ندوة المثقف العربي و ملتقى القاهرة الدولي السادس للرواية العربية

﴿ ملتقى القاهرة الدولي السادس للرواية العربيًة ﴾

– تحولات وجماليات الشكل الروائي –
شهادةٌ عَنْ تجربتيَ الروائيّةِ (أنا والحريّةُ وعشقُ الكتابة
17/03/2015
 
الوقوعُ في أسرِ الحرفِ ليسَ سهلاً، وأنا مِنَ اللائِيْ يَصْعُبُ على أحدٍ إِغراؤُها إلَّا إِذَا استحوذَ على قلبِـيْ حبٌّ كبيرٌ وهوَ مَا فَعَلَتْهُ الكتابةُ معيْ، وجعلتنيْ أنساقُ خَلْفَهَا بِلا ترددٍ دونَ أَنْ آبَهَ بالعواقبِ التيْ ستحدُثُ لِـيْ مِنْ جَرَّاءِ اِندفاعِيْ خَلْفَهَا. قَدْ يقولُ لِـيَ البعضُ كيفَ تقعينَ في عشقِ الكتابةِ بهذهِ السهولةِ في هذاْ الزمنِ المعروفِ بإيقاعِهِ السريعِ، وتفضيلِ الأغلبيةِ التهامَ وجبةٍ سريعةٍ لذيذةِ الطعمِ ومكدَّسةٍ بالدهونِ على إعدادِ وجبةٍ صحيَّةٍ على نارٍ هادئةٍ؟ أردُّ بالقولِ إنَّ عشقَ الكتابةِ ليسَ لنَاْ يدٌ فيهِ؛ هوَ مكتوبٌ في لوحِ المبدعِ منذُ اللحظةِ التيْ يخرجُ فيها للعالَـمِ مطلقاً صرختَهُ الأولىْ.
 
نعمْ، لا شيءَ يُولدُ مِنْ فراغٍ! وكثيراً ما لمحتُ تعابيرَ استنكارٍ ممنْ حولِـيْ وسؤالاً يدورُ في الأذهانِ.. ما الذيْ رماكِ في حممِ الكتابةِ؟ ما الذيْ جعلكِ تُقررينَ أَنْ تصولِـيْ وتجولِـيْ في هذهِ الساحةِ المزدحمةِ بالأخطارِ؟ ألَـمْ يكنْ مِنَ الأولَـىْ لكِ أَنْ تتجهِيْ لعالمٍ أهدأَ كيْلا تضيعَ حياتُكِ وسطَ هذاْ الكمِ مِنَ الحروفِ المتناثرةِ حولَكِ؟ ألَـمْ يكنْ مِنَ الأسلمِ لكِ أَنْ تلتهِيْ في عوالـمَ الأنثىْ المليئةِ بالإثارةِ والمتعةِ؟ أجاوبُ هؤلاءِ بأنَّ الذيْ يحبُّ بالفعلِ لا يَكرهُ، لِذَاْ لَـمْ تعافْ نفسِيْ يوماً هذَاْ العالمَ، بلْ غُصْتُ فيهِ مِنْ رأسِيْ لأخمصِ قدميَّ، وأبحرتُ بحواسِيَ الخمسِ في كلِّ مَا يخصُّ دنياْ المرأةِ الخفيّةِ، وهوَ مَا جعلنِـيْ أتعرَّضُ لِكَمٍ مِنَ الانتقاداتِ اللاذعةِ مِنْ مجتمعِيَ الذيْ اِعتادَ مدارةَ سلبياتِهِ وراءَ أستارِ التحفّظِ.
 
عنديْ قناعةٌ ثابتةٌ بأنَّنَا لا نختارُ أقدارَنَا بلْ هيَ التيْ تختارُنَا لمهمةٍ معينةٍ في الحياةِ بأَنْ تزرعَ فينَاْ موهبةً مِنَ الصعبِ أَنْ نَـجُزَّهَا مِنْ جذورِهَا أَوْ نُولِيْهَا ظهورَنَا. وأَرَىْ بأنَّ الكتابةَ هديةٌ إلهيّةٌ استثنىْ بِـهَا اللهُ مجموعةً مِنَ البشرِ؛ ليسَ امتحاناً لهمْ، بلْ لِكَيْ يُتيحَ أمامَهمْ الفرصةَ لِئَنْ يَـحْيَوْا حيوات مختلفة؛ حياةً مُعاشة ومفروضة عليهم بينَ الناسِ، وحيوات أخرَىْ يمرحونَ فيهَا بحريّةٍ تامةٍ، وينفثونَ عمَّا بداخلِهمْ مِنْ خلالِ الحرفِ المكتوبِ! ومن المعروف أن المرأة العربيّة هي ضحيّة موروثاتها الاجتماعيّة، لذا عندما تُحاول إقحام نفسها في مغامرة لا بدَّ أن تضع نصب عينيها عواقب ما أقدمت عليه! لذا أعتبر نفسي امرأة محظوظة بموهبتي الكتابيّة التي فتحت لي الأبواب على مصراعيها لما هو محرّم على عامة النساء.
 
