المرأة الحجازية ما بين الأمس واليوم

﴿ المرأة الحجازية ما بين الأمس واليوم ﴾

– المحاضرة التي ألقتها الكاتبة والأديبة السعودية – زينب حفني –
 
في قاعة نادي الخريجين بالبحرين
14/2/2009
 
لا تندهشوا إذا قلت بنبرة واثقة أن تغيير أوضاع المرأة داخل السعودية لن يتم إلا عن طريق المرأة الحجازية. لا تظنّوا أنني أقول قولي هذا من منطلق نظرة متعصبة ضيقة، فو الله ما كرهت شيئا في حياتي قدر كرهي للعنصرية بكافة أنواعها!! ولكنني أرتكزُ بقوة في حديثي على إرث الأجداد الفكري، وعلى ما أفرزته البيئة الخصبة التي ترعرعت فيها المرأة الحجازية.
 
إن المرأة الحجازية محظوظة بنشأتها في هذه البقعة التي فتحت ذراعيها لكافة شعوب الأرض، وكانت مستوطنا لكافة المسلمين من مختلف الأقطار. فالوفود التي كانت تتجه إليها رغبة في إقامة شعائر الحج والعمرة أو للتجارة، جلبت معها ثقافاتها المتنوعة، وأتاحت الفرصة أمام الأسر الحجازية لتنهل بيسر منها، وتُصبح أكثر تجاوبا وتسامحا في تعاملها مع الغرباء، وعلى تقبّل الآخر بكل اختلافاته المذهبية والفكرية. وقد ساهمتْ لاحقا وبشكل فعّال في تصدير هذه الثقافة إلى المناطق الأخرى بالسعودية، ونجحتْ في اختراق العزلة الاجتماعية التي كانت تضربها الأسر السعودية حول نفسها هناك نتيجة بقاءها عقودا طويلة مُقيّدة داخل أعرافها وموروثاتها الاجتماعية.
 
في مكة تحديدا، كانت تنشأ صداقة سريعة بين الوافدين من تجّار وحجاج من جهة، وبين أغلبية الأسر المكيّة التي تعتمد على الطوافة كدخل رئيسي لمعيشتها، وتقوم باستقبال الوافدين في بيوتها بكل بساطة ودون تحفّظ. كما أن المرأة المكيّة كانت السبل مفتوحة أمامها لتتاجر أسوة بالرجل، بل وكانت ترث الطوافة أبا عن جد، وهو ما جعلها أحيانا تُبدي رغبتها في الارتباط بواحد من هؤلاء الوافدين، سعيا إلى تحقيق الأمان المادي لحياتها، أو لحرصها على وجود رجل بجانبها يُساندها في عملها. وهو ما يعني أن المرأة الحجازية كان لها دور رئيسي غير معلن في إنعاش الحركة الاقتصادية التي كانت شبه مُعدمة قبل اكتشاف النفط، وقبل نشوء مؤسسات الدولة السعودية وتحالفها مع الحركة الوهابيّة.
 
في جدة، كان المناخ الاجتماعي مختلفا بعض الشيء، حيثُ كان هناك عزل بين المجتمع الرجالي والنسائي لكنه لم يأخذ طابعا متشددا، بل أتاح المجال أمام المرأة للسيطرة على المعلومات فيما يخص اختيار زوجة المستقبل للابن، فكانت تُخطط بمكر ودهاء وفي سرية تامة ما يتوافق مع رؤيتها الشخصية ومصالحها الأسرية. وفي نفس الوقت تدفع رجل الأسرة إلى الاعتقاد بأنه من يتخذ قرار اختيار زوجة الابن في نهاية الأمر. وهذا يعني أن المرأة الجداويّة لم يقتصر نفوذها داخل نطاق الأسرة بل خرج إلى الساحة الاقتصادية، حيث أن التحالفات التي نتجت عن رباط الزواج الذي خططت له المرأة كان يؤثر على القرارات الاقتصادية لاحقا، كون النفوذ الاقتصادي لا ينفصل عن النفوذ السياسي. وقد كان تأثير الأسر الحجازية الغنية التي عقدت تحالفات مع بعضها برباط الزواج تأثيرا قويّا على الحياة العامة في البلاد عند بداية تأسيس الدولة السعودية
 
