اللعب على المكشوف!!

اللعب على المكشوف!!

اللعب على المكشوف!!

الأحد 29/3/2009

 
كل من يملك قوة نظر ثاقبة، يستطيع أن يرى من البعد السحب السوداء وهي تزحف على أفضية مجتمعاته العربية! وكل من لديه حاسة شم قوية، بات يتأفف من الرائحة العفنة التي تتسرّب لخياشيمه وهو يسير في طرقات أوطانه العربية. ففي كل شارع، وعند كل منعطف، بل وفي الميادين العامة، باتت مظاهر الفساد منتشرة، لا خوف يعجزها عن الخروج أمام الملأ، ولا حياء يمنعها من التسكّع بحرية في وضح النهار أو تحت جنح الليل! وكله يعود إلى أن النزاهة والأمانة صارت من الصفات الشاذة في مجتمعاتنا، من يتمسّك بها يُصبح منبوذاً بل وغريباً داخل وطنه وبين أبناء عشيرته، هذا إذا لم يُحارب ويُقمع حتّى يعود إلى رشده ويكفَّ عن دسِّ أنفه فيما لا يعنيه!
 
لفت انتباهي مؤخراً مقال لأحد الكُتّاب العرب، يُهاجم فيه شاعرا معروفا بسبب نيله جائزة كبيرة خاصة بالشعر العربي، مُشككاً في استحقاقه فعليّا لها! مُلمّحاً بين سطور مقاله إلى ظاهرة الفساد التي انتشرت مثل النار في الهشيم داخل الأوساط الثقافية العربية.
 
سواء كان كاتب المقال على حق في اعتراضه، أو مبالغا في شكه تجاه استحقاق هذا الشاعر للجائزة، إلا أنه قد أثار قضية بالغة الأهمية، في زمن ارتفعت فيه حمّى الجوائز حتّى أصابت عدواها كثيرا من المثقفين، وهو ما أدّى إلى حدوث طبخات صارت تجري بالفعل في الخفاء لمصلحة مبدع بعينه! وأن هناك صفقات مشبوهة غدت تلعب فيها العلاقات الشخصية والمصالح المشتركة لإرساء الجائزة على جنسية معيّنة، وإن كانت لا تملك موهبة حقيقية، ولا تنتمي لعالم الإبداع بل محسوبة عليه، في ساحة غدت تزدحم بأنصاف المبدعين من كل لون!
 
هناك مبدعون مغمورون بهرني نتاجهم الفكري عندما قرأته، لكنهم لا يجيدون الترويج لأعمالهم، ولا يفرضون أنفسهم على الأوساط الثقافية! كما أن بعضاً منهم يكرهون بطبعهم الأضواء ويفضلون البقاء في الظلال والعمل في صمت. وهناك مبدعون مزيفون، استفادوا من شبكة علاقاتهم في التهليل لنتاجهم الهش الضعيف، حتّى يُصفق لهم الجميع ويكتب التاريخ أسماءهم بأحرف من ذهب!
 
شيء مؤسف حقيقة! فبدلا من أن يقوم المبدع بمحاربة الفساد المتفشي في الأروقة السياسية والاجتماعية، ويحاول إصلاح الإعطاب والحد من تفاقم آفات الفساد التي تنخر بقسوة في بنية مجتمعه، انجرف هو الآخر خلف موجة مصالحه الخاصة، وصار يلهث خلف الجوائز وحوافزها المادية المغرية، ليحصل هو الآخر على مكانة ثقافية مهمة بعدما أصبحت الجائزة شهادة إثبات لمكانة هذا المبدع أو ذاك، ولكي ينال شيئاً من الحظوة التي ينالها السياسيون والمسئولون.
 
من حق كل مبدع أن يستهجن ما يجري على الساحة الثقافية، ويسن قلمه لفضح المستور ونعت ما يحدث بأنه لعب على المكشوف! لكنني حقيقة لم أُصدم بالجاري على الأرض بل أتوقّع المزيد من هذه المظاهر السلبية! فإذا كانت مجتمعاتنا العربية تعجُّ ببؤر الفساد السياسي والاجتماعي والفكري والديني، ولحق الفساد بساحات القضاء حيثُ صار هناك قضاة يحكمون حسب أهوائهم الشخصية، ومطامعهم الذاتية، ويتلاعبون بمقدرات الناس، فلماذا نستعجب أن يطال الفساد الساحة الثقافية العربية؟! ولماذا نعترض على ما أصاب الساحة الثقافية العربية من تردٍّ؟!
 
إن دور المثقفين أن يُطوّروا فكر الأفراد داخل مجتمعاتهم، ويحاربوا المظاهر السلبية بأقلامهم النزيهة، وأن يقوموا بالثورة على مظاهر الظلم والاستبداد، وأن يُطالبوا بإرساء معالم العدل والمساواة والحرية في أوطانهم، ويرمموا التصدّع الحاصل في أبنية مجتمعاتهم رأفة بالأجيال الجديدة التي لن تجد عندما تعي ما يدور حولها مجتمع القدوة لتحتذي به، مما سيجعلها تنقاد خلف الأفاقين وبائعي الذمم والضمائر، وهو ما سيؤدي على المدى البعيد إلى دقِّ ناقوس الخطر في مجتمعاتنا العربية!
 
إن تخلّي المثقفين عن مهامهم الحقيقية، والالتهاء بصنع أمجاد شخصية، سيخلخل بنية مجتمعاتنا من الداخل، وكم من أمم صنعت حضارات عظيمة ثم أولت وجهها عن مجتمعاتها مُغترّة بما أنجزته، إلى أن عاثت آفات الفساد في بنيتها فأدّت إلى انهيارها عن آخرها! فكيف سيكون الحال بنا ونحن نقتات منذ مئات السنين على مخلفات ماضينا المجيد!