متى استشعرتُ الكتابةَ؟ هيَ حكايةٌ شرحُهَا يطولُ، وعندمَاْ أعودُ إلى الوراءِ لعقودٍ قصيرةٍ مضتْ، لا بدَّ أَنْ تنجليَ أمامِيْ قريةُ أمِّيَ الكائنة بالريف المصري حيثُ تعودُ جذورُهَا لهناكَ. كانَ للطبيعةِ الخلاّبةِ دورٌ كبيرٌ في تخصيبِ لبنةِ خياليَ الأولى، وتأثرتُ بعفويّةِ الفلاحينَ وتعلَّقَ قلبيْ بأغانِيِهمْ التيْ كانُوا يشدونَ بِـهَا وهُمْ يفلحونَ أرضَهمْ وينتظرونَ بشوقٍ جنيَ ثمارِهَا.
الأمرُ الآخَرُ الذيْ ساهمَ في تخصيبِ خياليْ، كانَ مِنْ خلالِ حكايات أبيَ الشيقةِ، حيثُ يعودُ لَهُ الفضلُ في التحدّثِ بإسهابٍ عَنْ مدينتِهِ جدةَ بحوارِيهَا الضيقةِ وأزقتِهَا العتيقةِ قبلَ أَنْ تخلعَ ثوبَـهَا القديمَ وتتمختـرَ بحلّتِهَا الجديدةِ نتيجةَ الثروةِ التيْ هبطَتْ على أهلِهَا بينَ يومٍ وليلةٍ معَ اكتشافِ النفطِ، وتحسَّرَ أبيْ على الدوامِ على مجتمعِ جدةَ الذيْ -في رأيِهِ- غيّرتْ أموالُ البترولِ طبيعةَ أهلِهِ البسطاءِ الطيبينَ.
 
أمرٌ ثالثٌ؛ وهوَ أنـيْ إذَاْ أردتُ التحدّثَ عَنْ عالـمِ الكتابةِ الذيْ استهوانِيْ منذُ صغريْ، لا بدَّ أَنْ أعرجَ على مناخِ الحريةِ التيْ يتطلّعُ إليهَا كلُّ مبدعٍ استلَّ قلمَهُ، ليعبّرَ عمَّا يجولُ في خاطرِهِ مِنْ أفكارٍ ومَا يتطلّعُ إليهِ مِنْ أحلامٍ يتمنَّى أَنْ ترسوَ يوماً على أرضِ مجتمعِهِ. فالكتابةُ لا تنفصمُ عراهَا عَنِ الحريةِ، وإذا بحثْنَا عَنِ الحريّةِ لا بدَّ أَنْ نَنْبُشَ في أروقتِهَا عَنِ الضحايَا الذينَ هامُوا بهَا مِنَ المبدعينَ وقدَّمُوا أنفسَهمْ قرابينَ مِنْ أجلِ أَنْ تعيشَ سليمةَ العقلِ وصحيحةَ البنيةِ! وقدْ كانَ سقراطُ الذيْ أُعدمَ بسنِّ السبعينَ لآرائِهِ الفلسفيةِ في الإنسانيّةِ؛ مِنْ أوائلِ الضحايَا الذينَ آثرُوا أَنْ يموتُوا شُجعاناً على أَنْ يتراجعُوا عَنْ مواقفِهمْ وآرائِهمْ التيْ تبناهَا وقتَهَا شبابُ زمنِهِ، لتنفرطَ سبحةُ ضحايَا حريّةِ الرأيِ في أزمنةٍ وأماكنَ أخرَىْ!
 