أما بالنسبة للحراك الثقافي!! فقد كان جليّا في منطقة الحجاز، وفي الوقت الذي كانت المرأة في مناطق السعودية الأخرى بعيدة كل البعد عن عالم الثقافة والأدب اللهم إلا أسماء محدودة اضطرت إلى أن تكتب بأسماء مستعارة خوفا من بطش أسرهن ومجتمعهن، خرجت المرأة الحجازية في منطقة الحجاز جهارا وفي وضح النهار لتُسطّر أدبا جريئا بمفهوم ذلك العصر، فنشرت الأديبة “سميرة خاشقجي” رواية “بريق عينيك” وهي أول رواية لأديبة سعودية، وتنتمي هذه الأديبة لأسرة معروفة في المدينة المنورة. ومن منطقة جدة خرجت الشاعرة “ثريا قابل” التي غنّى لها الكثير من الفنانين السعوديين. وهذين نموذجين من نماذج كثيرة في منطقة الحجاز تُؤكد على أن المرأة هناك كانت دوما السبّاقة بحكم بيئتها المنفتحة التي نشأت فيها.
 
*************
 
هل النفط كان نعمة أم نقمة على المرأة السعودية؟! بلا شك أن أموال النفط التي ساهمت في تنمية البلاد في الداخل كان طابعها مكاني حيثُ أُنتزع البعد الإنساني منها، وأصبح الإنسان يشعر أنه بلا إنسانية. فالشوارع الفسيحة والمعبّدة، وأعمدة الإنارة، خلت من الدفء والحميميّة، لا يسمع المرء فيها سوى صرير السيارات التي تُوحي بالوحشة والغربة!!
 

إضافة إلى أن الزواج الذي كان يقوم على الرفد في الماضي، أصبح مع وجود النفط يقوم على التمايز الاجتماعي، بمعنى طغت قيم ورموز المكانة الاجتماعية العالية على قيم التضامن والتعاون، وحلّت الثروة محل قرابة الدم، وهو ما يعني أن مؤسسات الدولة أصبحت تتدخل في نمط حياة الأفراد، وفرضت نهجا جديدا في المجتمع
 
ونظرا للعلاقة السياسية (التحالف) بين علماء المشايخ الذين يمثلون الفقه الحنبلي وبين النخبة السياسية الحاكمة، وجد الخطاب السلفي الساحة أمامه متاحة لانتقاد المجتمع السعودي خاصة عقب الطفرة وما تلاها من ممارسات استهلاكية أدّت إلى التدخّل جملة وتفصيلا في أسلوب حياة الناس، وزادت رقعة نفوذهم وتأثيرهم من خلال المعاهد العلمية التي أسسوها في كل مناطق السعودية
 
للأسف لقد ساهمت الثقافة الدينية الوهابية في إعاقة تقدّم المرأة، وقلّص أدوارها، وتزايد الطلب وبإلحاح على وجوب الفصل بين الجنسين بعد حادثة الحرم المكّي الشهيرة عام 1979 والتي كانت من تبعاتها السلبية تصاعد التطرف الديني، وهيمنة الخطاب الديني المتشدد على أوجه الحياة داخل السعودية، وعلى الأخص في كل ما يتصل بحياة المرأة من الألف إلى الياء معتمدا فقط على فقه الأسرة الوهابي كمرجع تشريعي دون غيره من المذاهب!! كما ساهمت البرامج الدينية الإذاعية والتليفزيونية المكثفة، والفتاوى التي تقوم على الترهيب والحلال والحرام على إقصاء المرأة عن الحياة العامة!! بل ورفض فكرة تولي المرأة أي منصب قيادي من منطلق الترويج للحديث الشريف “لعن الله قوما ولوا أمرهم امرأة”. والترويج لأحاديث أخرى مشكوك في صحتها تحطُّ من كرامة المرأة، وتُشكك في قدراتها الفكرية، وأنها مخلوق سيؤدي إلى إشاعة الفساد في المجتمع إن تُركت بلا رقابة حتّى تبقى دوما تحت وصاية الرجل!!
 
