ملعب الحياة… وظاهرة العنف!!

ملعب الحياة… وظاهرة العنف!!

ملعب الحياة… وظاهرة العنف!!

الأحد 17/5/2009

 
لم أذهب في حياتي إلى ساحة الملاعب لمشاهدة مباراة حية لكرة القدم، ولم أجلس يوماً أمام شاشة التلفاز لمتابعة إحداها، وإذا ضغط إصبعي خطأ على زر “الريموت كنترول” ووقف عند قناة رياضيّة أقلبها فورا دون تفكير.
 
وقد يُصادف أحياناً أن أخرج من بيتي في وقت تُبثُّ فيه واحدة من هذه المباريات، فارفع حاجبيَّ دهشة، وأنا أرى الناس الجالسين في المقاهي يتصايحون فرحاً لهدف حققه فريقهم أو يزمجرون غضباً لانتصار الفريق المنافس. واشعر بالتبرّم وأنا ألاحق بعينيَّ الشباب، وهم يطوفون بسياراتهم في الشوارع رافعين علم فريقهم المنتصر، مستخدمين نفير سياراتهم احتفالا بفوزه الساحق حتّى ليخال المرء أن هناك مناسبة قوميّة قد حلّت والجميع راغب في الاحتفاء بها!
 
لستُ هنا بصدد الحديث عن رياضة كرة القدم، فهي كما قلتُ عالم بعيد عني لا يُحرّك انفعالاتي من قريب أو من بعيد، وإنْ كان لهذه الرياضة محبوها الذين بالتأكيد أحترم اختيارهم وتعلقهم بها. لكن ما دفعني للكتابة عنها الخبر الذي صعقني، ولم أصدّقه في بداية الأمر، حيث قام أحد الحاضرين في مدينة بالعراق إلى إخراج مسدسه من جيبه وتصويب فوهته نحو اللاعب، الذي كان قاب قوسين أو أدنى لإحراز هدف النصر في مرمى الفريق المنافس، وهو ما اعتبره الرجل اعتداء سافراً على ناديه الذي يحبه، فأردى اللاعب قتيلا في الحال أمام الجماهير الغفيرة التي كان يغصُّ بها مدرّج الملعب.
 
هذه الواقعة وإن بررها البعض بأنها تصرّف طائش صدر عن عاشق خرج عن طوره، إلا أنها في حقيقة الأمر تُظهر كيف شاعت ثقافة العنف في المجتمع العراقي، حيثُ قام الرجل بقتل اللاعب بدم بارد، وكان كل ذنبه المسكين أنه نجح في اختراق خط الدفاع والوصول إلى مرمى الفريق المنافس.
 
بلا شك أن الحروب المتوالية التي تورّطت فيها العراق على مدى ثلاثة عقود، بدت آثارها واضحة هناك، فلا يخلو بيت من شخص مُعاق أو طفل يتيم الأب، أو أرملة ثكلى ضاع منها زوجها أو ابنها في أهوال الحروب.كما أن مسلسل القتل اليومي، والدماء المتناثرة في كل مكان، والعمليات الانتحاريّة التي تقع يوميّاً داخل المدن العراقيّة بعد الاحتلال، وانعدام الأمن، كان تأثيره قويّاً على الأجيال الجديدة التي شبّت على جرثومة الخوف من المجهول، وفتحت أعينها على مشاهد الخراب، وهو ما دفعها لاستخدام وسائل العنف للذود عن نفسها وحماية حقها في البقاء!
 
لقد دعا البرلمان العراقي إلى مناقشة حظر استيراد “المسدسات اللعبة” والألعاب النارية لخفض التصرفات العدوانيّة بين الأطفال العراقيين الذين ترعرعوا في ظل حروب حقيقية! لكن حقيقة لا أعوّل كثيراً على هذا القرار في تقلّص ظاهرة العنف عند الأطفال، أو أن يتم القضاء عليها ما بين يوم وليلة!
 
وأنا أتابع ما يجري في أرض العراق يعتصر قلبي كمدا على أحوال أهلها، فينتابني إحساس غريب بأنّي عدتُ إلى الماضي السحيق، وأنني أشاهد صورا حيّة لبلد من القرون الوسطى ولستُ أمام دولة لديها إرث حضاري عظيم، وأخرجت لنا علماء أفذاذا قدّموا إنجازات جليلة للعالم، وكانت تمتلك أنفس الآثار التاريخية.
 
لكن يجب أن نقر بأن ظاهرة العنف على الرغم من تفاقمها داخل العراق لا يعني أن أطفالنا مُعافون منها! فالعنف ينمو ويتسع نتيجة عوامل كثيرة ظاهرة للبعض وخافية على الكثيرين! فطالما بقيت العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة تعيش في حالة عدم توازن فلن ينتهي العنف! وطالما ظلّت مناهجنا التعليمية عقيمة تُرسّخ فكرة رفض الآخر على أساس مذهبه أو طائفته، فلن يتلاشى العنف من أوطاننا العربيّة! وطالما رضيت مجتمعاتنا العيش في مستنقعات موبوءة غير آبهة بتنقية قيعانها من الحشرات القاتلة فلن ينقرض العنف! وطالما ظلّت الحكومات العربية تصرُّ على مصادرة الحريات، وتمنع المظلومين من رفع أصواتهم فلن يموت العنف! وطالما ظلَّ مسلسل انتهاكات حقوق الإنسان في أرضنا ساري المفعول، فسيظل العنف يرتع في وضح النهار!
 
العنف لا يحتاج إلى أمر رسمي، ليذهب إلى مثواه الأخير منكّس الرأس، بل يحتاج إلى بناء مجتمعات القدوة لتحتذي بها الأجيال الجديدة.