ملامح

ملامح

ملامح
الفصل الثاني
5

 
الليلة الأولى التي خلا فيها البيت من ثريا، كانت بالنسبة إلى ثقيلة، عدتُ يومذاك عند منتصف الليل، قادتني خطواتي إلى غرفتها، فتحت دولاب ملابسها، أدراج تسريحتها، كانت جميعها فارغة، أخذت كل أشيائها، لم يبق سوى صورتها الزيتية المعلقة فوق رأس السرير، كانت ترتدي فيها ثوباً أسود، وقد برز نفق ثدييها من فتحته الأمامية، تاركة غرتها مرتمية على صدغها الأيمن، تندلق من عينيها نظرات عهر وفسق، قلعتُ فردة حذائي من قدمي، قذفتها نحو الصورة، فوقعت الصورة على الأرض، مزقتها الضربة، أحدثت تشوهات كبيرة فيها، أذكر هذه الصورة جيداً،كنّا برفقة أحد رجال الأعمال الكبار،دعانا إلى رفقته إلى مدينة لاس فيجاس، المولع بها، هذه المدينة التي تُغري المرء وتدعوه إلى المقامرة في كل مكان، في الشارع، في الحانات، في المراقص، في الفنادق. كان الغيظ يأكل أحشائي، وأنا أراقبه عن كثب، يُهدر آلاف الدولارات كل ليلة على طاولات القمار، متمنياً لو كنتُ مالكها. كنا في فندق الهيلتون، نشاهد عرضاً راقصاً، كنّا ثلاثتنا ثملين، رأيت ثريا تميل نحو الرجل، تدنو بشفتيها من وجهه، قائلة له بلسان معوجّ : أتعرف أن اليوم هو عيد ميلادي الثلاثون . عندئذٍ أمر الرجل النادل أن يأتي بقالب حلوى، مكتوب على سطحه، اسمها باللغة الإنجليزية، واعداً إياها بأنه سيستدعي رسّاماً مشهوراً، متخصصاً في رسم المشاهير، ليرسمها احتفالاً بهذه المناسبة. ليلتذاك، رقصت ثريا طويلاً معه، كانت تقطر إثارة، في حركاتها، في نظراتها، في مظهرها، كانت تتربع على عرش الإغراء، مما أشعل وقود رغباتي، اشتهيتها بجنون، لكن كان متعذراً أن أنتزعها من بين ذراعيه، هذا سيؤدي إلى فقداني مزايا كثيرة، وحتّى لو كشفت عن رغبتي هذه، لن يعير أيُّ منهما اهتماماً لطلبي. تركاني أمضي بقية ساعات الليل وحدي، غارقاً في احتساء الخمر، واللعب على طاولات القمار، خسرت كل ما كان في جيبي من مال، لم أدلف لغرفتي إلا عند بزوغ الفجر، اصطحبت معي إحدى العاملات في صالة القمار، كانت في الثانية والعشرين من عمرها، نفّستُ فيها ثورتي، نفحتها ما اتفقنا عليه، وجدتها تتمطّى على سريري، مبدية رغبتها في تكملة نومها بجانبي، أمرتها بلهجة قاسية أن تترك الغرفة، لبست ملابسها على عجل، وعيناها تنضح بالدهشة والاستهجان معاً.
 
لا أعرف لماذا خطر على بالي جميل، ذلك الفتى العشريني، كيف كان ينتظر خروجي يومياً من المؤسسة، ويلاحقني حتّى باب السيارة،طالباً مني بإلحاح أن أوظّفه لديَّ، كان لم يكن حائزاً حتى الشهادة الابتدائية، ومؤهلاته متواضعة جداً . رنَّ تليفوني المباشر في مكتبي ذات يوم، لم أسمع في حياتي صوتاً مفعماً بهذا القدر من الأنوثة، عرّفتني بنفسها، إنها أخت جميل، لا أذكر ما قالته، سوى رجائها أن أشغّل جميل عندي، كنتُ مأخوذاً بسحر صوتها، بالعذوبة المغوية التي كانت تنضح من نبراته . عندما دعاني جميل إلى زيارتهم في البيت، عادت بي الذكرى إلى الوراء، وكأن ماضي حياتي تتكرر ، مشاهده مع أبطال آخرين، وفي زمن مغاير. كانت أخته لا تقل جاذبية وسحراً عن صوتها، استمرت علاقتي بها عاماً كاملاً، أغدقت خلالها عليها الكثير، قدَّمت لها العديد من الهدايا، وبعدما زرت بيتهم مرات لا تحصى أصابني داء الملل، فأوقفت الزيارات، وغيّرت أرقام هواتفي، ووقّعت قرار فصل جميل من الشركة.
 