******************
 
بلا شك أن ضياع الهوية الحجازية يعود كذلك إلى تخلّي المثقفون الحجازيون أنفسهم عن تراثهم، هذا إذا ما استثنينا قلة من المفكرين الذين سخّروا أموالهم وجهودهم في إحياء التراث الحجازي. ويُعتبر الشيخ أحمد زكي يماني على قمة هرم هؤلاء حيث انشأ “موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة” وهي تُعنى بتوثيق التراث العلمي والحضاري لهاتين المدينتين، وقد هيّأ لها مئات الباحثين من كافة الأقطار العربية والإسلامية على مدى خمسة عشر عاما.
 
لكن هذا لا ينفِ التهمة الملتصقة بالفنانين الحجازيين أنفسهم في تخليهم عن الغناء باللهجة الحجازية، وهو ما نجده ملاحظا في الفن الغنائي السعودي اليوم الذي غدا جلّه يُغنّى بالأبيات النبطيّة!! هذه الظاهرة الواضحة للعيان حيّرتني كثيرا ودعتني إلى اللجوء إلى الشاعرة ثريا قابل، رائدة الشعر الغنائي في السعودية وابنة جده التي غنّى لها أشهر المطربين السعوديين، وسؤالها عن رؤيتها الخاصة. أجابتني بأنها تهمة جائرة وأنها لا ترى بأن الحجازيين قد تخلوا عن لهجتهم لصالح غيرها من اللهجات السعودية، بل حصل نوع من الدمج وقد كان ضروريّا كون الحجاز هي أرض التنوّع الثقافي، وأهلها لديهم خاصيّة وقدرة هائلة على الهضم السريع لثقافات الشعوب الأخرى. بجانب أن التعليم من وجهة نظرها والذي دفع الكثير من أهل القرى والبوادي إلى النزوح للمدن، ساهم في عمل دمج بين لهجات القرى والمدن. وهي فخورة بأنها أول من انتبهت لهذا التغيير الايجابي وقامت بعملية الدمج في شعرها الغنائي قبل الأميرين خالد الفيصل وبدر بن عبد المحسن، حيثُ غنّى لها الفنان طلال مداح وغيره من الفنانين هذا اللون منذ ما يزيد على ثلاثة عقود. بمعنى أن المرأة الحجازية هي أول من وثّق فنيّا عملية الدمج بين اللهجات السعودية.
 
كما قامت الباحثة الدكتورة “لمياء باعشن” في كتابها “التبات والنبات”، إلى جمع الحكايات الشعبية الحجازية وتوثيقها مع سيدات حجازيات ممن عاصرن رواشين وأزقة مكة القديمة، وقد استغرق إعداد هذا الكتاب عشرة سنوات باجتهاد خاص منها لحماية التراث الحجازي من الضياع ولكي يكون مرجعا للأجيال الحجازية الجديدة من الشباب من الجنسين. مستنكرة إعطاء الحجازيين ظهورهم لتراثهم الحجازي، والانجراف مع موجة الانفتاح الاقتصادي والعمراني والاجتماعي على حساب هويتهم الثقافية التي ذابت مع مرور الوقت، رغم اعترافها أن هناك حنين إلى هذا التراث داخل كل فرد حجازي. وهي بهذه الخطوة الجادة تؤكد مرة أخرى على ريادة المرأة في إحياء التراث الفكري في منطقة الحجاز.
 
*********************
 
هل هذا يعني بأن المرأة الحجازية حاليّا بخير؟! سؤال جعلني أتوقّف طويلا أمامه!! فالملاحظ اليوم أن موجة نقاب الوجه وتغطية الكفين، لم تكن مُشاعة حتّى الماضي القريب في المجتمع الحجازي، مما يؤكد أن تأثير رياح التطرف على فكر المرأة قد تمَّ تجاوزه إلى التحكّم في هيئتها الخارجية!! بجانب أن أرقام الندوات الدينية وأعداد الداعيات آخذة في الازدياد!! مما يُثبت أن هناك موجة خطرة ترتفع يوما بعد يوم داخل منطقة الحجاز!! وهذا بالطبع يعود إلى الجماعات الدينية المتطرفة المنتشرة في العالم الإسلامي من المحيط إلى الخليج. لكنّي ما زلتُ مصرة على أن هذا الوضع لن يستمر طويلا، لأن المرأة الحجازية المثقفة والمتسلحة بإرثها الحضاري الذي تركه لها الأجداد سيعيد لمجتمعاتنا صوابها. وشعاع نور هنا، وبريق ضوء هناك، يدفعني لأن أكون شديدة التفاؤل.
 
