العرّاف الإخطبوط “بول”

العرّاف الإخطبوط “بول”

العرّاف الإخطبوط “بول”

الأحد 18/7/2010

 
ليس سهلاً أن تجذب أنظار العالم إليك. الأمر يحتاج إلى فطنة ومهارة كي يلتفَّ الآخرون حولك، ويؤمنون بقدراتك، حتّى تُحقق النجاح الساحق الذي تحلم به. وكلما ارتفعت أسهمك وسطع نجمك، زاد عدد حُسّادك وكَثُر حاقدوك، خاصة في زمننا هذا الذي غدت فيه الصراعات على أشدّها بين البشر، والتنافس بين الناس بلغ أوجه في مختلف المجالات. زاد الأمر صعوبة انتشار وباء التملّق والرياء، فلم تعد تستشرف مهما بلغت فراستك، من الذي يتمنى لك الخير ويرجو لك السعادة، ومن الذي يتمنى لك السقوط المُروّع، والخروج نهائيّا من دائرة الضوء!
 
العرّاف الإخطبوط ، الألماني الجنسيّة، والذي أُطلق عليه اسم “بول”، استطاع سحب البساط من تحت أقدام أشهر العرّافين في العالم، مُحققا بذلك نجاحاً ساحقاً عليهم، بعد أن صدقت تنبؤاته فيما يخصُّ نتائج ثماني مباريات في مونديال 2010.
 
العرّاف “بول” قرر التقاعد ومقاعد المتفرجين لم تزل دافئة، والناس في كل بُقاع الأرض ما زالوا مأخوذين بنجاح الفريق الإسباني، وحصوله على كأس العالم في كرة القدم للمرّة الأولى في حياته. لقد قرر الإخطبوط اعتزال الحياة العامة والجميع يُشيد بقدراته الفذّة، دون أن يدع أضواء الشهرة تستحوذ عليه وتُصيبه بالغرور، ودون أن يُسلّم نفسه لإغراءات أوراق البنكنوت.
 
“بول” الآن في سنته الثالثة. ومن المعروف أن متوسّط عمر الإخطبوط يتراوح ما بين الأربع إلى الست سنوات، مما يعني أنه لن يتمكّن من حضور مباريات المونديال القادم. وأنه قريباً سيُلملم أذرعته الطويلة، ويودّع الدنيا التي عانى فيها من نظرات الحاسدين، بعد أن ذاعت شهرته في الآفاق. وكي يتخلّص أخيراً من رغبة العرّافين الدفينة في إزاحته عن طرقهم، ليخلي لهم الجو في جني الأرباح الطائلة من تنبؤاتهم حول الأحداث الجارية في العالم.
 
العرّاف “بول” بتقاعده وهو في قمّة مجده، يُرسل رسائل مُشفّرة إلى الكثيرين من أصحاب المناصب الرفيعة، أن النجاح الساحق الذي حققه في مرحلة من حياته، لا يعني أن يظل متمسكاً بموقعه إلى أبد الآبدين حتّى يقضي الله أمراً كان مفعولاً!! فهناك أجيال موهوبة تحمل في جعبتها الكثير من الأفكار التقدميّة، تنتظر سماع صفّارة الانطلاق كي تُنجز الجديد لمجتمعاتها.
 
عدد كبير من حكوماتنا مصابة بتضخيم الذات، تعتقد إذا ما رفعت وصايتها عن شعوبها بأنها ستسقط في دائرة العدم. وأنها إذا ما أخلت مواقعها لغيرها، ستُصاب مجتمعاتها بتصدّع يؤدي إلى هلاكها ومحوها من خريطة التاريخ! لذا نجد أغلبية السياسيين في أوطاننا العربية، مصممة مقاعدهم بعجلات ثابتة، لا تتقدّم إلى الأمام قيد أنملة. دائرتها محجوزة يتوارثها أبناؤهم وأحفادهم من بعدهم، دون أن يتركوا فرصة للأجيال الجديدة كي تُثبت كفاءتها، وتبني صروحاً متحضّرة على أراضيها.
 
من الأسباب الرئيسيّة لتخلّف مجتمعاتنا، أن أغلبية سـياسيينا يجترّون أنفسهم، ويتجمدون على كراسيهم، كأنهم يعيشون في أحد القطبين الشمالي أو الجنوبي! وهو ما أدّى إلى حدوث فجوة كبيرة بين هؤلاء السياسيين وشعوبهم، ولو كان بين بني الإنسان عيّنات من الإخطبوط “بول” في منهجيّة تفكيره، وشجاعته في التخلّي عن منصبه، وهو في قمّة مجده، لكان للشعوب العربية مستقبل زاهر بين شعوب العالم المتحضّر.
 
أتمنى قبل أن يُفارقنا العرّاف الإخطبوط “بول”، أن أدفعه لوضع أذرعه على خريطة بلداننا العربية، لأرى إنْ كانت مجتمعاتنا آيلة للسقوط قريباً، أم أن هناك بارقة أمل تلوح في نهاية النفق الحالك السواد تُبشّر بالتغيير!