حُكم التاريخ

حُكم التاريخ

حُكم التاريخ

الأحد 20/2/2011

 
ما دمتَ إنساناً واعياً راشداً، وسواء كنتَ رجلاً أم امرأة، من حقك كإنسان حر اختيار الطريق الذي تريده. من حقك أن تكون إنساناً صادقا نزيهاً، ومن حقك أيضاً أن تُصبح منافقاً كبيراً! من السهل جداً أن تتحول ما بين ليلة وليلة من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال! النزول من فوق القمم أسهل بكثير من تسلقها! أنت لا تحتاج إلى جهد كبير ولا نفس عميق ولا وقت طويل لتصل إلى الهوّة.
 
التمسك بمبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة في عصر تتفشى فيه الرذيلة وتُباع فيه الذمم وتنعدم فيه الحريات العامة، ويستشري البطش والقمع بالساحات العامة، تحتاج إلى جرأة وقوة وثبات وإيمان راسخ بها. مثلها مثل تسلق القمم العالية التي تستوجب تحلّي صاحبها بالثبات والقدرة الفائقة والمهارة على مواجهة الأخطار حتّى لا يُصاب بالدوار بعد فترة وجيزة من الزمن ويسقط سقطة مدوية!
 
ثورة 25 يناير كشفت عن وجوه ناصعة تستحق الاحترام، وكشفت أيضاً عن وجوه تستوجب أن تُرمى في مزبلة التاريخ، وكشفت أيضاً عن أناس لا يستحقون المكانة التي وصلوا إليها لمواقفهم المتأرجحة.
 
كان الناقد الدكتور جابر عصفور قد تعرّض منذ فترة لهجوم شديد من قبل بعض المثقفين العرب بعد قبوله جائزة “القذافي العالمية للآداب” في دورتها الأولى. وكان من ضمن المنتقدين له الروائي المصري علاء الأسواني الذي صرّح بأن على جابر عصفور أن يشعر بالخجل كونه قبل هذه الجائزة المشبوهة، في الوقت الذي قام الكاتب الإسباني المقيم في مرّاكش “خوان غويتسلو” برفضها بالرغم من قيمتها المالية العالية قائلا بأن ضميره لا يسمح له بأخذ جائزة من رجل اغتصب السلطة في بلاده سنوات طويلة!!
 
لم يقف الهجوم على جابر عند هذا الحد، بل انهالت عليه عبارات العتاب من أصدقائه بعد قبوله تولي وزارة الثقافة، مما جعله يُقدّم استقالته قبل يوم واحد من سقوط نظام مُبارك وهو موقف يُحسب له لا عليه.
 
قال جابر في حوار أجري معه، إنه استقال من الوزارة بسبب رفضه العمل تحت لواء حكومة الحزب الوطني التي يُحمّلها الكثير من بؤر الفساد التي شهدتها مصر في السنوات الأخيرة. وعلى الرغم من أن عصفور يؤكد بأن استقالته ليست وسيلة لتصحيح الخطأ الذي ارتكبه بقبوله للوزارة في حكومة مشبوهة، أو لترضية الأصدقاء الذين أغضبهم قبوله لها في هذا الوقت العصيب، إلا أنه بدا جلياً للجميع أن جابر خاف من أن ينحاز التاريخ ضده!
 
التقيتُ بجابر عصفور للمرة الأولى منذ سنوات قليلة في مهرجان “أصيلة” حيث شاركتُ في واحدة من نشاطاته، وكنّا نجتمع كل ليلة في هذه البلدة الرائعة التي تُطلُّ على المحيط الأطلسي بمنزل رئيس بلدية “أصيلة”، حيث كانت تدور نقاشات ثقافيّة واسعة حول موائد مغربية تحتوي على أشهر الأطعمة التي يشتهر بها المطعم المغربي.
 
كان جابر عصفور يُتحفنا كل ليلة بحديثه الشيّق عن طفولته وعن مراحل دراسته وعن عشقه للأدب ودعمه للثقافة والمثقفين، وهو ما يجعلني أقول شهادة حق في هذا الرجل الذي تمتلئ روحه طيبة ويشعُّ ثقافة.
 
هناك مثل مصري شهير”إذا وقعت البقرة كترت سكاكينها”، ولا أريد أن أغمد أنا الأخرى سكيني في جسد هذا الرجل، فلكل منّا زلاّته كما لكل منّا حسناته، المهم أن لا تكون هذا الأخطاء فادحة إلى حد أن تُصبح وصمة عار في جبين صاحبها من الصعب أن يغفرها له التاريخ!