هذهِ الحريةُ لَـمْ تكنْ تعيشْ أجملَ أيامِهَا ببلادِيْ، بَلْ كانتْ ومَا زالتْ هناكَ خطوطًا حمراءَ لا يجبْ تجاوزُهَا كَيْلَا يتلوّثَ العقلُ السعوديُّ الذيْ تُصرُّ الفئةُ الدينيّةُ المتشددةُ على الوصايةِ عليِهِ مِنَ التغريبِ الفكريِّ، في الوقتِ الذيْ يؤمنُ فيهِ المثقفونَ مِنْ أمثالِـيْ بأنَّ لا تقدّمَ إِلَّا إِذَاْ فتحْنَا الأبوابَ وعرفْنَا الغثَّ مِنَ السمينِ، والصالحَ مِنَ الطالحِ، ونهلْنَا مِنْ مختلفِ ينابيعَ المعرفةِ، خاصة وأن مناخنا الفكري أصبح ملوثاً وبحاجة إلى ثورة حقيقيّة كي يستعيد رشده.
 
كيفَ كانتْ بداياتيْ؟ لقدْ ولجتُ لعالمِ الأدبِ مِنْ خلالِ روايتيَ (الرَّقصُ على الدفوفِ). هذه الرواية لم تُحقق الانتشارَ المطلوبَ على الساحةِ الثقافيّةِ لأسبابٌ لا أعرفُهَا! لَكِنْ هذِهِ الروايةُ اِعتبرَهَا عددٌ مِنَ النقّادِ وَالباحثينَ العربِ أوّلَ عملٍ أدبيٍّ سعوديٍّ تُلقيْ أحداثُهُ الضوءَ على حربِ الخليجِ الثانيةِ وأقصدُ اجتياحَ صدامِ حسينٍ لدولةِ الكويتِ.
 
بينَ روايتيَ (الرقصُ على الدفوفِ) وروايتيَ الثانيةِ (لَـمْ أعدْ أبكيْ) كانتْ لِـيْ صولاتٌ وجولاتٌ بعالمِ القصةِ القصيرةِ التيْ حققتُ فيهَا نجاحاً كبيراً مِنْ خلالِ ثلاثِ مجموعاتٍ قصصيةٍ مِنْ أهمِهَا مجموعتيَ القصصيةِ (نساءٌ عندَ خطِ الاستواءِ). بفضلِهَا قفزْتُ إلى المقدمةِ وشاركتُ في العديدِ مِنَ النشاطاتِ الثقافيّةِ العربيّةِ باستثناءِ بلاديَ السعوديّةِ التيْ مَا زالتْ تُقصينيْ بعيداً عَنْ نشاطاتِهَا الثقافيّةِ الداخليةِ والخارجيّةِ بسببِ طروحاتيَ الجريئةِ التيْ لا تتناسبُ -مِنْ وجهةِ نظرِهمْ- معَ طبيعةِ مجتمعِيَ المحافظِ!
 
عدتُ مِنْ جديدٍ لأحضانِ الروايةِ مِنْ خلالِ روايتيْ (لَـمْ أعدْ أبكيْ)، وتُعتبرُ هذهِ الروايةِ في نظرِ البعضِ مِنْ أفضلِ مَا كتبتُ. وكانتْ هيَ الأخرىْ صادمةً للكثيرينَ حيثُ تتحدّثُ عَنْ ازدواجيّةِ المثقفِ العربيِّ مِنْ خلالِ بطلِ الروايةِ طلال السعدي، الذيْ تخلَّى عَنْ حبيبتِهِ التيْ وقفتْ بجانبِهِ في محنتِهِ، بسببِ خطيئةٍ وقعتْ فيهَا بفترةِ طفولتِهَا، مما يؤكّد بأنَّ المثقف العربي لم يزل أسير موروثاته الاجتماعيّة! وقد آثر بطل الرواية الرحيلَ عَنْ بلادِهِ بعدْ تعرضِهِ للسجنِ بضغوطاتٍ مِنْ قِبَلِ الهيئةِ الدينيّةِ المتشددةِ!
 
