كيف يُخلّد المبدع؟!

كيف يُخلّد المبدع؟!

كيف يُخلّد المبدع؟!

الأحد 01/3/2009

 
الناس كالمعادن يختلف جوهرهم. هناك أشخاص يمرون في حياتنا مرور الكرام، وينزلقون من بؤرة ذاكرتنا بمجرد أن تختفي وجوههم من أمامنا. وهناك أشخاص تعلق صورهم في أذهاننا فترة من الزمن ثم تبهت إلى أن تتلاشى مع انغماسنا في دوامة الحياة. وهناك أشخاص يلتصقون بجدار ذاكرتنا إلى الأبد، لا تستطيع عوامل التعرية أن تطمس ملامحهم، أو تملك أداة الزمن القوة على إزاحتهم من ساحة فكرنا، وبين حين وآخر يتسرّب عبق أنفاسهم إلى خياشيمنا، فنشتاق إليهم، ونحنُّ لعشرتهم، ونترحّم على أيامهم.
 
الكتب مثل الأشخاص، هناك من نحشرها بين رفوف مكتبتنا متأسفين على النقود التي أنفقناها في شرائها، لتفاهة محتواها، ورداءة مواضيعها. وهناك كتب تستثيرنا، وتشدنا لقراءتها عند الوهلة الأولى، لكن سرعان ما نتحرر من تأثيرها، كرائحة العطر الرخيصة التي لا تعلق على جلدنا. وهناك كتب تظلُّ راسخة في أذهاننا، تجري سطورها في عروقنا، وتنحفر كلماتها على أجسادنا، لقيمتها الفنية العالية.
 
كل مبدع يتمنى في قرارة نفسه أن يترك خلفه عملاً خالداً متكاملًا يتذكّره به الناس بعد رحيله عن الدنيا، وكم من كتب بهرتني بل وسحرتني بأحداثها المشوقة وسلاسة أسلوبها وأنا مستغرقة في قراءتها، متمنية في قرارة نفسي لو كنتُ صاحبتها.
 
كثيرة الروايات التي أثارت أشجاني وجعلتني أياما أعيش مع أبطالها وأتمعّن في سطورها. وأتذكّر بأنني حين قرأت رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للروائي العبقري “الطّيب صالح” أن انتابتني الحالة التي تُصاحبني كلما قرأت رواية من هذا النوع، فلا أملك حينها الحيلة لمقاومة الوقوع في عشقها والتولّه في حبها.
 
في ذلك الوقت لم أكن قد تورّطتُ في اقتحام دنيا الرواية، حيثُ كنتُ أتلمّس طريقي في عالم القصة القصيرة. يومها بعد أن فرغتُ من قراءة “موسم الهجرة إلى الشمال”، أصابتني الغيرة من كاتب هذه الرواية، وبهرتي أدواته الكتابيّة التي تدل على تمكّنه من هذا الجنس الأدبي. وقد نجح بالفعل من خلال هذه الرواية في تجسيد علاقة الشرق بالغرب في أسلوب ممتع جذّاب.
 
قابلت عند دخولي معترك الأدب الكثير من الأدباء الكبار من الجنسين، من الذين كنتُ أحلم بلقائهم في بداياتي حين قرأت لهم بعضا من نتاجهم، وكم تمنيتُ لو سنحت لي الفرصة للقاء “الطيب صالح” قبل وفاته، خاصة وأن روايتيه “موسم الهجرة إلى الشمال” و “عرس الزين”، الروايتان اللتان قرأتهما له وأعجبتُ بهما كثيراً.
 
“الطّيب صالح”، هو الذي تنبأ منذ أكثر من عقدين، بأن الرواية السعودية الحديثة لن تقوم إلا على يد المبدعة السعودية، كون القيود الاجتماعية الصارمة، والمفاهيم الدينية المتصلبة التي تحيا في أجوائها المرأة السعودية، ستلعب دورا رئيسيّاً في دفع الأديبة السعودية إلى أن تشحذ قلمها لتشن حربا شعواء على مجتمعها الذكوري، منتقمة من سنوات القهر الطويلة التي عاشتها في ظلال الرجل! وقد عاش هذا الرجل حتّى رأى نبوءته قد تحققت بالفعل على أرض الواقع.
 
لا أريد أن أكرر ما كتبه غيري وأسطّر تأبيناً في حق هذا الرجل، كما تعودنا أن نفعل في عالمنا العربي حين يموت صوت أتحفنا عقوداً بتغريده الجميل في أفضية مجتمعاتنا، كونها عادة عربية تقليدية لم نستطع التخلّي عنها إلى اليوم، ولكون هذا الرجل أكبر بكثير من أن أرثيه في سطور قليلة!
 
السؤال الذي ظلَّ دوماً يشغل بالي كلما قرأت مقالاً لهذا الروائي العبقري، الذي صُنّفت روايته “موسم الهجرة إلى الشمال” كواحدة من أفضل مائة رواية عالمية.
 
لماذا توّقف هذا الرجل عن النتاج الإبداعي منذ سنوات طويلة؟! هل لأن قلمه نضب مبكرا؟! هل هذا يعود إلى لعنة العمل الناجح الذي يُحاصر كل مبدع ويجعله يدور في حلقته حتّى يُصاب بعقدة الخوف من عدم القدرة على تجاوزه بعمل آخر في نفس قامته؟! هل هو المرض؟! هل الانغماس في لقمة العيش جعلته مقّلًا من حيث أن الأدب في عالمنا العربي لا يُؤكّل عيشاً؟! هل الأوضاع المخزية التي يحيا فيها المبدع العربي، تجعله يُصاب بالوهن والخيبة، فيهجر قلمه كما يهجر الحبيب حبيبه وقلبه لم يزل متعلقا به؟! رحم الله الطّيب صالح.