وقف ينتظرني عند بوابة الخروج، كانت عيناه تسألني بإلحاح: لماذا؟ كان متشوّقاً لمعرفة سبب طرده. لم يدرِ أن الإجابة مدفونة في أعماقي، وأنني أصبحت عاجزاً عن مواجهة وجهي الآخر، أو تحمّل مشاهدة صفحة ماضيَّ القبيح في قسماته، كان هذا أكبر من أن تحتمله نفسي، أن ألمح نسخة أخرى مني، تتبع خطواتي، أن أرى شبح أخطائي يُطاردني في كل مكان، وفي جميع الاتجاهات، يُحرّك لي شاربه المفتول، يُرقّص لي حاجبيه، يحكي لي بمشاهدة حيّة ما فعلته بآدميتي، أو بمعنى أدق ما فعلته بي تطلعاتي وانجرافي خلف أهوائي.
 

﴿﴾

 
أحسست بأصداء الأمس، تصرخ بحدة في وجهي، أن كتلة مبهمة، تطبق على أنفاسي، أذرع خشنة الملمس، تشدني من إزاري ، توجهت صوب غرفة المعيشة، تمددت على الأريكة، أدرت التلفاز، لم أستوعب ما كان يدور على شاشته، كان فكري غارقاً في أوحال الماضي، من دون وعي من. تساؤلات تُحاصر فكري: ما فائدة استحضار ماض ولّى إلى غير رجعة ؟ لماذا أقف خائباً قبالته ؟ لمَ لا أسحقه بقدمي، كما سحقت الكثير من حاجاتي ؟ لمَ هذا الضعف الذي يتملكني، وأنا الذي لم أستسلم له يوماً ؟ تُرى أمن السهل على المرء أن يهجر ماضيه، يمحو مواقعه من على خريطة أيامه، حتّى لو كان الدم ، الذي يجري في عروقه، مرتبطاً بإكسير بقائه في الحياة ؟ هل تغيّرتْ ؟ هل أصبحتُ أضيق بهذا النمط من الحياة، وبتُّ أتطلّع لبناء حياة نظيفة لا يلوثها رجس الماضي ؟ أمر سخيف أن يفكر الإنسان في تحطيم مجسّد ذكرياته، قبل أن يسدد فاتورة أخطائه الباهظة !! هل أنا قادر اليوم على دهن جدران أيامي، الملطخة بندم كالح السواد، وتحويلها إلى جدران ناصعة البياض، هل من الغباوة التفكير بهذه الطريقة الساذجة ؟ أمن السهل علينا إلقاء نفايات أدراننا، عند أول منعطف يُصادفنا ؟ لاحت مني نظرة صوب صورة ولدي زاهر، الموضوعة في إطار ذهبي بجوار الأباجورة، أمسكتها، تأملتها، آه كم يشبه أمه في عينيها الجريئتين، لطالما هربت من عينيه اللتين تذكرانني دوماً بعينيها، لم يكن في استطاعتي تحمّل رؤية أربع أعين متجانسة في إشعاعها، تُحاصرني من جميع الجوانب. كان هذا أكبر من طاقة احتمالي، مما دفعني إلى اتخاذ قرار إبعاده . عندما أخبرته أنني حجزت له في مدرسة داخلية في الأردن، بكى، قال لي : أبي، أريد العيش معكما أنت وأمي، لا أريد السفر. إذا كنتُ قد أغضبتك في شيء، أعدك بأنني سأفعل كل ما تريده، لم أتأثر باستعطافه، كنتُ دوماً قاسياً معه، لا أذكر أنني قبلته منذ ولادته سوى مرات قليلة، تعد على أصابع اليد، ولا أبالغ إذا قلتُ إني قلما أشعرته بأبوتي، حاولت كثيراً التقرّب منه، أن أضغط على أعصابي، أترك أبوتي تقودني لرحاب بنوّته، لكنني فشلت، ظلال الماضي الدكناء، كانت دوماً تحجب الرؤية بيني وبينه، لا أرى فيه سوى الجانب الأسود من عمري . كنتُ متيقناً من أن هناك أشياء أخرى مشتركة، تربطه بأمه، عجزت عن كشفها . هل هي رائحة جلده، نبرات صوته، مشيته، لا أعرف ! أو عدتُ لا أريد أن أعرف. ذلك اليوم البعيد، عندما كان في الخامسة من عمره، كنتُ قابعاً قبالة شاشة التلفاز، أتابع فيلم فيديو، اتجه نحوي مبتسماً، رمى جسده في حضني، رائحة جلده نفذت إلى أنفي، اضطربت حواسي، دفعته لا شعورياً عني، سقط أرضاً على وجهه، انفجر باكياً، صرخت فيَّ ثريا بعصبية قائلة : أنت لا تحب ولدك، لماذا تُعامله بهذه القسوة ؟
 
