الأوطان فوق المزايدات!

الأوطان فوق المزايدات!

الأوطان فوق المزايدات!

الأحد 18/5/2008

 
أجمل الأوطان، تلك التي تُحلّق الطيور في فضاءاتها بحرية، دون أن تجزع من بندقية صيّاد محترف! وأروع الأوطان، تلك التي يفوح من ترابها عبق الاستقرار. لذا فالأوطان لا تخضع للمزايدات، هي فوق المساومات، المنتصر في حربها خاسر، وتركة أوجاعها لا تندثر بل تحفرها ذاكرة التاريخ في أذهان الأجيال المتعاقبة! .
 
هل يكفي أن يُصرّح الإنسان بحب وطنه وهو مستلق في مخدعه؟! هل يكفي أن يتغنّى بجماله، ويغدق عليه عبارات الثناء، وهو يمشي في دربه؟! ألا يستلزم الحب تقديم تضحيات في سبيله، حتّى تظل رايته مرفرفة فوق الأقبية وعلى أسطح البنايات؟!.
 
كل فرد يعي قيمة وطنه وأنه من دونه يُصبح يتيماً! وكل إنسان يحلم بوطن آمن، لذا كل امرئ حبا الله وطنه بالاستقرار، يرفع يديه إلى السماء طليعة كل صبح، شاكراً ربه على نعمة الأمان التي يحيا فيها. نعم الفقر والعوز، مذلة وكرب وشقاء على صاحبه، وكم هو قاس على الإنسان أن ينام في العراء مع أطفاله الصغار دون أن يجد سقفا يأويه، أو يقف عاجزاً عن سد جوع أسرته وتلبية أبسط مطالبهم الحياتيّة! لكن الأكثر مرارة، حين يضع الإنسان روحه على كفه كما يقولون، وينام بعيون مفتوحة خوفاً من أن لا يطلع عليه نهار جديد!.
 
الجميع يتطلّع بقلوب واجفة، للأحداث التي تجري في غزة التي لم تزل تئن تحت وطأة الحصار. ومروراً بما يقع في أرض العراق من خراب منذ لحظة احتلالها إلى اليوم. ونهاية بما وقع في الأيام الماضية بالبلد الجميل لبنان، حتّى ألفت الأنظار على مشاهد الدمار والقتل التي تمر أمامها على شاشات التلفاز، دافعة كل عربي إلى التساؤل في نبرة تشاؤم حيناً، وبنبرة معجونة بالغيرة حيناً آخر. لماذا الأوطان العربية قدرها أن تتعرّض لأطماع ذوي القربى والغرباء على حد سواء؟! لِمَ تنزل على شعوبها كل هذه الأهوال، وتضربها الصواعق القاتلة، في الوقت الذي تنعم بلدان العالم الأخرى بالأمان والاستقرار؟! .
 
في أزمة لبنان الأخيرة، تأثرتُ بكلام عجوز لبناني، وقف يصرخ بأعلى صوته أمام كاميرات التلفاز.. وطني لبنان.. جنسيتي لبناني.. مذهبي لبناني.. طائفتي لبناني. كان صادقاً في عبارته، فلا شيء يُزعزع السلام، ويُفرّق بين أبناء الشعب الواحد، قدر تأجيج النعرة الطائفية، وإشعال فتيل المذهبية الدينية.
 
تدمع عيناي كلما وقعت على مشاهد الدمار التي حلّت بأراضينا العربية! فها هم العراقيون الذين عانوا الأمرين من حكم الطاغية صدام حسين، بات البعض منهم يحلمون بعودة يوم من أيامه، ليس تشبثاً بنظامه، وإنما لحنينهم إلى لحظة أمان حقيقية، بعد أن غدت آلة الموت تحصد المئات يوميّا، حتّى أضحى هذا المسلسل الدرامي من صميم حياتهم!.
 
وها هو الشعب الفلسطيني يستعيد بمرارة ذكرى نكبته التي مرت عليها ستة عقود، وبشهود عيان يُسردون تفاصيل المجازر التي تعرّض لها آباؤهم! ولبنان الذي لا نعرف هو الآخر إلى أي نفق مظلم يسير! .
 
بقع كثيرة في أوطاننا تئن وجعاً، تمشي كسيرة الفؤاد، شعوبها تحلم كل ليلة بكوابيس تقضُّ مضاجعها! هذه الحالة التي وصلنا إليها تعود إلى هشاشة الوعي الثقافي، وإقصاء الشعوب العربية عن المشاركة في صنع القرار داخل أوطانها، وضعف الإرادة السياسية، والسماح لقوى أجنبية خارجية بالتدخّل، دون أن يستوعب الساسة العرب دروس التاريخ جيدا! وأن الحل لا يكمن في فتح الباب أمام الغرباء لحل مشاكلنا، وإنما يكمن في إرساء معالم الديمقراطية الحقيقية، التي ستفرز تباعاً مؤسسات مجتمع مدني حقيقية قادرة على حماية شعوبها، والحرص على نشر ثقافة التعايش بين أبناء الشعب الواحد على أساس المواطنة، وليس على أساس المذهب أو الطائفة. كما يجب تحميل جزء من المسؤولية على النخب الثقافية التي للأسف أخذت أغلبيتها تهرول خلف مصالحها الشخصية، دون أن تدرك أن دورها الحقيقي ينصبُّ في حماية فكر أبناء مجتمعها.
 
الأوطان ليست لعبة شطرنج، كل من هبَّ ودب يشترك في تحريك أوصالها، دون أن يكون لدى المشترك دراية بأصول فن اللعبة! .
 
وأختتم بأبيات جميلة للأديب مصطفى صادق الرافعي:

 

“بلادي هواها في لساني وفي دمي.. يمجدها قلبي ويدعو لها فمي

 
.. ولا خير فيمن لا يُحب بلاده..
 

ولا في حليف الحب إن لم يُتيّم”.