نسيجها من مجتمع لآخر، وهو ما يدفع البعض إلى تقبّلها، وقيام البعض الآخر برفضها؟! ألم يهلك ملايين السود على مدى عقود، من أجل قضيتهم المتمثلة في التحرر من العبودية، ولتنشقَّ نسائم الحرية والمساواة؟! ألم تكن هذه القضية المصيرية، الحلم الذي يُراود كل أفريقي أسود، والسفن الأوروبية تُبحر محملة بالآلاف منهم، لتقوم ببيعهم على شواطئ أوروبا وأميركا؟! ألم يُقتل الزعيم مارتن لوثر كينج برصاص غادر وهو يُنادي بتحرير الزنوج في أميركا؟! ألم يقضِ الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا سنوات طويلة في السجن لتمسكه بقضيته العادلة في القضاء على التفرقة العنصرية في بلاده جنوب أفريقيا؟! ألم تكن قضية التحرر من نير الاحتلال، التي حملها على أكتافهم المناضلون في كل زمان ومكان، ودماء الأحرار التي جرت على الطرقات، هي التي أدت إلى تحرير الأوطان من المستعمرين، الذين رضخوا في نهاية الأمر وسلموها لأصحابها؟!.
 
لقد علّقت زوجة والد شارون إليوت، الجندية البريطانية التي قُتلت في العراق، عن عمر 34 عاماً بالقول: “.. لماذا كان عليها أن تموت من أجل قضية بهذا الغباء!!”.
 
يقولون إن الأشجار التي تموت باسقة، خير ألف مرة من الأشجار التي تستسلم لطامعيها، وتتركهم يجزون جذوعها بلا رحمة، ويستبيحون أغصانها لاستخدامها في التدفئة بليالي الشتاء القارصة!! هناك شعرة رقيقة تفصل القضية النبيلة عن الهدف الرخيص، وموت الإنسان من أجل قضية نظيفة تُجبر الكثيرين على رفع القبعة له، واحترام ذكراه، كون مساره في نهاية الأمر مرتبطاً بالشرف. لكن أن يموت المرء من أجل أطماع ذاتية، أقل ما يُقال عنها أنها أوهام هزيلة، هنا يكون قد أهدر عمره بلا طائل، وما أكثر الناس الذين انتهى مصيرهم في مزبلة التاريخ!!.