كتبتُ روايتيَ الثالثةَ (ملامح) في لندنَ، وقدْ حققتْ هذهِ الروايةُ نجاحاً مُذهلاً وتمَّ تزويرُهَا في مصرَ وكانتْ تُباعُ النسخَ المزورةَ على الأرصفةِ، وتمَّ منعُ تداولِـهِا في عددٍ مِنْ معارضَ الكتبِ العربيّةِ لجرأةِ محتواهَا. لقدْ ساعدنيْ المناخُ العامُ بمدينة لندنَ على أَنْ أتحررَ مِنْ قيودِيَ الاجتماعيّةِ التي نشأتُ فيهَا وأكتبُ بحريّةٍ مطلقةٍ. هناكَ مِنَ النقّادِ مَنْ رأَى بأننيْ تأثرتُ بروايةِ (القاهرةُ والناسُ) لأديبِنَا الكبيرِ نجيب محفوظ، ولكنْ مَنْ مِنَّا لَـمْ يتأثرْ بأدبِ هذَا الأديبِ العبقريِّ؟ وأودُّ التوضيحَ بأنَّ روايتيْ (ملامح) تعكسُ واقعاً موجوداً بكلِ أرجاءِ العالمِ، وشخوصُ رواياتيْ كانُوا عبيداً للمالِ وتركوهُ يفعلُ بهمْ ما فعلْ. إنَّهَا هيَ روايةٌ أحداثها سعوديّةٌ بامتيازٍ.
 
بعدَ عودتيْ لجدةَ كتبتُ روايتيْ (سيقانٌ ملتويةٌ) وهيَ تُصوِّرُ الصراعَ الذيْ يعيشُهُ الجيلُ الذيْ وُلِدَ وترعرعَ بالغربِ، ليصطدمَ حينَ يكبرُ بزمرةِ العاداتِ والتقاليدِ التيْ يحملُهَا آباؤُهمْ معَهمْ حينَ يحطونَ رحالَـهمْ بأرضٍ غريبةٍ عَنْ أوطانِـهمْ، لتنتصرَ في النهايةِ الارادة الحرَّةُ والرغبةُ في التغييرِ والثورةِ على كومةِ التقاليدِ والعاداتِ الباليةِ.
 
روايتيْ (وسادةٌ لحبّكَ) مِنْ أحبِّ رواياتيْ لقلبيْ، حيثُ تدورُ أحداثُهَا عَنْ مجموعةٍ مِنَ الصديقاتِ لكلٍّ منهنَّ حكايةٌ. وقدْ كانتْ مِنْ أكثرِ الكتبِ مبيعاً بالدولِ الخليجيّةِ باستثناءِ السعوديّةِ والكويتِ اللتينِ رفضتَا مشاركتَهَا بمعرضيهِمَا لحساسيةِ القضيّةِ التيْ تطرحُهَا والمتعلقةِ بالبطلينِ الرئيسيينِ وعلاقةِ الحبِّ التيْ تجمعُ بينَ رجلٍ شيعيٍّ وامرأةٍ سنيَّةٍ وانتهاءِ قصتِهمَا بالزواجِ غيرَ آبِـهَينِ بالعواقبِ التيْ ستحدثُ لهمَا جرَّاءَ إقدامِهمَا عليهِ. وهوَ مَا جعلَ عددٌ مِنَ النقّادِ يعتقدونَ بأنَّ مضمونَ الروايةِ فيهِ خروجٌ سافرٌ على قيمِ المجتمعِ السعوديِّ.
 
روايتيْ (هلْ أتاكَ حديثيْ؟) تُعتبرُ الجزءَ الثانيَ لروايتيْ (وسادةٌ لحبّكَ)، وقدْ بدأتْ هذهِ الروايةُ بأحداثِ ثورةِ 25 ينايرَ التيْ عاصرتُ جزءاً مِنْ أحداثِهَا حيثُ كنتُ متواجدةً بالقاهرةِ إبّانَ اندلاعِ الثورةِ. وفي هذِهِ الروايةِ أبيّنُ نهايةَ فاطمةَ المأساويّةِ نتيجةَ تجرُئِها على الخروجِ على تقاليدِ مجتمعِهَا، وإظهارِ أَنَّ الثورةَ المصريةَ مَا زالتْ تعيشُ إرهاصاتِـهَا لحدِّ اليومِ.
 