أجبتها بتوتر: لم انتبه، كنتُ مشدوداً إلى أحداث الفيلم.
 
لحظتذاك ثقبت ثريا ملامحي بنظرات نارية ملأى بالشكوك والريبة دون أن تُعلّق .
 
كانت عاصفة من المشاعر المتضاربة تتصارع في أعماقي، هربت من المكان، خرجت إلى الشارع، كنتُ بحاجة لاستنشاق هواء نقي، خال من رائحتهما معاً . منذ ذلك الحين، بات كلما رآني هرب من أمامي ملتصقاً بمربيته الحبشية . يوم غادرنا للمرة الأولى، بكى في المطار وهو يودعني، قاومت عزوفي عنه، غمرته. ليلتذاك نامت ثريا في غرفته، ضامة وسادته، سمعت صوت نحيبها، لم أكترث لبكائها، نمت نوماً عميقاً، شعرت بأن الضغط على أعصابي قد خبا، وبأنني أتنفّس بارتياح، وبأن نسمة ربيعية تُداعب وجهي. هذا الإحساس الممتع الذي شعرتُ به تلك الليلة، جعلني أسأل نفسي.. هل تنحصر القضية بالفعل، في أن ولدي زاهر شديد الشبه بأمه، أم أن الحقيقة المتوارية، هي أنني أرى هشاشة أبوتي فيه، أو أنني لم أكن جديراً ببنوته ؟
 

﴿﴾

 
بعدما تمّ الطلاق،اعتدت سماع سؤال متكرر، يطرحه عليَّ كل من يلتقيني : لماذا طلّقتُ ثريا ؟ ليت السائل يعرف مدى العذاب الذي ينتابني، متى رمى أحدهم حروف اسمها على مسمعي، أو سألني عن أسباب الانفصال. لحظتذاك أتمنى لو كان باستطاعتي إسقاط هذه السنوات من عمري، أو لو أملك آلة زمن سحرية، كتلك التي نراها في الأفلام، وتعيدنا إلى الماضي، لغيّرت أحداث واقعي. كنتُ أجد نبرات صوتي تتشنج، حلقي يجف، أطرافي ترتعش، أجيب بعصبية : لقمة وانقطعت. لقد أصبحت الحياة مستحيلة بيننا .
 
