الإبداع في خدمة البشرية

الإبداع في خدمة البشرية

الإبداع في خدمة البشرية

الأحد 16/8/2009

 
تهتم الدول المتحضرة بمبدعيها، وتُقدّر كافة أنواع الفنون التي يتركها أصحابها بعد رحيلهم، فتجدها تحرص على تخليد ذكراهم بتجسيدهم في تماثيل تزدان بها حدائقهم وميادينهم العامة. وتراها كذلك في متاحفهم المحتوية على كل ما له صلة برموزها الذين قدّموا في حياتهم شيئاً مميّزاً لمجتمعاتهم.
 
إذا سافرت إلى إنجلترا وقررت استخدام أنفاق قطاراتها، فلن تشعر بالملل مُطلقاً، وأنت تسير فيها. فجدرانها مُزدانة بالرسومات الفنية الجميلة، التي قام برسمها فنانون شباب. كما سيلفت نظرك أيضاً، أعداد المشردين الذين يفترشون الزوايا، وقد أمسك بعضهم بآلات موسيقية كالجيتار والساكسفون للعزف عليها، والاستعانة بها كمصدر للرزق، من خلال استقطاب المارة لينفحونهم قطعاً من النقود المعدنية.
 
مؤخراً، قررت شركة الأنفاق اللندنية، تزويد السائقين العاملين في قطاراتها بكرّاس صغير لكل واحد منهم، يتضمّن أقوالاً فلسفية وتاريخية وسياسيّة مأثورة لأدباء ومفكرين وقادة عالميين من أمثال جوته وسارتر وغاندي ونابليون، يقوم سائقو القطارات بقراءة محتواها لرفع معنويات الركاب، ولتعزيز علاقتهم بالمسافرين على رحلاتها اليومية الروتينية.
 
جميل أن تُسخر المؤسسات الحكومية الإبداع لخدمة الإنسان والترويح عنه في زمن التوّحش الآدمي، في عصر أصبح فيه الكل مشغولاً بتوفير لقمة العيش، وبتحقيق الأحلام المتراكمة بفعل زوابع الحياة العصرية، التي لا تكلُّ ولا تملُّ هي الأخرى من نهش أفئدة الناس وتحويلهم إلى دُمى تتحرّك بأسلوب روتيني!
 
مرة أخرى، يُثبت الفن بأنواعه أنه القادر على إخراج الناس من حالة الفوضى العاطفية العارمة التي يعيشون داخل دائرتها، بتحريك بحيرة أفكارهم بين حين وآخر، وتزويدهم بطاقة متجددة من القيم والمبادئ والمثل الحياتية، حيثُ غدوا لا يلتفتون إليها، ولا يعيرونها اهتماماً، ويعتبرونها من مخلفات الماضي السحيق التي لا تتناسب مع مذاق عصرهم، وضغوطات حياتهم.
 
في عالمنا العربي، يشيخ المرء سريعاً ويُصاب بأمراض مزمنة مع اقترابه منتصف العمر، وهذا يعود إلى أنه منذ لحظات حياته الأولى يتربى على سلسلة معقدة من العادات والتقاليد الصارمة التي تفرض عليه نمطاً معيناً من السلوك لا يملك حيلة في التخلّص من قبضته، ويظل إلى أن يموت يعيش في كهوفه المظلمة، ولا يُعلن تأففه ويُظهر امتعاضه، وإن شعر بالاختناق وعدم القدرة على التنفّس!
 
الغرب الذي تنعته مجتمعاتنا دوماً بالسفه والانحلال، وتُهيل عليه التراب في كل مناسبة، تعرف شعوبه كيف تستمتع بحياتها، وتُقدّر قيمة عمرها، وأن الحياة أقصر من أن تستسلم طواعية لمناخها المتقلّب. لذا لا تألو مؤسساته جهداً في تسخير نفسها لخدمة شعوبها، وفي تطوير نمط حياتها، لتحميها من الانزلاق إلى هوة الشيخوخة المبكرة!
 
في عالمنا العربي، لا توجد سوق رائجة سوى تجارة “الفن الهابط”! وبقية الفنون كفن الموسيقى الراقية، والفن التشكيلي بمدارسه المختلفة، والإبداع المكتوب، فهي ملقاة في مخازننا، لا نعيرها أي اهتمام، ولا نُلقي عليها نظرة ثاقبة، ولا نحرص على تلقينها لشعوبنا؛ لتنظّف فكرهم وتُرّقي ذوقهم، ونأخذ بأيديهم إلى عوالم متحضرة من السمو الإنساني، بل نتعمّد حشرهم في دائرة مغلقة تقوم على تقديس الأعراف والتقاليد، حتّى تنحني ظهورهم مبكراً، وتضعف أنظارهم، وتتبخّر عزائمهم قهراً!
 
بعض حكوماتنا العربية، ومؤسساتنا التربوية والتعليمية، وإعلامنا، جميعها متورطة فيما آل إليه الإنسان العربي، من تدهور حضاري، وضيق فكر، وانعدام وعي! فقد انشغلت ببرمجته، وتلجيم جموحه، وأخذت على عاتقها إقناعه طوال الوقت بأن هناك مؤامرة دنيئة تُدار من خلفه لسلخه عن هويته وموروثاته الاجتماعية، حتّى تقوقع على نفسه، وبات مهووساً بفكرة تصيّد من يتربّص به في الظلام الدامس! ولم تستثن الشباب من دائرة مخططها، بل حرصت على حشو أدمغتهم بالأكاذيب حتّى ألفوا لعبة التغييب الفكري والثقافي!
 
إن الأمم المتحضرة لم تخرج من رحم العشوائية والرجعية، إلا عندما تصدّت لكل من حاول تعكير نقاوة فكرها، وبمحاربة كل من أراد دفنها حيّة تحت التراب!
 
إن المبدعين الذين كانوا في حالة مخاض مستمر، وكتبوا إبداعاتهم بأيدٍ ناصعة النية، وبحروف سطّروها بدمائهم، هم الذين قادوا مجتمعاتهم نحو دائرة النور والتقدّم. تُرى متى نفسح المجال لمبدعينا لكي يقوموا بأدوارهم الحقيقية في إنارة طرقات مجتمعاتهم؟!