الإنسان البسيط… والأوطان المتخاذلة!

الإنسان البسيط… والأوطان المتخاذلة!

الإنسان البسيط… والأوطان المتخاذلة!

الأحد 16/9/2007

 
من يُتابع إعلامنا العربي وعلى الأخص المرئي منه، ويُشاهد بأم عينيه بُعدَه عن هموم الناس، وتقاعسه عن قضاياهم، يعتقد أن شعوبنا العربية متخمة بالرفاهية، ليس عندها مشاكل، ولا تُعاني أي شكل من أشكال المعاناة، ولا تفتقر لأقل المستلزمات الحياتية، وأن الإنسان العربي ينام قرير العين، لا تُنغص حياته أي معوقات مادية أو معنوية، بل الدنيا من حوله متعددة الأطياف والألوان مثل قوس قزح، يسمع عند كل إشراقة صُبح، عصافير السعادة تُغرّد حول بيته!.
 
لقد غدا مألوفاً على أي إمرء وهو يُقلّب قنوات التلفاز بالريموت كونترول، مُتابعة أعداد هائلة من البرامج الترفيهية المتنوعة، من مسابقات مقتبسة أغلبيتها من برامج أجنبية، إلى مسلسلات مشوقة لا تمس الواقع المعاش، إلى تسابق في فن العري الراقص المصاحب لأغلبية أغاني “الفيديو كليب”!.
 
ما أهمية الإعلام إذا لم يُركّز على حال المواطن العربي العادي المقهور؟! ما قيمة الإعلام إذا لم يتحدّث بلسان الفرد البسيط الذي يعيش كل يوم انتكاسات وخيبات من حكومات بلاده؟! ما الفائدة المرجوة منه إذا لم يفضح الفساد، ويُحارب الواسطة، وينتقد المسؤولين الذين تقاعسوا عن أداء مهماتهم وتخلفوا عن واجباتهم؟! ألا يُعتبر الإعلام منبرا للضمائر الحية؟!.
 
لو كان الأمر بيدي لطالبتُ بضم مسمى الفساد الإعلامي، إلى قائمة الفساد الإداري والمالي والسياسي، المنتشر مثل النار في الهشيم بأرضية مجتمعاتنا العربية، ولكتبتُ بخط أحمر قانٍ بجانبها كلمة أخطرها!.
 
لقد ساهم الإعلام المرئي، بسبب شراهته المفرطة في استقطاب أكبر عدد من المشاهدين، إلى تفاقم معاناة الفرد العادي، وفي زيادة الضغوطات النفسية عليه! كيف يشعر بالرضا ويستسلم للقسمة والنصيب، وهو يرى قوالب الحلوى الغالية الأثمان وبمختلف الأنواع والأحجام تُعرض أمامه على شاشة التلفاز، وهو يقف مكتوف اليدين غير قادر على تملّك أيٍ منها لقلة حيلته؟!.
 
في الآونة الأخيرة، ومع ارتفاع أسعار المواد الغذائية في عدد من الدول العربية وعلى الأخص الخليجية منها، ثارت الكثير من الأقلام على تجاهل حكوماتهم لقضية الغلاء وتأثيراتها السلبية على المواطن ذي الدخل المحدود، وعدم تصدّي المسؤولين لها بحزم وجديّة، ومعالجتها باستخفاف وسطحية. والمتابع لشبكة الإنترنت سيُصاب بالذهول وهو يقرأ كم المقالات المجهولة النسب والهوية لأناس قرروا أن يُعبروا بأقلامهم عن استيائهم من حكومات بلدانهم ومواقفها السلبية، في انتقاد وزير، أو شتم مسؤول، ضامنين أنهم لن يتعرّضوا للمساءلة القانونية، حيثُ أصبح الإنترنت مكاناً للتنفيس عن الغضب المكنون وبحرية مطلقة بعد أن أصاب الصمم أغلبية وسائل الإعلام العربية!.
 
هشاشة جسر الثقة بين المواطن العادي وحكومات بلاده، جعلت الفرد العادي يُدير ظهره لقراراتها، بل ويستهزئ بالتصريحات التي يُطلقها بعض مسؤوليها للتخفيف عن معاناته، وهذا يعود إلى أن جلَّ مجتمعاتنا العربية تفتقد لمبدأ العدالة الاجتماعية على أرضها، والإنسان العربي أرخص شيء في أوطانه، من الممكن أن يُباع من أجل مصلحة عامة، أو مقابل صفقة دولية مشبوهة، وهي من الفروق البارزة بين المواطن العادي في الدول النامية ودول العالم الثالث، والمواطن في الدول المتحضرة الذي يحترم أنظمة بلاده ويحرص على دفع الضرائب الملزمة عليه، بل الإبلاغ عن كل من يتقاعس عن دفعها، كونه يعلم أنها تصبُّ في خدمة مصالحه. موقناً أن مبدأ المساءلة يطال الجميع، وأن لا أحد فوق سقف القانون، وأن هناك إعلاماً قوياً تُصاحبه أقلام حرة جريئة، قادرة على النهش في سمعة كل مسؤول تُسوّل له نفسه التلاعب بثروات وطنه أو استغلال منصبه لأغراض خاصة، وأن هناك مؤسسات تحمي حقوقه، وتحترم إنسانيته، وهو ما يفتقده المواطن العربي في بلاده!.
 
لقد وصل الابتلاء في مجتمعاتنا العربية إلى حد أن الفقراء باتوا يبيعون أعضاءهم من أجل أن يعيشوا ويكفلوا لأسرهم حياة كريمة! وهناك أسر صارت تتخلى عن فلذات أكبادها هرباً من شبح المجاعة! وفتيات قاصرات لم يجدن حلاً للخروج من دائرة الفاقة والعوز، سوى الارتماء في وحل الرذيلة بعد أن تخلّت عنهن أسرهن!.
 
لقد بيّنت دراسة أجريت مؤخراً أن الأمراض النفسية آخذة نسبتها في الارتفاع بدول العالم الثالث، نتيجة الحروب والفقر والمرض. نعم عندما يجد المواطن البسيط دنيا أوطانه تغلق أبوابها في وجهه، والسبل تُسد أمامه، لحظتها يتقوقع على نفسه ولا يجد مخرجاً سوى صنع عالم ينسجه بيديه الضعيفتين ليحيا فيه وحيداً، حتّى وإن كان عالماً من الجنون!.