أريد أن أقول كلمة أخيرة. لقد تعبت من أجل النبش عن تاريخ المرأة الحجازية، وأعيبُ على جامعاتنا السعودية أنها لم تلتفت لإحياء التراث الحجازي، فالمجتمعات الواعية المتحضرة تقوم على ثقافة الاختلاف، وعلى التنوّع الفكري، وسط مناخ من التسامح، وليس في حديثي هذا دعوة مبطنة للتفكك، أو تحريض على العصبية، بل هو نداء خالص النية من أجل إقامة مجتمع مستنير يعتزُّ بروافد تاريخه .
 
===========
 
***
 

﴿ الرواية العربيّة في مطلع القرن الحادي والعشرين ﴾

الشهادة التي قدّمتها الكاتبة (زينب حفني) في الندوة الدّوليّة
 
تونس
 
الكتابة.. ملاذي الوحيد
2/5/2009

 
يقول هِرمان هسه ” كلُّ التجارب أثبتت أنه لا تُوجد غرفة واحدة في العالم يمكن أن يضمن فيها الإنسان توقه للسكون والنوم الهادئ.. إذن ألا يكون من الأجدر بالمرء أن يكفَّ عن الاختيار كله، وبكل بساطة يُسلّم أمره منذ البداية إلى القدر تاركا الحظ يتحكّم فيه؟! ألا يكون الوضع أكثر ذكاء لو يترك القرار للصدفة العمياء ويأخذ أول غرفة تُعرض عليه؟! إلا أننا نادرا ما نفعل ذلك، فلو كان للذكاء وتجنّب الانفعال أن يحكما تصرفاتنا فكيف سيكون عندها شكل الحياة؟!”.
 
عبارات هٍِرمان هسه جعلتني أتساءل إن كانت الكتابة اختيارا ذاتيّا، أم قدر يقع في طريقنا بالصدفة!! إننا لا نختار أمهاتنا ولا آباءنا ولا نُحدد لحظة ميلادنا، كذلك الكتابة هي قدر حتمي يستسلم لها الكاتب بطوع إرادته، مستعذبا التمرّغ في أحضانها وإن لسعته بلدغاتها القاسية في بعض الأحيان!! كما أن الكتابة تقوم طوال الوقت بمشاغبة صاحبها، وأنا بطبعي أكره الحياة الروتينية وأحبُّ الصخب الذي يُوقد فكري، لذا مهما كانت ردود أفعالي عنيفة تجاه حاجياتي الخاصة إلا أن ذبذباتها تُشعرني بأنني ما زلتُ أحيا، وتتيح لي الفرصة لممارسة آدميتي بكل تناقضاتها، وأنني لستُ مجرد دمية تتراقص بخيوط قدرية لا حيلة لها في التحكّم بخطواتها!
 
إنني أجد الكتابة مثل النهر الذي ينبع من جهة ليجري في اتجاهات أخرى، لكنه بالتأكيد يروي عطش كل عابر سبيل يمر بشطآنه.
 
*************
 
كل رواية بعد أن أفرغ منها تسقط أحداثها مني في قاع النسيان. لا اختلف حينها عن القاتل الذي يختار ضحاياه تحت جنح الظلام، ما أن يقترف جريمته حتّى يغسل يديه وينسى وجوه قتلاه. لكن الفرق بيني وبين القاتل الحقيقي هو أنني أهتك عرض أبطالي على الورق دون أن أترك أدلة دامغة على أرض الواقع تُثبت تورّطي وفداحة فعلتي.
 