الحمدُ للهِ لقدْ كانَ مشواريَ الأدبيُّ طويلاً، لكننيْ سعيدةٌ بما حققتُهُ على الساحةِ السعوديّةِ والعربيةِ. لقدْ تمَّ عملُ عددٍ مِنَ البحوثِ الأدبيةِ ورسائلَ ماجستيرَ ودكتوراهْ في نتاجِيَ الأدبيِّ في عدد من الدول العربيّة وهذَاْ يعنيْ بأننيْ استطعتُ أَنْ أُحرِّكَ الرمالَ الساكنةَ، وأبعثَ الحياةَ مِنْ جديدٍ لقضايَا بناتِ جنسيْ مِنْ خلالِ إبداعاتيَ الأدبيّةِ. ونجحتُ في أَنْ أوصلَ صوتَ المرأةِ السعوديّةِ وأتحدّثَ عَنْ معاناتِـهَا دونَ أَنْ يرتجفَ قلميْ. إنها رحلة عشق أبديّة لم يُصبها الملل يوماً.
 
**************************
 

 

 

﴿ ندوة المثقّف العربي ﴾

– بين الاقصاء والحضور –
رواق عوشة بنت حسين الثقافي
دبي
26/12/2015
 
توقّفتُ عند عبارة كتبها الناقد المغربي المعروف محمد معتصم على صفحته بـ«فيسبوك»، يقول فيها: «عندما أُُعلن عن وفاة المفكّر المصري طه حسين، كان عمري إحدى عشرة سنة، وما استغربه هو الحزن الشديد الذي انتابني، وكيف شاع الخبر كالنار في الهشيم، وكان الحدث كالزلزال. اليوم، للأسف، أصبح الأديب حيّاً لعنة، ووفاته راحة للجميع.. إيه يا زمان!». معتصم لم يُجافِ الحقيقة! وكلماته تغمز على الكثير من الأوضاع المزرية التي أصبحت شائعة في مجتمعاتنا العربيّة! فأصبح مألوفاً أن نقرأ عن خبر توقيف كاتب عن الكتابة، أو اعتقال أديب معروف بسبب تجاوزه الخطوط الحمراء الغير مسموح بها، أو إقالة رئيس تحرير بسبب إجازته مقال جرئ لصحفي بجريدته! كأن من المسلم به على كل من يمسك قلماً أن يُطبّل لحكومة بلاده، وإن كان مسؤولوها متورطين في أعمال فساد وفاحت رائحتهم في افضية مجتمعاتهم!
 
أحياناً أسأل نفسي وأنا أشاهد ما يجري في أروقتنا الثقافيّة من مظاهر مخزية! ما فائدة القلم إذا لم يخدم صاحبه مصالح أمّته ولم يكتب عن سلبيات مجتمعه؟ فمن الملاحظ اليوم أن الأقلام المنافقة التي تبحث عن منافعها الذاتيّة، وتسعى لحصد مكاسب شخصيّة، والتي تغض بصرها عن السلبيات، وتُطبّل لأنظمة بلادها القمعيّة بترقيع أخطاء حكومتها، هي للأسف التي تحتل مكاناً بارزاً في مجتمعاتها! والأقلام النزيهة التي تحرص على فضح الأخطاء، وتكشف بجرأة زلاّت مسؤوليها، توارت غصباً في الظلال نتيجة محاربتها بشراسة في الخفاء من قبل المفسدين أنفسهم، أو لشعورها بالإحباط مما يجري حولها من سلبيات دون أن تجد صدى لما تُنادي به!
 
المفكر طه حسين كان محظوظاً كونه عاش في عصر النهضة، حيث كان للأدباء والمفكرين العرب مكانة كبيرة، ودور رئيسي في تنوير مجتمعاتهم من خلال الإرث الأدبي والفكري الذي تركوه خلفهم، وكان الصغير قبل الكبير يجلّهم ويحترمهم لقاماتهم السامقة وأدوارهم الاصلاحيّة العظيمة. مع هذا أرى بأن المفكر طه حسين لو قّدّر له وعاش في عصرنا الحالي الموصوف بعصر التخلّف الحضاري والتراجع الفكري، لما وجدنا أيدٍ تُصفّق لإبداعاته! ولا رأينا حشوداً غفيرة تمشي خلف جنازته، بل قلّة من المثقفين ممن آمنوا بأفكاره وتمسكوا بها من بعده، والبقية ستُدير ظهرها متنفسة الصعداء بعد رحيله!
 
