نزار… الشاعر الغاضب

نزار… الشاعر الغاضب

نزار… الشاعر الغاضب

الأحد 4/5/2008

 
كل مُبدع حقيقي مغروزة في أعماقه نبتة غضب، لا يمكن أن تُزعزع جذورها الزلازل، أو تقلعها من مكانها الرياح العاتية! هذه النبتة الأصيلة هي التي تُحرضه على الإمساك بقلمه الحر الذي لا يعرف مذاق العبودية، وعلى سكب ثوراته فوق الورق، دون أن يعبأ بالعيون المتطاير منها الشرر، والتي تتربّص به في الظلمة الحالكة!.
 
المبدع الحقيقي، ذلك الذي يملك مواقف واضحة تجاه مجتمعه والناس والأشياء من حوله، قد يُوافقه البعض عليها، وقد يُعارضه البعض الآخر، لكن لا يُمكن أن يطعن أحد في نزاهته أو يُشكك في ولائه، كونه لا يخضع للمغريات، ولا يُساوم على مبادئه، من أجل منصب أو مكانة أو مال! .
 
الساحة الثقافية أفرزت على مدار الأزمنة مبدعين كُثراً، لكن قلة منهم سجلوا مواقف مضيئة، ونجحوا في وضع بصمة مميزة بأرضية مجتمعاتهم، من خلال إثراء فكرها، لذا ظلّت سطورهم خالدة بعد أن رحلوا عن عالمنا الدنيوي، تتناقل مفرداتهم الأجيال المتعاقبة، وتردد حروفهم بفخر، وتتخذ إبداعاتهم النيرة نبراساً لها في مشوار عمرها.
 
الشاعر نزار قباني، الذي مر على وفاته عقد من الزمن، لم يفلح شاعر في سد ثغرته الشاغرة، مما يؤكد أن القمم المشعة تظل وفية للأشخاص الذين صعدوا إليها بنضالهم واعتلوها بمواقفهم. وليس صحيحاً أن القمم تقذف عظماءها إلى السفوح بمجرد أن تُفارق أنفاسهم الحياة، بل تظل وفيّة لكل من قدّم لها إبداعاً خالياً من الشوائب! كما أن المقولة الرائجة بأن القمم لا تتسع للجميع، مقولة جائرة، فالمبدع الذي يتغنّى الناس بإبداعاته بعد وفاته، تدل على أنه معدن نفيس، لا تُقلقه المزاحمة، ولا ينتابه خوف من سطوع نجوم، وتربّع آخرين على العروش، تاركاً التاريخ الذي لا يعرف المراوغة يقول كلمته جهاراً.
 
نزار قباني، لم يكن شاعر المرأة فقط، بل كان عاشقاً مولّهاً بقوميته العربية، ولم يخفِِ يوماً عشقه للأرض العربية. فبعد اتفاقية “كامب ديفيد”، أعلن نزار موقفه الرافض للتطبيع من خلال قصيدته الجميلة التي قال في بعض مقاطعها:
 
وصل قطار التطبيع الثقافي إلى مقاهينا. وصالوناتنا وغرف نومنا المكيفة الهواء. ونزل منه أشخاص غامضون يحملون معهم دواوين شعر. ومصاحف مكتوبة باللغة العبرية. ويحملون معهم جرائد تقول: إن شاعر العرب الأكبر أبا الطيب المتنبي. صار وزيراً للثقافة في حكومة “حزب العمل” (حزب صهيوني).
 
كان نزار يُقيم وقتها في مصر، لكنه لم يتحرّج من تسجيل اعتراضه، وفي سكب غضبه العارم على الورق، وهو ما اضطره إلى الخروج منها، بعد الهجوم الضاري الذي تعرّض له من قبل الإعلام المصري! حياة حافلة بالكثير من المواقف المجلجلة، تجاه مجريات الأحداث السياسية الدامية، التي عصفت بالأمة العربية في الحقبة التي عاش فيها، بجانب وقائع أخرى في حياته زاخرة بالأحزان والفواجع.
 
لم يتوقّف الجدل الدائر حول أشعار نزار بموته، بل استمر بعد وفاته، حين حاول متطرفون منع إقامة الصلاة عليه في جوامع لندن، ليؤكد التاريخ للمرة الثانية أن شعر نزار، كان يُخيف معارضيه بعد رحيله، كما كان يقضُّ مضاجعهم وهو حي يُرزق.
 
نزار قباني، قاد انقلاباً على تقاليد الشعر العربي، بالخروج من سماته القديمة، وتميّز شعره ببساطة مفرداته، وسلاسة أبياته، المغلفة بعنفوان فطري، ورؤى شامخة لا تعرف الخنوع، مما جعل شعره يتحدّث بلسان العامة وملاصقاً لقلوبهم، مُثبتاً بذلك أن الخروج عن المألوف ليس مجازفة وتهوّراً، بل قد يكون مغامرة تُحسم لصالح صاحبها مستقبلاً.
 
لقد برهن نزار قباني بشعره، على أن المبدع الحقيقي لا ينفصم قلمه عن قضايا مجتمعه، ولا ينعزل عن مشاكل أمته، وفي ذكراه العاشرة، ليس أجمل من أن يحمل كل مبدع حقيقي لواء الشرف ليشق به دربه، بعد أن أضحت الساحة الثقافية تعجُّ بمبدعين محسوبين على دنيا الإبداع، وهم في حقيقة الأمر أفاقون ومرتزقون، كل همهم الوصول إلى القمم بأية وسيلة، دون أن يعوا أن أنفاسها تضيق من ثقل أوزانهم، وعفونة رائحتهم، وستلقيهم بغتة من عليائها، دون أن تعبأ بصراخهم الذي سيشقُّ لحظتها عنان السماء!