القضاء بين فكي السلطة!!

القضاء بين فكي السلطة!!

القضاء بين فكي السلطة!!

الأحد 3/8/2008

 
المجتمعات في كافة بقاع الأرض لا يمكن أن تنهض إلا إذا عاش أفرادها في ظل دولة القانون. وهذه الأخيرة لا يمكن أن تحيا إلا في كنف العدل والمساواة اللذين يُعتبران حقين أساسيين من حقوق الإنسان التي أقرتها كافة الشرائع السماوية. ولا يُمكن تطبيقهما في معزل عن نظام قضائي حر يحكم بين شرائح المجتمع بهذين المكيالين.
 
لكن إذا كانت الأنظمة القضائية في أغلبية الدول العربية تابعة للسلطة العليا داخل بلادها، كيف يمكن أن يتحقق هذان الشعاران على أرض الواقع؟! كيف يُمكن للفرد العربي في ظل قضاء مُقيّد بأنظمة الدولة أن يأمن على حريته وسلامة أسرته، إذا قال كلمة حق أو وقف في وجه حاكم جائر، دون أن يتعرّض لبطش السلطة أو لانتقام صاحب نفوذ؟!
 
من المعروف أن أعداداً كبيرة من المثقفين على اختلاف توجهاتهم أقيلوا من مناصبهم، وقُضي على تاريخهم المهني، بتشويه سمعتهم والتشكيك في ولائهم لأوطانهم، وأُوقفوا غصباً عن الاستمرار في نضالهم السياسي، بسبب الأحكام الجائرة التي صدرت في حقهم من قضاة أعطت لهم سلطة بلادهم الإشارة الخضراء لكي تخرس ألسنة هؤلاء، ويكفّوا عن إزعاجها وقض مضاجعها! وهذا بالطبع يعود إلى أن السلك القضائي ينقسم أعضاؤه ما بين مُنساق للسلطة انسياقاً تاماً حتى ينال الحظوة، وإن كان على حساب ضميره النائم نوماً عميقاً قد لا يستيقظ منه أبداً. وما بين قضاة يتصفون بالنزاهة والأمانة، مُظهرين تبرمهم من هذه التبعية، فيتم إقصاؤهم وتجميد مسؤولياتهم كجزاء رادع لهم على نصاعة مواقفهم.
 
العالم الغربي يعي هذا جيداً، ويعلم أن القضاء العربي تنبثق أغلبية أحكامه من سياسات بلدانه، لذا ما أن يتورط وافد غربي في قضية داخل إحدى البلاد العربية، حتى تجد الصحف الغربية تشن هجوماً لاذعاً على الأحكام القضائية التي صدرت عن تلك الدولة، وتقوم الحكومة التي يحمل جنسيتها الشخص المتورط بإخراج أوراق ابتزاز من أدراجها تلوّح بها في وجه الحكومة العربية لكي تنصاع لمطالبها وتُطلق سراح الشخص المحتجز، وإنْ كانت هناك أدلة دامغة تكفي لإدانته بجُرمه! وهذا بالطبع لا يُمكن أن يحدث في دول الغرب، لأن ساحات القضاء هناك مستقلة، وأحكامها لا يُمكن أن تتدخل فيها السلطة، بل وتحترم قراراتها دون مناقشة! لذا من الصعب أن نقوم في صحفنا العربية بشن حملة مضادة، أو تُدافع الحكومات العربية عن أبنائها المعتقلين في السجون الغربية، وإن كان المحتجزون لديها قد قامت باعتقالهم دون براهين مقنعة تحت مسمى مكافحة الإرهاب.
 
مؤخراً صدر تقرير من مركز القاهرة لحقوق الإنسان، يُبين أن التشريعات التي تتبناها السلطات العليا في أغلبية الدول العربية، قد أساءت إلى استقلالية القضاء، وشوهت سمعته في دول العالم المتحضر، مبينة أن هذه التبعية تعود إلى أن تعيينات القضاة وترقيتهم يتم عن طريق السلطة العليا، مما يجعلها أكثر حرصاً في اختيار من يسيرون على هديها ويأتمرون بأمرها.
 
إن هذا يؤكد أن الإصلاحات التي تنادي بها لجان حقوق الإنسان، وكافة مؤسسات المجتمع المدني، لن تتحقق في أوطاننا العربية إلا بتعزيز استقلالية القضاء، واحترام الأحكام التي يقرها قضاة مشهود لهم بالنزاهة ويتسمون بالحيادية عند إصدار أحكامهم وبمعزل عن سياسات بلدانهم.
 
إضافة إلى وجوب إلغاء قانون الطوارئ الساري في عدد من الدول العربية إلى اليوم، والذي ساهم في رواج القمع وانتشار المزيد من مصادرة الحريات، بحجة المحافظة على أمن البلاد، دون أن تستطيع المحاكم التصدي لذلك أو وقف الاعتداءات التي يتعرض لها المواطن لخروجها عن نطاق السلطة القضائية.
 
نحن الذين “ضعضعنا” مكانتنا في العالم أجمع، فلو كانت حقوق المواطن تُحترم على أرضنا العربية، ولو استطاع كل فرد أن ينتزع حقه من فم مسؤول مهما قل أو علا شأنه، مسنوداً على قضاء عادل لوثق الجميع بما يُطلقه من أحكام، ولن تستطيع دولة مهما بلغت قوتها أن تُثني محكمة عن قرار اتخذته في حق أي فرد. ميزان العدالة سلاح يهابه الجميع، لكنه يبقى مظهراً من مظاهر التحضر وعنواناً بارزاً يقرُّ بآدمية الإنسان فوق أرضه.