يجب التسليم بأن أغلبية حكوماتنا العربية لم تعد تبحث عن مثقفين حقيقيين كي تُسلمهم راية التنوير لترميم بنية مجتمعاتها المتصدعة! بل صارت تبحث عن متملقين ودخلاء فكر وأصحاب رؤى مائعة كي يُساهموا في تغييب عقول أبنائها، وتُملي عليهم ما تُريد تمريره من قضايا وهميّة يشغلون الناس بها، حتّى لا يُطالبوا بحقوقهم ويظلوا غارقين في بئر العسل الوهمي! ولا أبالغ إذا قلت بأن تهميش المثقفين المستنيرين قد ارتفعت حدّته مع قيام ثورات الربيع العربي التي تمَّ تشويه مسارها بأيدٍ خارجيّة! وحمّل بعض مسئوليها نتائجها السلبية للمثقفين الشرفاء، وأنهم قد سعوا في الخفاء بأفكارهم الجريئة إلى خلق فوضى عارمة ببلدانهم والتشكيك في وطنيتهم!
 
*******
 
إذا انتقلنا إلى داخل الأوساط الثقافية سنجد بأن هناك أسئلة حائرة تدور..لماذا تزايد العنف، وتقلّصت رقعة الحريات، وطغى التطرف الفكري والتزمت الديني في مجتمعاتنا العربية! ما الأسباب التي أدّت إلى تقهقر مجتمعاتنا فكريّاً واجتماعيّاً ودينيّاً! الكثيرون يعلمون في قرارة أنفسهم بأن من أهم الأسباب كما ذكرت في مستهل كلامي، أن المثقف العربي الذي يُساهم مساهمة فعّالة بأفكاره المستنيرة في تقدّم مجتمعه، يتم مطاردته في كل مكان كأنه آفة يجب القضاء عليها! وأصبحت الساحة خالية لشيوخ الدين المتعصبون في لعبث بعقول الأفراد كيفما شاءوا، وبرمجة عقولهم على قائمة من الفتاوى الدنيويّة! إضافة إلى محاربة معظم الحكومات العربيّة لأصحاب الأقلام النزيهة ورميها في السجون إن ظلّوا على مواقفهم منها، بل وتأديبهم بتلفيق التهم الباطلة لهم إنْ لزم الأمر، كي يتخلصوا من الصداع الذي يسببونه لها! ولا ننسى مؤسساتنا التربويّة التي تراجعت عن أدوارها الأساسيّة بإهمالها لتراثنا وعدم سعيها بجديّة لتثقيف الأجيال الصاعدة من هذا النبع الثري الذي خلّفه أجدادنا! وأيضاً عدم سعيها لمراجعته وتفريغه من الأكاذيب الملفقة التي صاغها بعض المؤرخين ترضية لحاكم ما بحقب معينة!
 
الأمر لم يتوقّف عند هذا الحد! بل تمادت الحكومات بالعصر الحالي في غيّها بقيامها اطلاق يد الرقيب لمصادرة الكتب التنويريّة التي هي أساس تقدّم أي أمّة، وحجبها عن أعين النشء الجديد. وهذه الأفعال أكبر دليل على أننا لا نُدرك فداحة ما يقترفه الجهلاء منّا.
 
مع تواري الأقلام الداعية للتنوير وإعمال العقل، وارتفاع نبرة الخطاب الديني المتشدد أصبحت الساحة خالية لمشايخ الدين في السيطرة على المشهد الاجتماعي برمّته، وتمَّ حشر الفتاوى في كل شؤون حياتنا الصغيرة منها والكبيرة، وصار الإنسان العربي يصحو من نومه على قائمة طويلة من الحلال والحرام، مما أدّى إلى تدجين سلوكه وحجب عقله!
 
أتذكّر في السنوات الماضية بمصر إبّان صعود التيار السلفي فيها واكتساحه عدداً كبيراً من مقاعد البرلمان، أن خرج أحد رموزه البارزين إلى الملأ معلناً “حُرمانيّة” أدب نجيب محفوظ، وأنه أدب ملحد كونه يدعو إلى الابتذال ويحضُّ على الرذيلة. ولحسن الحظ تصدّى لاتهاماته الشاطحة زمرة من المثقفين المستنيرين، الذين رأوا أنها آراء مُجحفة وفيها دعوة مبطنة لتحجيم الإبداع الأدبي في مصر.
 
