انتحار لغوي جماعي

انتحار لغوي جماعي

انتحار لغوي جماعي

الأحد 17/03/2012

 
أن تُتقن التحدث بلغات أجنبية عديدة فهذه موهبة قد يحسدك عليها الكثيرون، كونها بطاقة العبور للحصول على امتيازات وفرص وظيفيّة في أقصر وقت، لكن أن تتحدث بلغتك العربية الفصحى وبمخارج ألفاظ سليمة، فهذا لا يُثير الإعجاب نحوك، ولن تحصد بها انتصارات خارقة على أرض الواقع!
 
لفت انتباهي في ندوة “اللغة العربية وتحديات العصر” التي نظمها منذ فترة “منتدى شوفان” الثقافي بالعاصمة الأردنية، الصرخة التي أطلقها المفكر التونسي عبد السلام المسدي في ورقته، بأن تكريس اللهجة العاميّة كحامل للرسالة الثقافيّة، وبديل للغة القومية العربية، خطأ جسيم في حق لغتنا، ويُعتبر انتحاراً جماعياً على عتبات قلعة التاريخ، كون الرابطة اللغوية أقوى من السياسة نفسها، مؤكداً أن اللغات الأجنبية لم تعد العدو الأول للغة العربية، بل اللهجات العامية التي غزت المجالس الفكرية وفصول التدريس.
 
المفكر المسدي يُحذّر أيضاً في ورقته من هذا الإهمال المتعمّد للغتنا العربية الفصحى، والخوف من أن نُصبح مستقبلاً بلا هوية، مبيناً أن هناك خمسة آلاف لغة في العالم يموت منها سنويّاً 25 لغة، وهناك 600 لغة أخرى آخذة طريقها إلى الانقراض.
 
أتذكّر بأنني تابعت حواراً مع أحد الكتّاب العرب البارزين على قناة فضائيّة، وعندما سأله المحاور. هل أولادك لديهم ميول كتابيّة مثلك؟! هل يقرؤون كل ما تنشره على صفحات الجرائد؟! أجاب بحماسة.. الحقيقة أن أولادي جميعهم في مدارس أجنبية، وليست لديهم ميول للقراءة، كما أن جلّ اهتماماتهم منصبة في متابعة ما يخرجه الغرب في مجال التكنولوجيا.
 
حقيقة أنا مازلتُ من المتحمسات بوجوب تدريس اللغة الإنجليزية في المدارس منذ بداية المرحلة الابتدائية لأهمية اللغات الأجنبية وعلى الأخص الإنجليزية في الاطلاع على إنجازات الغرب في المجالات العلمية والتعليمية، ولكنني في الوقت نفسه أعتزُّ بلغتي، ولا أريد أن ينصب هذا الاهتمام على حساب لغتي الأم.
 
هناك من يرمي ضعف اللغة العربية الفصحى على شباب اليوم، وتحميلهم المسؤولية الكاملة في ذلك، وهذا في رأيي ظلم كبير في حقّهم! امسكوا أي صحيفة أو مجلة متخصصة في الإعلان عن وظائف شاغرة، ستجدون بأن أول شرط للمتقدّم إجادته التامة للغة الإنجليزيّة كتابة وتحدّثاً، وهو ما جعل الشباب السعودي تحديداً يُصاب بالإحباط كونه لا يُتقنها بسبب إصرار القائمين على وضع المناهج التعليمية عندنا بعدم إدراجها كمادة أساسية في الفصول الدراسيّة الأولى، بحجة أنها ستقضي على لغتنا الأصلية!
 
هذا التبرير في غير محله! إضافة إلى أنني أؤيد ما ذهب إليه “المسدي” من أن وسائل الإعلام المرئيّة والسمعية أسهمت هي الأخرى في إضعاف اللغة العربية الفصحى بين الأجيال الشابة، نتيجة لتأثيرها المباشر على العقول ودخولها كل بيت دون استئذان. فالمذيع العربي نادراً ما نراه يحرص على التحدّث أمام الشاشة بمخارج حروف عربية سليمة، إضافة إلى طغيان اللهجات العاميّة في كافة البرامج الثقافيّة.
 
الناقد “نضال الشمالي” أكّد من جانب آخر في ورقته المقدمة، على وجوب أن يكون لمجامع اللغة العربية أدوار إيجابيّة، حيث غدت مجرد مؤسسة فخرية مترهلة ليس لها دور في حياة الناس، ولا تملك السلطة للتدخل في القرار السياسي اللغوي، وغياب تنسيقها مع الجامعات ووسائل الإعلام العربية.
 
الإمساك بطرف العصا من أحد الجانبين لن يحل المعضلة، كون قانون الحياة يستلزم إمساك العصا من وسطها حين يتعلّق الأمر بمصيرنا كأمّة كانت لها حضارة مضيئة مع حضارات الأمم الأخرى، لكننا كعادتنا في كل أمور حياتنا نتشبث بمعتقدات عقيمة حتّى غدت سمة من سمات تفكيرنا وإن تعلّق الأمر بهويتنا العربية.