“أن ترحل”

“أن ترحل”

“أن ترحل”

الأحد 14/12/2008

 
في الآونة الأخيرة طرح عليَّ عدد من الصحافيين سؤالاً محدداً عن أهم كتب قرأتها في هذا العام، الذي يتأهب لوداعنا بعد أيام قليلة. والحقيقة أن هناك كتباً لم أستطع تكملتها بعد أن شعرت بالضجر من محتواها، وأسفتُ على المال الذي أنفقته في شرائها. وهناك كتب وقفتُ عندها، وتفاعلتُ معها، حيثُ نجحت أقلام أصحابها في الغوص داخل أعماق مجتمعاتها، وتحدّثت بجرأة عن الأمور الخافية الكامنة وراء الأستار!
 
رواية ” أن ترحل ” للأديب المغربي الأصل “الطاهر بن جلون” ليست رواية رومانسية يجد المرء نفسه يذرف الدموع على العقبات التي اعترضت طريق بطل وبطلة الرواية! ولا هي بالرواية البوليسية التي تجعل بؤبوي العينين يجحظان، وهما يتابعان بنهم وفضول فصولها لكي يكتشفا لغز الحكاية! لكنها رواية إنسانية تتحدّث بواقعية ممزوجة بحبكة روائيّة رائعة، عن المهاجرين الذين تغريهم أحلامهم بترك أوطانهم بحثاً عن الثروة والمال والحياة المرفهة.
 
رواية من الصفحة الأولى يفوح من صفحاتها أنين الشباب، الذين تتبخّر أحلامهم معهم على شواطئ أوروبا، حيثُ يتم القبض على من كُتب له النجاة، من قبل شرطة خفر السواحل بإعادتهم إلى ديارهم وهم يجرون أذيال الخيبة، مصرون بينهم وبين أنفسهم على إعادة الكرّة من جديد. أو عودة معظمهم إلى بلدانهم في نعوش مغلقة، بعد أن ماتوا غرقاً في البحر، هذا إذا لم يُصبحوا ولائم لحيتانه الجائعة.
 
رواية تُشعرك بالحزن، والشفقة، على شباب دفعوا حياتهم ثمناً لأحلام لم يستطع وطنهم تحقيق جزء منها لحثهم على البقاء! رواية تختلط فيها كافة الأوراق الحياتيّة، بما فيها من رغبات محمومة، إلى الجريمة، والانحراف الأخلاقي، وكله يُرتكب باسم توفير الأمان المفقود داخل الأوطان، والبحث عن ملاذ آمن من الفقر والبطالة والعوز، التي تعصف بشباب في زهرة العمر، يرى أن حل أزمته تكمن في الهرب من وطن خذله وأولاه ظهره، بالارتماء في أحضان الغربة!
 
تحدّث “بن جلّون” في روايته عن المراكب السرية لتي تقوم بها “مافيا” الهجرة غير الشرعية، الذين دفعهم الجشع والطمع إلى إغراء الشباب، وإطلاق الوعود المعسولة لهم بإيصالهم إلى البر الآخر من العالم، الذي يعني لهم الكثير!
 
على الرغم من أن الصحف العربية تُطالعنا يوميّاً على ما يجري من فواجع على شواطئ أوروبا، وتنشر صوراً مؤلمة عن غرق الكثير من هذه السفن على الشواطئ الغربية، التي تُخبئ في قاعها شباباً انصاع انصياعاً تاماً لحلمه، إلا أن الرواية تظل الأقدر على تجسيد الواقع المعاش، وإظهار الجوانب الإنسانية فيه، وهو ما جعل روايات من هذا النوع، مرجعاً مهماً عند الرغبة في معرفة الحالة الاجتماعية التي كانت تحيا فيها المجتمعات في أي حقبة زمانيّة.
 
“عز العرب” بطل الرواية الذي مات مذبوحاً على يد جماعة متطرفة، كانت أخته أكثر حظاً منه، وإن تعرّضت لصدمة نفسية بعد أن خذلها الرجل الذي ارتأت فيه زوجاً سيُحقق لها الدفء الأسري، لتختار قرار العودة إلى وطنها عن قناعة كاملة. وانتهاءً بسمية التي ضاعت كرامتها في الغربة بين بيوت البغاء، ثم عادت تائبة إلى ديارها، وهي واضعة الحجاب على رأسها.
 
أناس لم يجدوا في الغربة ملاذاً، بل صنعت منهم شخصيات مضطربة نفسيّاً، تائهة وسط موروثات ثقافية لم تستطع التأقلم معها، مما أوقعها في شباك الانحراف، وإنْ كان القليل منهم قد أسعف نفسه، واستجاب لنداء عقله، وقام بلملمة حوائجه قبل فوات الأوان، مقرراً العودة إلى أرض آبائه، قبل أن يجرفه تيار الغربة القاسي ضمن من جرف!
 
إن الأوطان مهما كانت قاسية على فلذات أكبادها من أبنائها، إلا أن قسوتها لا يمكن أن تصل إلى الحد الذي يجعلها ترمي بهم وسط البراكين الملتهبة لتكوي جلودهم دون رحمة! وهو ما تعمّد الروائي إيصاله في روايته المهمة “أن ترحل”.
 
رواية تقول لكل شاب خاب أمله في وطنه: لا ترحل، اصنع حلمك على الأرض التي شببتَ عليها وإنْ خذلتك… كرر المحاولة مرات ومرات، في النهاية ستنجح وإن كان التيار عالياً، لا بد أن تسترخي أمواجه ذات يوم!!