أصعب شيء في الحياة، هو أن تجد الدنيا تمد لك لسانها، تقول لك : أنت أفّاق، كاذب، مخادع، وصولي.. إنني أعرف خباياك، مدى سفالتك، حقارتك . أن تكتشف بأن أموال الدنيا، الوجاهة الاجتماعية، الناس الذين يتملقونك، ليسوا قادرين على انتشالك من بؤرة الصراع المر الذي تعيشه مع ذاتك . هناك أشياء بدأتُ ألاحظها في تصرفاتي، خلال الأعوام الأخيرة، محاولتي المستميتة لإظهار تمسكي بالنبل والاستقامة .تُرى هل يعلّمنا الغنى معنى السمو والعلو؟ هل تدفعنا تخمة المال إلى التغّني بالقيم والمثل؟ هل تشبثنا بها إحساس فطري، أم لكي نزيّن وجاهتنا، ونحظى بنظرات الاحترام في كل مكان نرتاده؟ لماذا نقذف من نافذة أعمارنا بالأخلاقيات والمبادئ، التي نستقيها في صغرنا، حين نجد أنها قد تعوق تحقيق آمالنا، ثم عندما نصل إلى بر الأمان، ونمسك جميع خيوط مصائرنا بأيدينا، نراجع تاريخنا، ونغربله من الخطايا، حتّى نوهم أنفسنا ومن حولنا، بأننا ناضلنا بشرف، وكدحنا بإخلاص لنحصل على مرادنا ؟ بعدما ذاع صيتي، في دنيا رجال الأعمال، بدأ زوج صفية يتقرَّب مني، فتح لي بيته على مصراعيه، هو الذي كان يكره حضوري، أصبحتُ أحرص على زيارة صفية بين وقت وآخر، كانت تتملكني الغبطة متى نظرتُ إليها، أجد حسين الذي تاه مني في زحام الحياة، يربض في قسمات وجهها، في حدقتي عينيها، في حديثها الناصع المحتوى. كانت هيئة زوجة عمي، تمر بخاطري، متى وقعت عيني على صفية، التي تحوّلت إلى نسخة طبق الأصل من والدتها، بعد بلوغ سن النضوج، فأرى في قسماتها مجسّد الوفاء والعطاء، الذي تجرعته طفلاً على يدي زوجة عمي.
 
تسألني أحياناً في حنو : هل أنت سعيد مع ثريا؟ أجيبها بنبرة مصطنعة: كل السعادة. حين تم طلاقي من ثريا، اتصلت بي جازعة: لماذا أخفيت عليَّ ؟ ربما كنتُ أستطيع أن أفعل شيئاً. هدّأت من روعها، أفهمتها بأن التفاهم غدا بيننا معدوماً، وأن الطلاق هو الحل الأمثل لكلينا.
 
يومذاك قالت لي بنبرة حزينة: رحمك الله يا أمي، لو كانت حيّة لما سمحت أن يحدث هذا.كانت تكره كلمة الطلاق.
 
كانوا يستضيفونني كثيراً على شاشات التلفاز، وفي كل مرة، يُطرح عليّ سؤال محدد: أنت رجل عصامي، أحكِ لنا قصة كفاحك، حتّى يتعلم الجيل الجديد، أن النجاح لا يأتي للإنسان، وهو يضع ساقاً على ساق. كنتُ أحكي وأحكي عن معاناتي، وأنا طفل، عن زوجة عمي التي علمتني فضائل الحياة . كنتُ أتحدّث عنها بفخر وحب وامتنان، لكن عندما أصل إلى مرحلة تسلّق الدرج من البوابات الخلفية، كنتُ أبلع ريقي، تتساقط آلاف الكلمات من فمي، وأدلي بمئات النصائح، محذراً الشباب من الانزلاق إلى درك الرزيلة. على الرغم من سلسلة الأكاذيب التي كنتُ أبعثرها يميناً وشمالاً، وكمية الوقائع التي أنسجها من خيوط خيالي، وأنا جالس قبالة المحاور، لم يكن يرف لي جفن . كنتُ أعود إلى البيت بعد كل لقاء تلفزيوني، فأرى ثريا في صالة البيت، وقد انحسر ثوبها عن وركيها المكتنزتين، وحمالتي ثوبها منزلقتين عن كتفيها، وقد برزت انتفاخة ثدييها، تمدّ ساقيها على الأريكة، والسيكارة في فمها، والكأس في يدها، وما إن تراني حتّى تصيح قائلة بنبرة مخمورة، لا تخلو من التهكّم: كنت رائعاً. فعلاً أنت قدوة صالحة للشباب. ثم تغمز بعينها وتطلق ضحكاتها الماجنة، وتنصرف مترنحة إلى غرفتها، تاركة دخان سيكارتها يلحق بخطواتها. أحياناً كنتُ أشعر بحريق في أحشائي، متمنياً تكميم فمها، لتجرّؤها على خضّ صندوق ذكرياتي، ورمي محتوياته على الأرض، وتؤاتيني رغبتي القديمة في أن أخمد أنفاسها إلى الأبد، في أن أواري جسدها الثرى، مع هذا الجانب المخزي من حياتي . وأحياناً أخرى، كانت جلستها المثيرة تُحرّك شهوتي، فألحقها إلى مخدعها، أدفعها صوب السرير، كانت تصرخ في وجهي، مطلقةً بشتائم بذيئة، تطلب مني أن أبتعد عنها، كانت ثورتها تزيد من إصراري، تحتشد في فكري، مشاهدها الفاسقة مع عشاقها، أفرغ شهوتي فيها بعنف، ثم أعود لحجرتي .
 
