البصمة المميزة لا تموت

البصمة المميزة لا تموت

البصمة المميزة لا تموت

الأحد 10/8/2008

 
كل المبدعين الذين خلّدهم التاريخ، صنعوا نجاحاتهم من خلال الأعمال الراقية التي تركوها بعد رحيلهم. لم يأتهم النجاح على أطباق من الذهب والفضة وهم قاعدون في أبراج عاجية، بل حفروا نجاحاتهم بأظافرهم إلى أن وصلوا أعلى القمم. هؤلاء المبدعون اكتشفوا مبكراً أن الموهبة وحدها لا تصنع إبداعاً خالداً. فالموهبة إذا لم يرعها صاحبها لابد أن تخبو في مهدها وينساها الناس، مثلها مثل ومضة البرق التي تُنير عنان السماء في لحظة خاطفة لكنها سرعان ما تختفي ليعمَّ من جديد الظلام الدامس.
 
هل شرط أن يكون المبدع موهوباً ليتأثر الناس بأعماله؟ هل نجاح المبدع مرتبط بما يُخلفه من أعمال أصيلة تصبح تراثاً خالداً ومرجعاً مهماً، تتعلّم من مضامينه الأجيال على تعاقبها؟
 
كثير من المبدعين في حياتهم تنهال عليهم الجوائز، وتلاحقهم كاميرات المصورين، وتتابع نشاطاتهم وسائل الإعلام، لكنها ليست دلائل ملزمة على عبقرية هؤلاء الأشخاص، بل هي وسائل مغشوشة تتلاشى بذهاب أصحابها.
 
فكم من مبدعين عاشوا في الظلال، لكنهم تركوا بصمات مميزة وأصبحوا خالدين من خلال الأعمال التي تركوها بعد رحيلهم، واستطاعوا تحريك البحيرات الراكدة داخل مجتمعاتهم، بل هناك من ساهمت إبداعاته في تغيير الكثير من الوقائع على الأرض. والذين لم يفلحوا في قيادة التغيير، استطاعوا بفنهم رصد المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، من خلال رواية أو قصة أو فيلم سينمائي أو لوحة تُجسد معاناة شعوبهم.
 
أنا من المعجبات بفن المخرج العالمي يوسف شاهين، وكانت تشدني كثيراً أفلامه التي قدمها للشاشة العربية. ورغم اتهام البعض له بأن مضامين أفلامه غامضة لا يفهمها رجل الشارع، فإن التأثير الذي تركته أعماله جعلته علامة مميزة، خاصة مع استمرارية هذا الفنان في العطاء إلى نهاية عمره، وعدم قدرة المخرجين الشباب على منافسته، مما أدحض هذا الرأي كون الفن الراقي يبقى مهما طال الزمن ولا يذوب بالتقادم. إضافة إلى أن هذا القول فيه إجحاف في حق هذا الفنان الذي كانت أفلامه علامة بارزة في السينما المصرية، وجعلته بالفعل فناناً حقيقياً من الصعب أن يشغل مكانته أحد على الساحة الفنية.
 
ما السر في نجاح يوسف شاهين؟! لماذا ظل مُخرجاً فريداً مع وجود أجيال من المخرجين الشباب في عصره، لكنه ظل خارج المنافسة، متربعاً على القمة بأفلامه الرائعة؟
 
أتذكر أنني قرأت له حواراً جميلاً يؤكد فيه أن الالتزام صفة مهمة للمبدع الحقيقي لكي يُقدم عملاً صادقاً. إضافة إلى أن المبدع يجب أن يتعايش مع الناس ويتوغل داخل حياتهم ويقترب كثيراً من همومهم ويطّّلع على مشاكلهم ويجتهد في جلب المعلومات من مصادرها الأصلية حتى يلامس أحاسيس الناس. مؤكداً أنه لم يهدف من وراء فنه إلى تحقيق الثراء الفاحش، ولم يسعَ يوماً إلى امتلاك قصر أو سيارة فخمة، بل كان جلّ همه التحدث بلسان الناس والتعبير عن قضاياهم، وهذا في رأيه مسؤولية غير سهلة. وقد ختم العبقري يوسف شاهين حياته بفيلمه “هيَّ فوضى” الذي أثار بالفعل لغطاً طويلاً في الشارع العربي كونه كشف عن الفساد المتفشي في سلك الشرطة، مبيناً سطوة رجالات البوليس على حياة البسطاء من الناس.
 
قارنتُ سلوك هذا الرجل بسلوكيات آلاف من المبدعين المزيفين المهووسين بالشهرة، الذين غاية أمنيتهم الوصول إلى القمم، بشراء الجوائز وصنع هالة إعلامية حولهم، دون أن يُدركوا أن رسالة المبدع الحقيقية رسالة سامية لا تنفصل عراها عن نبض المجتمع، وأن الفن الأصيل هو من يخلق حراكاً اجتماعياً ينتهي إلى إحداث تغييرات نحو الأفضل.
 
رحم الله المخرج يوسف شاهين، فغياب الجسد واندثار الصورة لا يعنيان أن المبدع قد انتهى في مجتمعه، فكثير من المبدعين المزيفين يعيشون بيننا ولا نسمع أنفاسهم، ولا نحس بوقع أقدامهم، يحيون لأنفسهم ولا يلقون بالاً لما يقع من سلبيات داخل مجتمعاتهم!
 
المبدعون الحقيقيون الذين أهدروا حياتهم من أجل مجتمعاتهم، ستظل أرواحهم محلّقة في الأفضية بأعمالهم المميزة.