الاحتراق باللهب… ليس كُفراً!!

الاحتراق باللهب… ليس كُفراً!!

الاحتراق باللهب… ليس كُفراً!!

الأحد 8/6/2008

 
أن يكون المرء صحفياً فهذا يتكرر يوميّاً، وأن يكون كاتب عامود أسبوعي فهذا يحدث كثيراً، لكن أن يُصبح المرء جسوراً في عالم يُكشّر له عن أنيابه، ويلوّح له بمخالبه الطويلة، بالتأكيد هذا شيء خارج عن المألوف في عالمنا العربي! وليس سهلاً في مجتمعاتنا التي تغوى التطبيل، ويهوى عدد كبير من مثقفيها السير مع ركب المداحين، أن يحتجّ فرد غيّور على ظلم لمسه بناظريه دون أن يلحق به أذى! أو يمتشق كاتب قلمه ليكتب عن مظاهر فاسدة تُهدد مستقبل وطنه دون أن يتلقَّ ضربة على رأسه! أو يُعرّي مُحارب صدره ليواجه بندقية جندي استولى على أرضه دون أن يقع مضرّجاً في دمائه!
 
كل الدنيا تزخر بأنذال يعيثون فساداً في أوطانهم، مؤثرون أطماعهم الذاتية على مصلحة أوطانهم! لكن على البر الآخر هناك أيضاً أبطال عشقوا أوطانهم حتّى الثمالة، وأخذوا على عاتقهم تحرير أرضهم من الاستبداد، وتنقيتها من بؤر العفونة، مسخرين أقلامهم النزيهة التي لا تعرف المهادنة إلى هتك المستور المخزي، مستخدمين أذرعهم المفتولة العضلات، لنبش المقابر وإخراج رفات الظلم لسحقها وتسويتها بالأرض!
 
عالمنا العربي مليء بالثغرات والمنعطفات الخطرة، فهناك الفلسطينيون الذين يناضلون على مدى ستين عاماً صباحاً ومساء دون كلل أو ملل، وكل أملهم منصب في استرداد أرضهم المغتصبة من الصهاينة. وهناك المعتقلون السياسيون الذين رمت بهم حكوماتهم في
 
غياهب السجون، ودبّرت لهم المكائد، حتّى تخرس ألسنتهم وتعوّدهم على لغة الخنوع والانصياع لقانون لا أرى لا اسمع لا أتكلّم!
 
من أروع الصور الإنسانية التي تثير شجوني، وينفطر لها قلبي، حين أتابع الحوارات التي تجرى مع أمهات لم يرين أبناءهن القابعين في السجون منذ سنوات طويلة. وزوجات يُعبّرن عن ألمهن لغياب أزواجهن وانتظار اللحظة التي يتم فيها الإفراج عن رفقاء عمرهن! وقد كان آخرها المشهد المؤثر الذي التقى فيه مصور الجزيرة سامي الحاج بأسرته في السودان، بعد أن قضى ست سنوات في معتقل جوانتانامو، منطبقا ًعليه المثل القائل “ياما في الحبس مظاليم” فكيف إذا كان هذا السجن سجنا سيئ السمعة!
 
مؤخراً احتفلت الأوساط الإعلامية بمرور ستين عاماً على صدور يوم الحرية العالمي الذي يضمن حق الفرد في الحصول على المعلومات ونقلها عبر وسائل الإعلام المختلفة. فهل كان بالفعل هذا الاحتفال توثيقاً لحرية الإنسان، وأن رياح التغيير تعم الساحة العربية، أم أن حرية التعبير وحياة الإنسان العربي الفكرية والاجتماعية في تراجع؟!
 
ما يجري من اعتقالات تعسفية في حق مفكرين وكتّاب وسياسيين معروفين بنزاهتهم،، والاستمرار في فرض قانون الطوارئ كمبرر للمحافظة على أمن البلاد، ومراقبة كل ما تُخرجه المطابع من كتب ومصادرة العديد منها، بحجة المحافظة على العقل العربي من الانحدار الفكري، دلائل تُفنّد الرأي القائل بأن الحرية تعيش أوج ازدهارها!
 
فضح الحقائق على الملأ مهما كانت تفاصيلها مرعبة، تصبُ في مصلحة الإنسانية، وتُضيء سماء البشرية. صحيح أن رافعي ألويتها يدفعون أثمانا مضاعفة، لكن ليس خافياً على أحد أن التاريخ يعج بأسماء مُجاهدين أحدثوا انقلابات جذرية داخل أوطانهم بفضل مواقفهم النارية.
 
هناك من يقول ماذا سيجني هؤلاء المناضلون، الذين
 
أضاعوا شبابهم خلف السجون، فالناس بطبعهم ذاكرتهم ضعيفة ولن يحفظوا جميلهم طويلاً! أقول لهؤلاء إن من يهدف إلى بناء مجتمع حر، لا ينتظر أن يغرقه جاره طوال الوقت بكلمات المديح، ولا يُطرب لدوي التصفيق، ولا يتطلع إلى منصب مرموق، ولا يأمل في نيل حزمة من الدولارات تُوضع في حسابه المصرفي! الذي يرمي جسده وسط اللهب، يحلم بأن يُصبح جسده المحترق شعاعاً يُنير دروب الأجيال القادمة كي لا تعيش زمانها في ظلمة حالكة!
 
يوم تفرغ المعتقلات من المناضلين الشرفاء، ويوم تُستعاد الأراضي المغتصبة من أيدي الصهاينة، وحين يُعبّر المثقف العربي عن رأيه في قضايا مجتمعه دون أن يلوّح له السّياف بحد سيفه! ويوم يتم التعامل مع الكتاب بموضوعية بحتة، دون أن يخضع لمشرط الرقيب، عندها يمكن أن نقول إننا نعيش عصراً ذهبيّاً، وإننا نملك جهاز شرطة دوره تنظيم المرور ولا شيء آخر!