كثيرا ما يعترضني أحدهم ليسألني عن مغزى قصة كتبتها، أو تستوقفني قارئة لتُناقشني في فصل معيّن بإحدى رواياتي. أخجل أن أقول بأنني أنسى ما أخطّه على الورق بمجرد أن أفرغ منها. ولا أدري هل هذه الصفة تختصُّ بي، أم أنها تنطبق على كافة المبدعين!! وهل هذا الأمر يجعلني في موضع لا أحسد عليه أمام جمهور قرّائي خاصة أنّي امرأة مشكوك في نصاعة فكرها؟!
 
في مرات عديدة حين أكون في حالة انسجام مع ذاتي، أعود إلى كتبي وأتصفّح ما سطّرته في الماضي، ينتابني إحساس بأنني غريبة عن بعض نصوصي كأنني أطلُّ من شرفة منزلي على منظر لم أعتده، وتجتاحني حينها رغبة في التنصّل من هذه النصوص، وتلحُّ عليَّ فكرة جهنمية في أن أذهب إلى المحكمة لأعلن تبرّئي منها بل ومطالبة القاضي بتقييدها ورميها خلف القضبان. لكنني أعود فأطرد هذه الخواطر الخبيثة من رأسي. كيف يمكنني أن أخطو هذه الخطوة القاسية في حق أبنائي الذي أنجبتهم بعد ولادات متعسرة وأشرفتُ على الهلاك بسببها؟! وهل هناك أم تتبرّأ من أبناءها وإن خرجوا عن طوعها أو قصّروا في حقّها، أو تشعر بالسعادة حين تراهم مقيدين بالأغلال لمجرد أنهم لم يعودوا مؤمنين بأفكارها أو أعطوا ظهورهم لمعتقداتها!!
 
لقد لاحقتني هذه المشاعر فترة من الزمن مع مجموعتي القصصية “نساء عند خط الاستواء” ولا أدري هل هذا يعود لأنني تلقيتُّ وقتها ضربة مؤلمة على رأسي عقابا لي على كتابتها، وتعرّضتُ لسلسلة من الإهانات بسببها، أم لأنني كتبتها في مرحلة سابقة من عمري!!
 
بلا شك أن كثير من مرئياتنا في الحياة تتغيّر مع تزاحم التجارب في جعبتنا، ومعرفتنا العميقة بالأشياء والناس، لكنني ما زلتُ حريصة على أن لا تفلت خيوط طفولتي من بين يديَّ وتضيع مني في زحام الأيام، فهي التي تجعلني أكتب بعفوية صادقة وبقلب متشبّث بالدنيا.
 
***************
 
عندما أكتبُ رواية، ترتسم في مخيلتي مجموعة من الناس، فيهم من يُلاحقني وفيهم من ألاحقهم، تماما كما يحدث في تفاصيل حياتنا اليوميّة. فهناك أشخاص يُثيرون إعجابنا ويلفتون انتباهنا منذ الوهلة الأولى، فنلاحقهم بنداءات أعيننا حينا، وبسكب كلمات الإطراء في آذانهم حينا آخر، حتّى يقعوا في مصيدتنا وينساقون خلفنا. وهناك أشخاص نلتقي بهم كل يوم، مع هذا لا يعلقون في ذاكرتنا، ولا يُحركون ذرة في وجداننا، لكنهم مع طول ملاحقتهم لنا يتسلطون على أفكارنا ويرغموننا على أن نضع أسماءهم في قائمة أصحابنا، لكننا نتحيّن الفرصة للانقضاض عليهم وإزاحتهم عن طريقنا.
 
هذا ما تفعله معي شخوص رواياتي. وأتذكّر بأنني عندما كتبتُ روايتي “ملامح” ظلّت ثريا بطلة الرواية تُلاحقني في يقظتي ومنامي، حتّى ضقتُ ذرعا بمشاغباتها، ومللتُ من مطاردتها لي، فأرديتها قتيلة دون أن ترجف جفوني على موتها أو أحزن على فراقها، مطمئنة بأنّي سأفلت من العقاب، فليس هناك قانون موثّق يُحاسبني على جريمتي الوحشية!!
 
