نحن و هُمْ وفن الخطابة!!

نحن و هُمْ وفن الخطابة!!

نحن و هُمْ وفن الخطابة!!

الأحد 14/6/2009

 
جلستُ مثل آلاف غيري أمام شاشة التلفاز لمتابعة الخطاب التاريخي الذي ألقاه الرئيس الأميركي باراك أوباما منذ أيام قليلة بجامعة القاهرة. وعلى الرغم من أن الكثيرين في العالمين العربي والإسلامي لم يعوّلوا عليه كثيراً في إحداث تغييرات جذرية حيال قضايا الشرق الوسط الشائكة، فإن شخصية أوباما المميزة جعلته محط الأنظار.
 
معجبة أنا “بالكاريزما” التي يمتلكها أوباما، وبراعته في إلقاء الخطب الرنانة، وهما ميزتان لا تتوفران عند أغلبية رؤساء العالم، كونها مَلكة ربانيّة مثل مواهب أخرى عديدة يهبها الله لأناس معينين، ويقوم صاحبها بصقلها وتنميتها حتّى لا تُوأد في مهدها!
 
لستُ هنا في موضع تحليل لخطاب أوباما، ولكنني أرغب التحدّث عن فن الخطابة الذي اشتهر به العرب منذ آلاف السنين. وقد ساهم في تعزيز مكانة هذا الفن في مجتمعاتنا، مفردات اللغة العربية الجميلة وكلماتها الجزلة التي تُدير الرؤوس وتُلهب النفوس.
 
نحن أكثر أمم الأرض دراية بفن الخطابة، ولكننا للأسف بعيدون جداً عن تطبيق محتوى ما نقوله على أرض الواقع، نلمسه في سلوكنا التربوي والتعليمي الذي يقوم على نظرة أحاديّة الجانب، بدءاً من البيت ومروراً بالمدرسة وانتهاء بالجامعة، حيث يتم تلقين التلاميذ القيم الحياتيّة، ووجوب التمسّك بمعاني الفضيلة والشرف، وتحذيرهم من عاقبة الكذب والزيف، والتأكيد على ماهية الحلال والحرام، وتوضيح الفرق بين النور والظلام، ومغبة الوقوع في شباك الشر.
 
نعم حياتنا الأسرية والاجتماعية والسياسية تقوم على مجموعة من النصائح التقليدية التي لا تتناسب مع واقع الحياة، معتمدة على الجمل الإنشائية المرتبطة برزمة من قواعد النحو والصرف، ومجموعة من الفواصل والنقاط وعلامات التعجّب.
 
جميعنا نتفق على أن خطاب أوباما لم يأتِ بجديد، بل إن مضمونه قام على تلميع صورة أميركا التي شوهها سلفه بوش بحجة القضاء على الإرهاب! بل وأسهب في الحديث عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كأن العالمين العربي والإسلامي بأسرهما مسؤولان عن وقائعها! مع هذا لمس خطابه شغاف قلوبنا كون أوباما درس بعمق طبيعة مجتمعاتنا، وفهم نفسية شعوبنا، التي تعودت الانسياق خلف الكلمة المنمقة، والانبهار بالمفردات المزوقة، ولذا نجح أوباما في تبديد سحب الغضب التي كان يحملها الكثيرون لأميركا نتيجة سياستها العنصرية في منطقتنا العربية، وحشر أنفها في كل صغيرة وكبيرة تقع في منطقتنا.
 
ظاهرة باراك أوباما تستحق الإشادة ورفع القبعة له برحابة صدر، ليس لأنه يحمل جذوراً إسلامية كما يظن البعض، فأوباما نشأ نشأة مسيحية، ولا ينظر إلى العالمين العربي والإسلامي بهذا المنظور ضيق الرؤيا!
 
لقد أعاد أوباما إلى الأذهان ظاهرة “مارتن لوثر كينج”، الذي كان أول رجل أسود يُطالب بحقوق السود داخل وطنه أميركا، والذي دفع حياته ثمناً لنضاله، على يد عنصري أبيض، لم يتحمّل في ذلك الوقت فكرة أن يقف الرجل الأبيض في صف واحد مع الرجل الأسود!
 
العلاقة بين ظاهرة أوباما ولوثر كينج من جهة، والعالم العربي من جهة أخرى، تكمن في قدرة المرء في الدفاع عن حقوقه باستماتة مادام الإنسان مؤمنا بها. صحيح أن هناك دوماً أيدي خفية تقف خلف هذا الطموح وتُساند تلك الآمال، لكن على الجانب الآخر تُظهر مدى فشل العرب في الترويج لقضاياهم وتُبيّن مقدار ضعفهم في الوصول لمرادهم. وهو يعود إلى أن الشخصية العربية نظرتها للأمور دوما سوداوية الطابع، وترمي حمولتها على المشيئة الربانيّة، متجاهلة بأن ديننا يبغض التواكل ويحث على المثابرة الدؤوبة لتحقيق المستحيل وقلب الواقع!
 
الدرب الذي قطعه “باراك أوباما” للوصول إلى كرسي الرئاسة هو الذي يستحق التأمّل، وهو من وجهة نظري أهم بكثير من الشعارات الكلامية التي يحملها في كل مكان يحط فيه رحاله! في بلد قام في الماضي على إبادة سكانه الأصليين من الهنود الحمر. وتاريخه المُلطّخ بدماء الأبرياء من الأفارقة السود الذين كان يستعبدهم ويسخرهم لخدمته، والذي يُعتبر وصمة عار كبرى في سجل بلاد العم سام لم تزل مدموغة على كفوف يديه.
 
ليت العرب يُراقبون ما يجري ويعملون في صمت. فهل العرب بالفعل ظاهرة صوتية كما قالها يوما المفكر العربي عبد الله القصيمي؟!