مهرجان الدوحة الثقافي السادس

﴿ مهرجان الدوحة الثقافي السادس ﴾

في ندوة الأدب والمنفى
21 مارس إلى 5 إبريل / 2007
 
عرّف الدكتور عبدالله إبراهيم في مقدمته معنى المنفى، بأنه المكان الذي يتعذّر فيه الانتماء. لكنني أجد بأن الساحة الثقافية إلى اليوم لم تفلح في وضع تعريف واضح لكلمة منفى!! فهل المنفي هي تلك البقعة البعيدة التي يتقوقع فيها الإنسان داخل ذاته، عندما يشعر بأنه غريب وسط ضجيج الآخرين، وعاجز عن الالتحام مع أنماط الحياة الفكرية التي يعيش في وسطها؟! كم من الناس يعيشون غربة داخل أوطانهم، نتيجة معتقدات رسموها بدواخلهم تتعارض مع السائد المألوف؟! وهل المنفى ما زال يحمل نفس الصورة النمطية القديمة، المتمثلة في تطبيق النفي القسري، الذي كانت تُمارسه السلطات في حق معارضيها الذين يرفعون أصواتهم احتجاجا؟!.

 
***
 

في الشهادة التي قدمها أدونيس عن تجربته في المنفى، يرى بأن العرب اليوم لا يتعاطون مع مفهوم المنفى بهذا المعنى القديم، ولم يعودوا يحكمون عل معارضيهم بالنفي والطرد، مما يؤكد من وجهة نظره غياب سياسية النفي، وإحلال سياسة القتل مكانها.
 
قد يكون في كلام أدونيس شيء من الحقيقة، لكنني أرى بأن المفكر أو الأديب أو السياسي النزيه لم يعد ينتظر في بيته حتّى تُداهمه مقصلة الموت ، بل أصبح يضطر للهرب قسرا تحت جنح الظلام، إلى بلاد غريبة تؤمن بالحرية، وتكون الملاذ الآمن الذي يلجأ إليه مع أسرته.
 
ولكن من قال بأن المنافي مقتصرة فقط على الطبقة المثقفة؟! هناك معابر الهجرة الغير شرعية التي يلجأ إليها أناس كل ذنبهم أنهم حملوا أحلامهم الوردية على أكتافهم، فيداهمهم الموت حاصدا مئات الأرواح منهم على شواطئها قبل أن يبلغوها.
 
في رواية الأديب واسيني الأعرج “شرفات في بحر الشمال” يقول على لسان بطل روايته ” نحن لا نترك وطنا إلا لنتزوّج قبرا في المنفى”. وهو يقصد مصائر الغرباء الذين تتكسر أمانيهم على صخور الغربة، وينتهي بهم المطاف بأن تُحشر أجسادهم في قبور لا تحمل أسماءهم، ولا تُشير إلى هويتهم”.

 
***
 

بعض الشهادات التي قُدمت، استشهدت بآراء المفكر إدوارد سعيد، الفلسطيني الأصل، في تجسيده لمعاناة المنفى، ولكنني لا أحبّذ ربط كلمة أدب المنفى بالمثقف الفلسطيني، الذي هُجّر غصبا من وطنه، وشُرّد على مدار خمسين عاما. فأدب المنفي من وجهة نظري يحمل في طياته أوجاع خيبة المبدعين في أوطانهم، ناقلون بأقلامهم صورا حيّة عمّا يجري داخل أوطانهم، يختزلونها من مخزون ذكرياتهم الأولى قبل رحيلهم، وهو يتنافى مع أدب المبدع الفلسطيني الذي أرى بأنه أدب مقاومة يتضمن رسالة قهرية لكافة شعوب الأرض، وتجسيد لنضال شعب ضد محتل قام بسرقة أرضه أمام عينيه بين يوم وليلة، وبمباركة العالم بأسره، قضية لا يُوجد لها مثيل في التاريخ القديم أو الحديث. قضية الأدب الفلسطيني في المنفى هي معزوفة حزينة، في مضامين نصوص أدباءها يربض هاجس البحث عن هوية نُزعت منهم نزعا، لأن الوطن يبقى البصمة الحقيقي في حياة الإنسان، بدونها يسقط في دائرة المجهول، ويعيش بلا ملامح، وهو ما استشهدت به الدكتورة فريال غزّول في بيت شعر لمحمود درويش ” لي لغتان نسيتُ بأيهما كنتُ أحلم “.

 
***
 

قالت الشاعرة زكية مال الله في مداخلتها، أنها عاشت غربة الوطن في مصر، ولا أدري كيف يشعر الإنسان بالغربة في وطن يتحدّث بلغته، ويجمعه بأهلها موروث ديني وثقافي وتاريخي واحد، فالمنفى الحقيقي ذلك الذي يُحدث هزة قوية في أعماق الإنسان، كرد فعلي لصدام الثقافات، واختلاف بنية المجتمعات، وتُشرّع أمامه تبعا لذلك آفاق واسعة لتذوّق طعم تجربة الحياة من جديد.
 
يظل هاجس الحرية يشغل بال كافة المبدعين، ويُورّق نهارهم وليلهم، وهو ما يدفع بعضهم إلى اختيار اتخاذ قرار النفى بإرادتهم، لأن الاغتراب يُحرر المبدع من قيوده الاجتماعية بمعناها الشمولي، ويحفّز الأديب على التعاطي مع الواقع المعاش بفلسفة حياتية خارجة عن المألوف، ويجعله قادرا على تصدير أفكاره بصفاء أكبر، وهو ما أكده الأديب إبراهيم الكوني في شهادته حين قال “..أن الأوطان لا يُنقذها أبناؤها الذين يتشبثون بصدرها، ولكن خلاصها يأتي عادة من خارجها على يد أبناءها الذين أغتربوا”.

 
***
 

عشت في بريطانيا سنوات، هذا المنفى اخترته بإرادتي، لم أشعر لحظة بغربة المكان، استفدت من إقامتي برؤية أشياء كثيرة وجميلة من حولي، وأخترقتُ مشاهد لم أكن أستطع معاينتها في سنوات، كانت تجربة المنفى تجربة ثرية تفاعلتُ مع كل ما تعثرتُ به في طريقي.
 
توفي أبي وأنا في منفاي الجميل، بكيتُ على الهاتف وأنا أتوسّل لأخي أن لا يدفنه إلى أن أعود وأودعه قبل أن يذهب لمثواه الأخير، قال لي إكرام الميت دفنه ولا املك حيلة في وقف ذلك. تمنيتُ لحظها لو كنتُ أملك بساط ريح لأطير به إلى موطني، لكني رجعتُ لرشدي موقنة بأن بساط الريح لا وجود له إلا في أساطير ألف ليلة وليلة. ذلك الوقت لعنتُ الغربة ونسيتُ عطاءاتها السخية، وتبسطها معي. أيقنت بأن النفي بكل جمالياته وقدرته على إعادة تشكيل الحياة في داخلنا، لا يستطيع إخماد جذوة الحب في أعماقنا تجاه أحباءنا الذين نتركهم خلفنا، وذكرياتنا البعيدة المزروعة في أعماقنا، وتلك البصمة الأبدية المرسومة على إبهامنا، لكن على الرغم من ذلك يُصبح المنفى جميلا حين نُسطره على الورق. إنه مثل جذوة الإبداع التي تحكها بظفرك، فيخرج لك المارد من قمقمه ويسألك عمّا تريد.. فتجيبه ببساطة.. أريد بقلمي خلق عالم مجنون.