الحرية… ومحاكم التفتيش!!

الحرية… ومحاكم التفتيش!!

الحرية… ومحاكم التفتيش!!

الأحد 17/2/2008

 
حقيقة لا أعرف المغزى، وفي هذا التوقيت تحديداً- الذي تفاقمت فيه الاعتقالات التعسفيّة لصحافيين وكُتّاب رأي وناشطين حقوقيين- من وراء خروج وزراء الإعلام العرب بوثيقة البث الفضائي، التي ستؤدي في حال تطبيقها إلى فرض عقوبات صارمة على أي قناة فضائية تتعرض من خلال حواراتها وبرامجها لانتقاد أنظمة أو مسؤولين، أو تسعى إلى تأجيج الفتن الطائفية.
 
ما دور الإعلام الحقيقي؟! هل يقتصر دوره على تلميع الأنظمة والتطبيل للحكومات الفاسدة؟! هل ينصب همه في تغييب العقل العربي، بالترويج لبرامج هابطة وسطحية؟! هل مهمته تقوم على تلهية الشباب عمّا يجري حوله من إخفاقات وإسقاطات، بتخدير ذهنه بأغانٍ فاضحة تثير غرائزه؟! ما قيمة الإعلام إذا تعمّد غضّ النظر عمّا يجري في أزقة مجتمعاته الخلفية الممتلئة بالبؤر العفنة؟! هل الإعلام العربي خالص النية تجاه مجتمعاته ويهدف بالفعل إلى تنويرها، أم أن مهمته تقوم على تزويق الأخطاء وتزوير الحقائق والتعتيم على ما يجري من انتهاكات في الداخل؟!.
 
بالتأكيد مع انتشار شبكة الإنترنت في العالم، والتي أدّت إلى شيوع المنتديات على اختلافها، جعلت الحكومات العربية تقف عاجزة أمام الحد من انتشارها بالرغم من الإمكانيات الضخمة التي تملكها بعضها، وهذا يعود إلى أن الكثيرين، وخاصة الفئات الشبابية، وجدت فيها متنفساً رحباً للتعبير عن استيائها من الأوضاع المتردية داخل أوطانها، نتيجة تقلّص فرص العمل أمامها، وارتفاع نسب البطالة، وتلاشي الطبقة الوسطى، وازدياد أعداد الفقراء، واحتكار الثروات في أيدي فئة محددة من الأثرياء!.
 
عدد من المنظمات الحقوقية، وجهت انتقادات لاذعة لمضمون الوثيقة، بأنها ليست نقية السريرة، بل تهدف إلى تلميع الأنظمة من خلال تقييد حريات التعبير، وتضييق الخناق على ما تبثه الفضائيات العربية الرصينة من أخبار وتحليلات وحوارات.
 
بلا شك أن التبريرات التي أعلنتها الوثيقة الصادرة عن وزراء الإعلام العرب، والتي تُنادي بمراعاة أسلوب الحوار وآدابه، استخدمت بمهارة “مسمار جحا”، بوضع سياج متين من الحماية للأغلاط والإسقاطات المهنية التي يتورط فيها مسؤولون وأصحاب قرار هنا وهناك في العديد من الدول العربية.
 
حشر رقباء يُتابعون كل هفوة ويُلاحقون كل زلة لسان في البرامج المبثوثة على القنوات الفضائية، سيحوّل الإعلام الحر إلى نسخة مكررة من الإعلام الرسمي المنمّق الذي انصرف عنه الناس وأداروا له ظهورهم، بعد أن يئسوا من جموده، وأبواقه التي لا تكل من عزف نوتة موسيقية مملة مكررة! بجانب أن الناس وجدوا في الحوارات المفتوحة التي تُبث على الهواء مباشرة، متنفساً واسعاً للتعبير عن استيائهم عمّا يجري داخل أوطانهم، ولفضح الكثير من الأمور المستهجنة التي يتجرعون مراراتها كل يوم. كما أن تطبيق عقوبات رادعة في حق أي قناة تقوم بنشر الغسيل الوسخ على الملأ، سيؤدي إلى ترك الحبل على الغارب للحكومات الفاسدة، وسيساهم في تراجع حريات التعبير، وفي اتساع رقع الفساد، وإلى عودة محاكم التفتيش التي كانت سائدة في العصور الوسطى بطرق أكثر عنفاً في ردود أفعالها!.
 
مسكين الإنسان العربي، كل القرارات التي يُعلن عنها بين حين وآخر، تستخدمه ذريعة واهية لحماية مصالحه! لكن الحقيقة الواضحة للعيان التي يُدركها الصغير قبل الكبير، والصبي قبل الشيخ، أنها قرارات تُتخذ للتغطية على السلوكيات الجامحة التي تتورط فيها الأنظمة الديكتاتورية، وللتكتم على أخطاء مسؤوليها، بعد أن بات الناس يصرخون بأعلى صوتهم في منابر الإعلام الحرة، معبرين عن خيباتهم الحياتيّة التي يتجرعونها في صباحهم ومسائهم، نتيجة ضياع الذمم وانفلات الفساد وافتقاد مبادئ العدالة الاجتماعية!.
 
لقد أصبحت الحرية كبش فداء! الجميع يتحدّث باسمها وهي تعيش غيبوبة مفروضة عليها، ومحكوم عليها بالإقامة الجبرية في بيتها، تندب حظها العاثر، محاولة إيجاد منفذ للخروج من سجنها الذي فرضته عليها أنظمة قمعية لكبح جموحها وإعادة تربيتها من جديد!.
 
الحرية بلا شك هي حرية مسؤولة، لكن هذا لا يعني بتر يديها، وقطع لسانها، ونزع عينيها! من حق كل فرد أن يُنبّش في تربة بلاده لإخراج آفاتها، وزرعها بثمرات الخير لتوفير مستقبل آمن للأجيال القادمة. حرية واعية تُبيح للمواطن بناء وطن ينبض بالعدالة ويتنفس بالمساواة ويتغذى على احترام حقوق الإنسان.