من يقرأ سيرة نجيب محفوظ يُدرك كم كان هذا الرجل يؤمن بمبادئ التسامح الديني وحق المواطنة للجميع دون تمييز، وهذا كان جليّاً في كافة أعماله الأدبية، وكان يُردد بأن الفضل في تبنّي هذا التوجه يعود إلى أمه التي تعلّم منها احترام كافة الأديان السماويّة، والتسامح، ونبذ الطائفيّة، رغم أنها كانت سيدة أميّة لا تقرأ ولا تكتب. كان يحكي كيف كانت تُصادق الراهبات وتدعوهنَّ إلى بيتهم. وكيف تعوّد على مرافقتها في صغره لزيارة الأضرحة والأديرة والمساجد. وكيف استطاعت بتصرفاتها العفويّة وشخصيتها الطيبة إلى غرس هذه النبتة الحضاريّة الخالية من التعصّب العقائدي في أعماقه.
 
مع هذا، لم يسلم نجيب محفوظ من الهجوم المسلّح، ودفع في العقد الأخير من عمره ثمناً باهظاً كاد أن يُزهق حياته على يد متطرف لم يفتح يوماً دفتي كتاب من كتبه ليقرأ بعضاً من سطوره، لكنه انساق خلف فتوى متطرفة اتهمت محفوظ بالإلحاد بعد نشر كتابه (أولاد حارتنا).
 
علاقة الأديب محفوظ الوثيقة بأمّه، تُبيّن قيمة الأم في كل مجتمعات الدنيا وتأثيرها القوي في غرس نبتة التسامح العقائدي، وفي ترسيخ روح الانسانيّة في نفوس أبناءها ليشبّوا على هذه الأفكار الحضاريّة العظيمة.
إذا عُدنا لبداية العصر الحديث، سنكتشف بسهولة أن سيد قطب قبل أن يتحوّل إلى داعية إسلامي، كان ناقداً أدبيّاً وشاعراً له عدة مؤلفات أدبية، بل يُقال بأنه أول من كتب بإعجاب عن أدب محفوظ، وكان ذلك قبل أن يهجر عالم الإبداع ويتحوّل إلى أكبر مروّج للعنف المسلح من خلال كتابه الشهير (معالم على الطريق). وللأسف تبنّت بلادي في حقبة السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي نتاجه الديني المتطرف، قبل أن تلتفت مؤخراً لخطر مؤلفاته في تشويه عقول الشباب السعودي وقيامها بحظر كتبه.
 
***********
 
كثير من المثقفين المستنيرين الذين أثروا حياتنا الفكريّة العربيّة لم ألتقِ بهم وجهاً لوجه، لكن أحزنني رحيلهم لما خلّفوه من إرث ثري يجعلنا بالتأكيد ننحني إكباراً لهم. وقد كان موت المفكر المصري الدكتور نصر حامد أبو زيد أبلغهم أثراً في نفسي. وهذا يرجع لكون الرجل عانى كثيراً في السنوات الأخيرة من حياته، حيث تمَّ توقيفه عن عمله بالجامعة وتكفيره والتفريق بينه وبين زوجته مما أضطّره إلى الهجرة، ومات في ارض غريبة. وقد ظل أبو زيد حتّى اللحظات الأخيرة من عمره يُدافع عن طروحاته الفكرية، ولم يتراجع يوماً عن مواقفه، وهي سمة من سمات المثقف الحقيقي.
 
كل هذا العقاب الغير انساني الذي تعرّض له أبو زيد، كان نتيجة طرحه أفكاراً تنويريّة داعياً فيها إلى تجديد الخطاب الديني. وقد دفع ثمناً غالياً بسبب توجّس العقول المتحجرة من طروحاته العقلانيّة التقدميّة، والتي من سماتها الرئيسيّة الانغلاق على ذاتها، ورفض الحوار مع الآخر، وهو ما دفعها حينها إلى الثورة عليه ومحاربته بشراسة!
 
لقد لفت انتباهي عبارة جميلة قالها نصر أبو زيد في تعليقه على منعه دخول الكويت حين دُعي لإلقاء محاضرة قبل وفاته، قائلاً: “على المثقف أن يتمسّك باستقلاله حتّى لو تبنّى السياسي منظور المثقف. وعلى المثقف أن يكون حامي قيم، وأن يكون حذراً في تحالفه مع السياسي! وإن أعظم الأفكار تلوثها السياسة في بلاد تعتبر الحرية فساداً وترى المواطنين رعايا!”.
 
ولا يُمكن أن أغفل اسم المفكر والأديب السعودي عبد الرحمن بن منيف والذي ترك إرثاً فكريّاً عظيماً من أهمه كتابه (مدن الملح) بأجزائه المتعددة. هذا العملاق عُوقب في حياته بسحب الجنسيّة منه وأختار العيش بمنفاه الاختياري في الأردن إلى أن مات ودُفن هناك.
 
