علامة استفهام مُحيرة!!

علامة استفهام مُحيرة!!

علامة استفهام مُحيرة!!

الأحد 25/11/2007

 
عندما أُقلّب في كُتب التراث كطوق الحمامة أو عودة الشيخ إلى صباه أو العقد الفريد وغيرها من الكتب المتخصصة في الكشف عن المستور بصراحة متناهية، أنبهر من مساحة الحرية الفكرية الشاسعة التي كانت تحيا فيها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وعلى الأخص تلك التي بلغت ذروتها في عصور الحضارة الأندلسية. فهل كان أسلافنا متنكرين لدينهم ولتقاليد وأعراف مجتمعاتهم حين تعاملوا بصراحة مع شؤون حياتهم، أم أن الأمر يعود إلى المدى الذي وصل إليه وعي العقل العربي والإسلامي في تلك الحقب المضيئة من تاريخنا؟! تُرى هل كان مفكروهم ومثقفوهم أكثر جرأة في طرح القضايا الحساسة من مفكري ومثقفي اليوم، أم أن الأمر كله مرتبط بالأفكار المتطرفة وبالغلو الديني الذي سيطر بلاشك على كافة أوجه الحياة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية في زمننا هذا؟!.
 
وأنا على مقاعد الدراسة وفي حصص مادتي الحديث والفقه، كانت معلمات الدين يمررن مروراً سريعاً على الأحكام الفقهية الخاصة بعلاقة الرجل مع المرأة، حيثُ كانت معظمها أحاديث مروية على ألسنة أمهات المؤمنين، محتوية على شرح للعديد من المسائل الجنسية وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل معها. فكان صحابة رسول الله بعد وفاته إذا التبس عليهم أمر يأتون إليهن ويستشيرونهن فيه.
  
كنتُ في كثير من الأحيان أنصت لشرح معلمتي المقتضب وأجد نفسي لا شعوريّاً أرفع إصبعي مبينة لها أنني لم أفهم شيئاً مما قالته!! كانت تنهرني بلهجة حازمة.. احفظي نص الحديث وحكمه الفقهي كما هو.. غداً ستكبرين وتفهمين كل شيء!!.
 
كنتُ أعود للبيت وأشتكي لأبي من معلمتي وغلظتها معي وعدم فهمي للدروس الدينية، فكان يطلب مني الذهاب لأمي لتشرح لي ما غاب عني!! لكن النتيجة واحدة حيثُ كانت أمي تربت على رأسي وتنظر في وجهي مرددة مقولة معلمتي الشهيرة لكن بابتسامة حانية: غدا ستكبرين وتفهمين!!.
 
بالتأكيد صور كثيرة في حياتنا قائمة على طمرها تحت التراب، حتّى أصبحت سياسة المواراة هي الشعار الذي تنتهجه كافة المجتمعات العربية في التعامل مع أوجه الحياة، متعللة بأن هذا السلوك الملتوي الحذر سينصب بنهاية الأمر في مصلحة الأجيال القادمة وحمايتها من التشوه الفكري والانحلال الأخلاقي!!.
 
صحيح أنني مع نضج العمر تكشّفت أمام ناظري الكثير من وقائع الحياة التي ما انفككتُ في ماضي طفولتي البعيد أسأل عنها معلماتي ووالديَّ في البيت، لكن كم كنتُ أتمنى حينها لو أشبع أحد ممن حولي فضولي وحلَّ صرة تساؤلاتي بدلاً من انتظار قطار الأيام بمفاجآته ليفكَّ لي طلاسمها!!.
 
أتذكّر في لقاء أجراه معي الزميل تركي الدخيل، أنه طلب مني الرد على اتهام الكثيرين لي بأنني أكثف صور الجنس في رواياتي. متسائلاً إن كان فيه دعوة مبطنة إلى تعليم الجنس في المدارس؟! أومأت بالإيجاب مبررة دعوتي هذه بأن من الأفضل أن نُخصص مناهج للتثقيف الجنسي في المدارس بدلاً من ترك الأجيال الصاعدة تتخبط في الطرقات وتُمارس أفعالاً عشوائية مبعثها الجهل لا الإدراك!!.
 
ثارت الدنيا وقتها ضدي واُتهمت بأنني أدعو إلى الإباحية، وترك الحبل على الغارب بين أوساط الأجيال الناشئة. لكن الحقيقة التي لا مناص من تقبلها بقناعة أن التثقيف الجنسي للشباب في المدارس على أسس منهجية علمية سيجعل الطرفين الرجل والمرأة قادرين مستقبلاً على فهم بعضهما بعضاً. كما أن تطبيق هذا المنحى سيساهم في الحد من انتشار الأمراض الجنسية نتيجة إدراك كافة الأطراف بالعواقب الوخيمة إذا ما انزلقت أقدامهم في بؤرة الجنس المحرّم.
 
دفن مشاكلنا في قيعان المحيطات لن يجعلها تفلت من أضراس الحيتان القاتلة!! وحرق السلبيات عن آخرها في ميادين عامة لا يعني أنه تمَّ القضاء عليها إلى الأبد!! المواجهة ثم المواجهة ثم المواجهة، مع التسلّح بأدوات المعرفة السليمة هو الدرب الآمن لبناء مجتمعات يتمتع أفرادها بعقل ناضج، قادر على حل الكلمات المتقاطعة مهما كانت مستعصية، وعلى الرد على كل علامات الاستفهام المعلقة في الجدران!!