كم أُحبّكِ ذاكرتي!

كم أُحبّكِ ذاكرتي!

كم أُحبّكِ ذاكرتي!

الأحد 27/12/2009

 
توصّل علماء مختصون إلى اختراع نوع من الصدمات الكهربائية يتم وضعها على جزئيّة في المخ، فتؤدي إلى إزالة التجارب السيئة من ذاكرة الإنسان لمدة عام كامل. والحقيقة أن الخبر بقدر ما أذهلني في بداية الأمر، إلا أنني عندما جلستُ إلى نفسي، وجدتُ أن الخبر ليس مُبهجاً وأنني سأكون المتضررة الأولى في حال تعرّضتُ لهذا النوع من الذبذبات!
 
فماذا أفعل لو قابلتُ خلال السنة التي محوت فيها تجاربي الأليمة، بصديقة لم تكن وفيّة لصداقتي، وأخرجت أسراري للملأ كنوع من التشفّي فيّ، فآخذها بالأحضان وكأن الغيوم قد تلاشت والسماء قد أضحت صافية بيني وبينها!
 
ماذا أفعل لو لم يُقدّر وفائي إنسان، وطعنني في ظهري مرّات ومرّات دون أن يعبأ بمشاعري، أو يكترث لآلامي، أو يلتفت للدماء التي سألت مني. ولم يحس ولو للحظة بوخز الضمير عمّا اقترفه في حقي، أو يفكّر أن يبعث لي برسالة اعتذار عمّا سببه من جرح غائر في قلبي. فإذا ما ألتقيته صدفة في الطريق أشدُّ على يديه وأهشُّ في وجهه!
 
الذكريات الأليمة تصنع الإنسان، تُصقل شخصيته. والتجارب تنعكس آثارها على المبدع بصفة خاصة، وتدفعه إلى تحرير نفسه من آثارها المدويّة بسكبها على الورق. وإلى تفريغ شحنة غضبه بين طيّات الصفحات، من خلال قصة أو رواية أو قصيدة شعر.
 
صحيح أننا عندما نتعرّض لتجربة أليمة، نُقفل على أنفسنا، مُقسمين بأغلظ الإيمان أننا سنكون أكثر حرصاً في تعاملنا مع الناس من حولنا، إلا أن الأيام مع تعاقبها هي أكبر مُطبب لجراحنا، وتجعلنا نقف من جديد على أقدامنا أكثر صلابة.
 
من وجهة نظري هذه الصدمات الكهربائية ليست في مصلحة الإنسان. وهذا لا يعني أنني لا أؤمن بمبدأ التسامح، فالحقد يأكل قلب صاحبه، وقدرة الإنسان على الغفران في حد ذاتها قوة داخلية، وتحتاج إلى تمرين نفسي حتّى يتمكّن الإنسان من الصفح عمّن أساؤوا له واستهانوا به واستغلوا طيبة قلبه.
 
سألتُ صويحباتي عن رأيهن في هذا الإنجاز الذي أعلنه العلماء، فانقسمن إلى فئتين… فئة استحسنت فكرة تعرّض أمخاخها للصدمات الكهربائية، على أساس أنها بحاجة لالتقاط أنفاسها ولو لسنة واحدة، ولكي تنام قريرة العين ليلا دون أن تقضَّ مضاجعها الرغبة في الانتقام. والفئة الأخرى أيّدت رأيي في أن الإنسان هو وحده القادر على تجاوز آلامه والاستفادة منها، في أن يمضي قٌدماً متسلحاً بهذا الكم من التجارب الحياتيّة المريرة، خاصة إذا كان لديه أبناء ليسكب خبرته الطويلة في أذهانهم كي يستفيدوا منها في حياتهم المستقبلية.
 
لا تجعل العلماء يعبثون بمخّك. ابكِ، اسقط، تخبّط، تحمّل ألم الصفعات التي تأتيك أحيانا من أناس وضعتَ فيهم ثقتك وخيّبوا ظنّك. يوما ما ستُقلّب دفتر حياتك وتكتشف بعد أن تصفو سماؤك ويطلُّ عليك فجر جديد، أن تلك الآلام التي أوقعتك في هوة الأحزان، وجعلتك وقتها تقف مترنّحا على حافة الزهد من الحياة، أنها خلقت منك فارساً عظيماً، كونك امتطيت جراحك بمهارة، وقفزت بشجاعة فوق أسوار اليأس، وتخلّصت من الأتربة التي علقت بيديك. العلماء ليسوا دوما على صواب حين يتعلّق الأمر بخصوصيات حياتنا. نحن الأقدر على فهم دواخلنا وعلى تجاوز عذاباتنا مهما كانت الخسائر في بداياتها فادحة.