في ربوع أصيلة

في ربوع أصيلة

في ربوع أصيلة

الأحد 24/8/2008

 
جميعنا بلا استثناء نُحب أوطاننا، قد نُوليها ظهرنا حيناً، وقد نزعق في وجهها حيناً آخر، وقد نتجاهلها عن عمد حيناً، لكن هذه التصرفات الطفولية لا تعني أننا جاحدون في حقها، أو كارهون لها، بل من منبع يقيننا أنها كالأم الحانية التي تعوّدت على أن تغفر لأبنائها زلاتهم وهفواتهم، وتتحمل دون تأفّف أصواتهم العالية.
 
لكن قلة من الناس من تُترجم حبها لأوطانها إلى أفعال على الأرض، وتسعى بكل ما تملك من تصميم وإرادة إلى ترميم أوصالها، وتجميل وجهها، وجعلها أجمل بلاد الدنيا. وقد طغى عليَّ هذا الإحساس عندما زرتُ أصيلة بمناسبة الذكرى الثلاثين لموسمها الثقافي.
 
لقد كان من أحلام حياتي زيارة أصيلة التي ذاعت شهرتها في الآفاق، مما أغراني إلى القدوم إليها دون تردد. تُجذبك هذه المدينة الصغيرة فتقع في غرامها منذ الوهلة الأولى. حبها ينساب إلى أعماقك بهدوء بسيط فلا تملك القدرة على مقاومته، بل تجد لذة في الاستسلام طوعاً لهذا الحب.
 
تسكّعتُ في أزقة أصيلة الضيقة، وتأملت مبانيها العتيقة التي يفوح منها عبق التاريخ، وتوقفتُ عند الجداريات الرائعة التي تُزين منعطفات مدينة أصيلة، والتي رسمتها ريشات فنانين كبار وقعوا في حبائل هذه المدينة الساحرة فبادلوها هياماً بهيام. وقادتني قدماي إلى شارع عبد المؤمن بن علي المزدحم بالسيّاح، واعتليتُ السور الذي يطل على المحيط الأطلسي، حيثُ أخذني هدير موجه، ومنظره الفاتن، إلى عالم أخّاذ يُحفّز على كتابة رواية مثيرة في فصولها.
 
بهرني قصر الثقافة الذي أعيد ترميمه، أخذني بنقوشه العربية البديعة إلى أجواء الأندلس، أحسستُ كأنني أعود إلى تلك الحقبة الجميلة، خاصة وأنا استمع إلى قصائد ولاّدة بنت المستكفي بصوت الفنانة “وعد” التي أحيت حفلاً في باحته على عزف آلة العود. واستمتعتُ بالحوارات الثقافية التي جرت هناك بين الضيوف على مائدة العشاء، ما بين مؤيّد ومُعارض ومُحايد لما يجري على الساحة العربية والدولية من قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية.
 
دعانا على العشاء في منزله الأستاذ محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، وكان في استقبالنا هو وزوجته. لقاء اتّسم بالود والحميمية. قصَّ علينا كيف بدأ مشروع أصيلة، وتحدث عن المعوقات التي واجهته لإنجاح مشروعه الثقافي فيها. كشف عن الصراعات التي تعرض لها لتحقيق أمنيته، وصعوبة تقبل الناس لهذا التغيير من منطلق أنها بطبعها تتمسك بقديمها، وكيف اجتهد ليخلق من هذا المكان معلماً ثقافياً وسياحياً يستقطب العرب والأجانب، مما ساهم في خلق فرص عمل للكثير من الشباب المغربي. وكيف استضاف في منتدى أصيلة سياسيين ومفكرين وأدباء على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم في مناخ من الحرية الفكرية.
 
هي بالفعل تجربة ريادية تستحق الإشادة، وقد سمعتُ البعض يقول إنها تجربة خاصة من الصعب أن تتكرر في أوطاننا العربية، خاصة أن الشباب يستعجل الحصاد، ولم يعد صبوراً مثل آبائه وأجداده ليقطف الثمار، وهذا الكلام في رأيي فيه إجحاف، لأن الشباب في النهاية يتأثرون بمجتمع القدوة، وإذا وجدوا من يقودهم إلى بر الأمان سينقادون خلفه ويتأثرون بأفكاره.
 
تساءلت في نفسي، وأنا أتابع حديث هذا الرجل الذي جعل هذه الفكرة نصب عينيه، وحوّل الحلم إلى حقيقة: كم من المسؤولين في أوطاننا العربية عندما يتركون مناصبهم، يلتفتون إلى إقامة مشاريع تعود بالفائدة على أوطانهم وعلى الأجيال الجديدة من الشباب؟ وكم من المسؤولين الذين وهم يجلسون على كراسي المسؤولية يُفكرون في احتضان الأجيال الجديدة، ومد يد العون لهم دون أن يجعلوا جلَّ همهم تأمين حياة أسرهم؟ تمنيتُ في قرارة نفسي أن يكون لدينا أعداد ولو قليلة من عينة هذا الرجل ويحذوا حذوه، لكي تصبح أوطاننا في خير.
 
وأنا أودّع أصيلة في ليلتي الأخيرة، تعمّدتُ أن أسترق النظر إلى وجوه زائريها التي يعلوها الحبور، وأشترى تذكارات محلية صغيرة من حوانيتها، وأمرُّ بعينيَّ على كل ما فيها، وأستنشق بعمق هواءها العليل، متسائلة: هل ستكون لي عودة؟ فعندما يتورّط أحدنا في العشق، من الصعب أن يتخلّى بسهولة عن معشوقه، ويحس بمرارة في حلقه وهو يُلقي عليه نظرة الوداع الأخيرة.