***************
 
هناك دوما صدام بيني وبين مجتمعي بسبب حرصي على أن أحسر الغطاء عن وجوه أبطالي وأدعهم يُمارسون حياتهم بالطريقة التي يرغبونها، مبينّة إنسانيتهم وشبقهم وجنونهم، وهو ما يجعل الرواية مجموعة من حيوات حيّة بتسلل أنين أبطالها من بين الصفحات وهو عنصر هام في نجاح رواياتي. كما أن عنصر آخر ساهم في نجاحها يكمن في قدرتي على خلق لغة للحوار تتناسب مع كل بطل من أبطال رواياتي. فلا يمكن أن أجعل امرأة عاهرة تتحدّث بلغة راقية وهي تعيش في بيئة منحطة. ولا يمكن أن أجعل رجلا فاسق يتحدّث بلغة محترمة وهو لا يعرف أبجدياتها.
 
صحيح أن هذا الحرص جعلني في طوال الوقت في موضع اتهام، وفي حالة صدام دائم مع شرائح معينة داخل مجتمعي، على اعتبار أنني أخدش حيائي بكتابة ما لا يصحُّ كتابته‘ إلا أنني لم أعبأ يوما بالتربيت على كتف أحد لأنال الأوسمة، بل كل همّي منحصر في أن أكون صادقة النية مع قلمي أولا، ومع شخوص رواياتي ثانيا بتحريرهم من آفة الازدواجية الشائعة في تربة مجتمعي، وأدعهم يعيشون بالطريقة التي يرغبونها.
 
**************
 
دوما أضع يدي على قلبي مع كل رواية أنتهي منها، ويُحاصرني القلق والتوتّر، متسائلة إن كانت ستحقق مبيعات عالية؟! لكنني خرجتُ مؤخرا بقناعة تامة بأن قلقي سيدمرني وسيقودني دون أن أدري إلى طريق لا أعلم عواقبه، فقررت أن الجم هذا التوتر وان أتعامل مع نصي كما أتعامل مع حبيب خذلني بإزالة اسمه من ساحة تفكيري. أو كما يتصرّف الغريب عندما تعترضه صخرة ضخمة فيزيحها عن طريقه بإلقائها من قمة جبل شاهق. كذلك غدوت أوقن بأن عالم الأدب يغصُّ بالكثير من الروائيين السيئين، وأن قوائم الكتب الأكثر مبيعا لم تعد المعيار الحقيقي لتقييم جودة رواية عن أخرى، في عالم انتقلت إليه عدوى الفساد السياسي، وصارت العلاقات الخاصة وشللية الصحافة تُطبل لرواية ركيكة في أسلوبها وضعيفة في بنائها الفني. إضافة إلى الدور الجهنمي الذي تلعبه دور النشر باستخدام أساليبها وقوانينها الخاصة بها التي تجعلها قادرة على رفع نسبة توزيع كتاب محبب لقلبها!!
 
***************
 
هناك من النّقاد العرب من يُسخّرون نقدهم للنيل من النصوص الأدبية، ويستخدمون أقلامهم لتصيّد أخطاء المبدعين ليظهروا مهاراتهم النقدية. ويحصرون حكمهم على مدى خلو النص من العثرات النحوية، وهذا التصرّف فيه شيء من الظلم فهناك روائيين عالميين وروائيين عرب كتبوا روايات غاية في الروعة رغم أن نصوصهم تتخللها أخطاء نحوية!!
 
إن نجاح الرواية يكمن في جعلها تنبض بالحياة، ومهارتها في إظهار النواحي الأخلاقية واللاأخلاقيّة عند أبطال الرواية. والرواية الناجحة تلك التي تُدغدغ أنفاس القارئ وتُغازله بجرأة بل وتُضاجعه بشبق محموم في سرية تامة إن لزم الأمر.
 
نجاح الرواية يكمن في قدرتها على إقناع القارئ بسطورها من الغلاف للغلاف، وفي إغرائه لتحثه على اختراقها وتمزيق ردائها الشفاف ليتمتّع بحلاوة سطورها بحرية مطلقة وبعيدا عن رقابة المجتمع. لهذا ارتميت في أحضان الكتابة، ولهذا اعتبرها ملاذي الوحيد.