الفول… يأكله فقط الفقراء!!

الفول… يأكله فقط الفقراء!!

الفول… يأكله فقط الفقراء!!

الأحد 18/11/2007

 
تابعتُ منذ فترة على واحدة من القنوات الفضائية العربية حواراً مع فنانة مخضرمة. وقد كانت المحاورة تقول لضيفتها ضمن سياق الكلام إن طليق الفنانة أخبرها أثناء لقائها الذي أجرته معه سابقاً، أنه التقى بطليقته الفنانة لأول مرة وهي سائرة على قدميها في الشارع، وأنها كانت تحمل في يدها ساندويتش من الفول. قاطعتها الفنانة قائلة لها بنبرة منفعلة.. عفواً لكنني أتذكّر جيداً أنه لم يكن ساندويتش فول وإنما كان ساندويتش جبنة بيضاء!.
 
لم أعرف حقيقة ما أهمية إن كانت الفنانة قد أكلت حينها فولاً أم جبنة!! كأن الفول وجبة لا تتناولها إلا الطبقة الكادحة! وليس خافياً على أحد أن الفول في أغلبية المجتمعات العربية باستثناء دول المغرب العربي، يعتبر طبقاً رئيسيّاً في إفطارها. ويكفي الطوابير الطويلة التي يقف فيها الناس أمام محلات بيع الفول طوال شهر رمضان ليزينوا به موائد إفطارهم حتّى أصبح الفول مرتبطاً بالعادات الرمضانية!.
 
لستُ هنا بصدد التحدّث عن مناقب الفول أو دحض علاقته الوثيقة بالفقراء. لكنني قصدتُ بسرد هذه الواقعة أن أبيِّن كيف يطمس البعض واقعة من ماضيه لمجرد ارتباطها بوجبة رخيصة!.
 
للأسف هناك ظاهرة شائعة في عالمنا العربي بين المشاهير من فنانين ولاعبي كرة بل ورجال أعمال يُشار إليهم بالبنان، يؤكدون في كل مناسبة صغيرة وكبيرة وأمام شاشات التلفاز وفي لقاءاتهم الخاصة، أنهم ولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب، وأنهم نشأوا في أرقى الأحياء، وتعلموا في أحسن المدارس، وتخرجوا من أعرق الجامعات، كأن الكد والكفاح غدا من علامات الانتقاص والدونية! غير مدركين تأثير هذه الصور المغشوشة على تفكير الأجيال الصاعدة التي تنظر بإعجاب وانبهار إليهم ومحاولة تقليدهم في أساليب حياتهم، للوصول إلى ما وصلوا إليه من مكانة اجتماعية، وما جنوه من ثروات طائلة.
 
ليس هذا فحسب بل إن أغلبية هؤلاء المشاهير يتنكرون للقرية أو المدينة التي أتوا منها، ويعزفون عن تقديم أي مساعدات مادية يُساهمون من خلالها في تطوير مجتمعاتهم التي شبُّوا على أرضها! في الوقت الذي نجد الكثير من نظرائهم الغربيين لا يتنكرون لأصولهم، ولا يخجلون من المجاهرة بتواريخ أسرهم. ولا يترددون في الاعتراف أمام جماهيرهم التي أحبتهم بحياة الضنك التي عاشوها في طفولتهم. بل وتجدهم منغمسين في هموم العالم، ومن وقت إلى آخر تراهم يدعمون مشاريع خيرية تعود بالنفع على حيهم أو بلدتهم أو مدينتهم!.
 
“أوبرا ونيفري” مذيعة التليفزيون الأميركية الشهيرة، التي أدرج اسمها ضمن قائمة أغنى النساء في العالم، لم تتنكّر يوماً لماضيها، بل تتفاخر دوماً بأنها أتت من بيئة فقيرة، وأنها تعرضت في طفولتها للكثير من المضايقات ولصنوف من الحرمان.
 
لقد قامت “ونيفري” في الآونة الأخيرة بالتبرع من مؤسستها الخاصة لإنشاء أكاديمية في جنوب أفريقيا موطن أجدادها الأصلي، وهي خاصة بتعليم الفتيات الفقيرات اللواتي لا يستطيع أولياء أمورهن الإنفاق على تعليمهن! وقد لفت نظري قيامها بالسفر إلى هناك لتقديم اعتذارها علناً لآباء الطالبات اللواتي تعرضن للمعاملة السيئة على يد واحدة من موظفات أكاديميتها.
 
هل قسوة الماضي ذريعة كافية لأن يوليها صاحبها ظهره، حينما تفتح الدنيا له ذراعيها على آخرهما؟! هل ضربات الأيام الموجعة تحوّل المرء إلى شخص قاسي القلب متبلّد الحس لا يعبأ بآلام الآخرين عندما تضحك له الحياة؟! كم جميل أن يضع الإنسان ماضيه نصب عينيه، ليس رغبة في قراءة صفحاته يومياً والتلذذ بعذاباته! ولا تشجيعاً للانشغال في تجميع رفات الماضي على حساب الحاضر والمستقبل! لكن بقاء الإنسان وفيّاً لماضيه، وجعله ماثلاً طوال الوقت أمام ناظريه، سيحثه على أن يكون أكثر تفاعلاً مع احتياجات الآخرين، وأكثر قدرة على الإحساس بمعاناتهم ومشاكلهم ومد يد العون لهم.
 
إلى جانب أن تعمّد المرء إسقاط ماضيه في هوة النسيان بكل تفاصيله المريرة، والتمرّغ في نعمه التي انهالت عليه، سيفصله عمّا يدور في العالم من حوله، وينمي بذرة الأنانية في أعماقه، وينسيه التزاماته تجاه بني جلدته، ويخلق فجوة واسعة بينه وبين الناس.
 
لقد سُررت وأنا أرى نجم الكرة الفرنسي الجزائري الأصل زين الدين زيدان وهو يُقدّم مباراة خيرية في القاهرة لدعم مشروع خاص بالأطفال المشردين في مصر. ما أحوجنا إلى لفتات إنسانية من هذا النوع يقوم بها كل من انتشله الله من جحيم الفقر ثمَّ حباه بنعمة الشهرة والمال والعيش الرغد.