في الماضي، في بداية حياتي، سعيتُ بكل ما أملك من عزيمة، للهرب من الفقر والشقاء اللذين وسما طفولتي . لقد دست على أشياء كثيرة، قمت بأفعال لا تمت لآدميتي بصلة، متفاخراً بذكائي في الوصول إلى ما أريد، ومعتقداً أن الثروة هي الأمان، وأنها علامة الوجاهة، وسلطة الأقوياء، وأن وصولي لمبتغاي سيحولني إلى مخلوق سعيد، يحسده الكل على النعيم الذي يحيا فيه. كم كنتُ مخطئاً، فلا شيء يُعادل السلام مع النفس، ويُعوّض عن طمأنينة البال. عدتُ أنقّب كالمعتوه في دواخلي، عن دقيقة راحة في حياتي، تلك الراحة المرتبطة بالذات، بالروح، بسمو النفس. تطفو ملامح زوجة عمي، على سطح فكري، تحضرني عباراتها، الطيبة: أصبر يا حسين. أنا متأكدة أن الحياة ستعطيك يوماً. لكن كن دوماً أميناً مع نفسك ومع الآخرين. تطلّع باستمرار إلى أن تكون طيب السيرة مثل أبوك.
 
هل هناك وقت لإصلاح أعطاب نفسي؟! لترميم جدران حياتي؟! أنا بالفعل حريص على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، عقد صلح مع ضميري، الوقوف بشجاعة قبالة مرآتي، أضمَّ بعيني، وبلا تردد جسدي، من دون أن أفكر في البصق على وجهي. هذا المطلب الملح حثني على بناء مسجد صغير، في أحد الأحياء الشعبية في مكة، وعلى إقامة رباط لإيواء عدد من الأسر التي فقدت معيلها، وتقديم تبرعات للجمعيات الخيرية، وتخصيص مرتبات شهرية لعدد من الأرامل مع أطفالهن. عندما كانت تخترق سمعي، الدعوات لي بطول العمر، وزيادة الرزق، أحدّق في ملامح الناس الهزيلة، التي دكّها الفقر، وأتساءل: هل أنا رجل محظوظ، كوني نجحت في الهرب من مستنقع الفقر، أم ربما كانوا أوفر حظّاً مني، لكونهم ينامون ملء جفونهم ليلاً ؟ وهل للحظ مواصفات أخرى لم تقرع بابي؟
 
قبل سنوات طويلة، هجرت مكة إلى جدة، عزمت لحظة رحلت عن مكة، أن ألقي بحمولة أوجاعي في واحد من أوديتها السحيقة، طارداً عن جسدي كل العذابات التي تجرعتها من حرمان وحسرات، وأتحرر من العقد المتراكمة في داخلي، وأبدأ حياة جديدة، وأُكوِّن أسرة صغيرة أتشاطر معها الحياة، وهذا ما دفعني لاحقاً إلى التفكير جديّاً في الانفصال عن ثريا، ففي وجهها يرسم الماضي أخاديده، وفي نظرات عينيها تربض قصص تنازلاتي، وفي نبرات صوتها تسكن أشباح تطلعاتي. وها أنا أعود ثانية، وأقرر الرحيل، لكن إلى مكان بعيد، لا ترصدني فيه العيون، ولا تحاصرني الألسن بالسؤال، إلى بقعة، لا يملك ماضيَّ القدرة على عبور المحيطات، وملاحقتي إلى أرض الغرباء، ليبتزّ راحتي، ويقلق لياليَّ، حتَّى لو كان ما تبقى من العمر، لا يُعادل ما رحل منه، يكفيني أنّي سأُرمم مخلفاته.
 
بعد أقل من عام على تركي ثريّا، صفّيتُ تجارتي في جدة، نقلت جميع أعمالي التجارية إلى لندن .
 

•••

 
 

ملامح – رواية – من ص 91 إلى ص 100