التضييق على المفكر العربي الحر ووضعه في سلة واحدة مع من يُطلق عليه لقب الإرهابي يطرح الكثير من التساؤلات. فهل أصبح المفكرون المستنيرون وأصحاب الأطروحات الجريئة، مثل المرضى المصابين بأمراض خطيرة يجب عزلهم ومُحاصرتهم كي لا يتسبب الاقتراب منهم في انتشار عدواهم بين عامة الناس، ووقوع وباء قاتل يؤدي إلى هلاك بشري؟
الغريب في الأمر! في الوقت الذي تُحارب فيه أغلبية حكوماتنا رافعي شعلة التنوير وتقصف الأقلام الداعية للتغير، تقف حائرة تجاه ما يجري على الأرض باسم الدين! وقد أثار استهجان الكثيرين موقف مشايخ الدين من الجماعات الإسلاميّة المسلحة، حيث ما زالوا منقسمون لحد اليوم حول اصدار فتوى بتكفيرها وهي التي سيطرت على عدد من مدننا العربيّة وقامت بتدمير آثارها، وطمس هويتها، وتشريد أهلها، واغتصاب نساءها، وقتل شبابها أمام مرأى العالم، بحجة أن هذه الجماعات يؤدّي أفرادها الفرائض الأربعة ويرفعون شعار لا إله إلا الله!
 
******
 
للأسف، كل ما يتردد بأن هناك مناخا فكريا منفتحا في بلداننا العربية كافة، وشيوع فكرة تقبّل الآخر بمذهبه أو فكره أو توجهه أو معتقده، ما هو إلا تهليل مُلفّق، وإخفاء وجه الحقيقة! وكل ما يُردده الإعلام العربي ما هو إلا كذب وافتراء! وواقع الحال لا يُبشّر بالخير، بل هناك تشجيع خفي على إشاعة ثقافة العنف وترسيخ فكرة التكفير من قبل شيوخ دين معروفين وصل عدد المتابعين لهم على شبكات التواصل الاجتماعي بالملايين! مما يؤكّد صحة كلامي بأن شعوبنا غدت مغيّبة، رافضة إعمال عقلها في تصريف أمور حياتها!
 
إنني أُشبّه موت المفكرين العظام بأوراق التوت التي حينما تسقط على الأرض تتعرّى أغصانها ويُصبح جذعها ضعيفاً غير قادر على مواجهة الرياح العاتية! ومجتمعاتنا العربية قد أضحت اليوم عارية الجسد هشّة الجذور، تتنازعها أفكار عقيمة، في وقت عصيب تعيش فيه اغتراباً فكريّاً وسياسيّاً ودينيّاً! .
 
**********
هل سنقرأ يوماً سورة الفاتحة على المفكرين والأدباء الحقيقيين؟ هل سيُصبح المثقف المستنير ندرة في مجتمعاتنا بالسنوات المقبلة؟ لا أعرف! ولكنني أؤمن بأن الشعوب مهما طال أمد صمتها إلا أن لها صحوة، متمنية أن لا يفوت الأوان وأن لا يطول أمد سباتها! لذلك نحن بحاجة لثورة ثقافية شاملة كي تهبَّ مجتمعاتنا من كبوتها، ثورة بكافة مرافق الحياة إذا اردنا الالتحاق بركاب الأمم المتقدمة. وإطلاع الأجيال الجديدة على تجارب الغرب وكيف نجح في تجاوز نكباته إلى أن وصل إلى ما وصل إليه اليوم من تحضّر. أيضاً بحاجة لإصلاح خطابنا الديني كي يتناسب مع متطلبات العصر الحديث، ومراجعة المسلمات المشكوك في صحّة منبعها، والاعتراف بشجاعة أن تعنتنا وإصرارنا على أننا على صواب وغيرنا في ضلال، لن يزدنا إلا انعزالاً عن العالم وتقهقراً للوراء.
 
المؤسسات التربويّة والتعليميّة العربيّة عليها اليوم أن لا تتخلّى عن أدوارها الأساسيّة بوضع يدها بجديّة في أيدي مثقفيها المستنيرين للنهوض بشعوبهم، وتوجيه النشء الجديد نحو الدرب السليم. إن الأمل ما زال قائماً مع كل طلعة شمس نهار جديد.
 
************