إنسانيّة جائزة “نوبل”

إنسانيّة جائزة “نوبل”

إنسانيّة جائزة “نوبل”

لأحد 11/10/2009

 
مرة أخرى تُطلُّ جائزة “نوبل”برأسها من شرفة غرفة نومها في موعدها المحدد من كل عام، لتُحرّك فضول الجماهير المتجمهرة عند ساحة بيتها لمعرفة أسماء الحائزين على جائزتها.
 
لا أعرف حقيقة سرُّ اهتمام العالم بهذه الجائزة العريقة! هل لكونها ورقة اعتراف عالمية بموهبة الفائز بها وشهادة تقدير له؟! هل لقيمتها المادية العالية؟! هل يعود إلى شهرة صاحبها”ألفريد نوبل” الذي أنشأها كي يُكفّر عن اختراعه للديناميت الذي أحدث دماراً في أجزاء من العالم؟
 
مهما أثير من لغط حول هذه الجائزة، ومهما قيل من سلب أو إيجاب عنها، يظلُّ نيل جائزة من جوائزها العديدة حلما يُداعب خيال كل مثقف على اختلاف توجهه وتخصصه المهني. لكن تبقى جائزة نوبل للآداب تحديداً أمنية صعبة المنال بالنسبة لكل أديب، يسيل لعابه كلما مر اسمها في خاطره، كونها ورقة العبور إلى العالم الفسيح، وكونها من جانب آخر تُشكّل إقراراً صريحاً بعبقرية الأديب وموهبته الفذة.
 
الإعلام الغربي هذا العام توقّع فوز الأديب الإسرائيلي “اليساري” “عاموس عوز”، لكنها ذهبت في اللحظة الأخيرة إلى الأديبة الألمانية “هيرتا موللر”. وهي رومانية الأصل، وقد اختارها القائمون على الجائزة بسبب تركيزها في كتاباتها على حياة الفقر والعوز والمعاناة التي كانت تعيش فيها الأقليات في أوروبا الشرقية إبان الحكم الشيوعي وخلال نظام تشاوشيسكو الفاشي الذي شبّت فيه الكاتبة.
 
حياة “هيرتا موللر” كان يتخللها الكثير من البؤس والشقاء، فأمها تمَّ نفيها إلى أحد معسكرات الاعتقال في الاتحاد السوفييتي، أما الكاتبة فقد تمَّ فصلها من عملها كمترجمة قبل أن تُقرر الهجرة مع زوجها إلى ألمانيا، وتكمل حياتها هناك، وتعيش حياة مستقرة في بلد يحترم آدمية الفرد.
 
يُقال بأن الإنسان يظلُّ يحمل صور بؤسه في بؤرة فكره، وإن رحل إلى أقاصي الأرض وتمرّغ في جنانها! وتظلُّ صور معاناته مرسومة أمام ناظريه، وإن أحاطت به حدائق مُزهرة! والأديب مثل كافة الناس لا يُصاب بفقدان في ذاكرته فور تخطيه سياج وطنه! بل إنه يتميّز عن غيره من الناس بقيامه بسكب ماضيه الموجع على الورق وتجسيده على شكل لوحات أدبية غاية في الروعة، تحكي عمّا كان يجري في أمسه من وقائع مخزية.
 
“هيرتا موللر” البالغة من العمر 56 عاماً، والتي غادرت موطنها الأصلي رومانيا منذ أكثر من عقدين، لم يغب عن ذاكرتها طابع الحياة القاسية التي عاشتها في باكورة عمرها، بل انعكس جليّا على مجمل أعمالها وظلَّ هاجس الحرية يُلاحقها حتّى بعد أن بهتت الصورة في أعماقها.
 
أعجبني تعليق قرأته عن “موللر”، بأنها بعد أن ذاقت طعم الاستقرار في بلد حر كألمانيا، إلا أنها هربت بقلمها إلى عالم قريتها الصغير الذي ترعرعت فيه، والذي حرمها من التمتّع بإنسانيتها، فجعلت شخوص رواياتها تكتوي بنار الغربة وتتطلّع إلى تحقيق حلم الارتواء من نهر الحرية.
 
نعم أحياناً كثيرة نهرب من نير أوطاننا بالارتماء في أحضان أوطان غريبة عنّا لمجرد أنها منحتنا الأمان الذي نحلم به ثمّ تتبدد مع الوقت الظروف الحالكة التي أرغمتنا على الهجرة القسرية، لكن نكتشف أن الوطن مهما كان قاسيا إلا أن عبق أنفاسه يظل يزكم أنوفنا ويُلاحقنا في نومنا وصحونا، وأن الغربة مهما كان مناخها نقيّاً وجوها بديعاً وحديقتها غنّاء إلا أنها لا تعوضنا عن أرضية أوطاننا الأصلية الوعرة المسالك.
 
الأديب الحقيقي هو ذلك الذي لا يتنكّر لأصله وإن وجد النعيم في منفاه، ولا يمحو من ذاكرته مشاهد ماضيه لمجرد أنه وجد وسائد وثيرة يرتكز عليها، بل يحمل على عاتقه هموم غيره من أبناء وطنه الحقيقيين بتخليدها في أعمال إبداعيّة لتعيش الأجيال القادمة في نعيم وراحة.
 
الأدب الإنساني الذي يعكس هموم البشر ومعاناتهم ويضع يده على مواطن العلل، هو أجمل وأرقى أنواع الأدب، ومهما قيل عن جائزة نوبل، والتشكيك في نزاهتها وأنها جائزة مُسيّسة الطابع، إلا أنه لا يختلف اثنان على أنها لا تهب جائزتها إلا من وضع قلبه على يديه وتنكّر لعنصريته وأهدر عمره من أجل الارتقاء بالفكر الإنساني منادياً بإرساء مبادئ العدل والمساواة والحرية.