نساء عند خط الاستواء

نساء عند خط الاستواء
نساء عند خط الاستواء
إيقاعات أنثوية محرّمة

 
استيقظت مبكراً على سخونة جسده الملاصق لجسدي، تناهى إلى سمعي صوت المطر المنهمر بالخارج، لم يتوقف عن التساقط منذ ليلة البارحة، ابتسمت، شعرت بسعادة تغمرني من أحداث الأمس، لم أتوقع الإقدام على مثل هذا الفعل. أزحت ذراعه المطوقة خصري برفق، نظرت إلى قسماته النائمة، حاولت إيقاظه بالعبث في شعر رأسه، الداكن اللون. نظر صوبي من تحت جفني عينيه المثقلتين، ثم أدار وجهه عني، مد ذراعه تجاه حقيبة صغيرة موضوعة على المنضدة بجواره، فتحها، غاص بيده فيها، أخرج حفنة من الدولارات، وضعها بجانبي، عاد للنوم مرة أخرى، شعرت بسخونة تسري في شراييني، إحساس بالخزي والعار يتملكني، كأنني أتعرّى من ملابسي لأول مرة في حياتي. لكزته في خاصرته قائلة بنبرة مضطربة(( ما هذا !! )) أجابني بصوت ناعس (( حقك خذيه.. دعيني أكمل نومي )) دقات قلبي تلاحقت، أحسست برغبة في التقيؤ، البكاء، الصراخ، الهروب من هذا المكان الذي غدا مقززا بالنسبة لي. تمنيت لو واتتني الشجاعة لصفعه على وجهه، رميه بأقذع الشتائم، تحاملتُ على نفسي، قذفت بملء يدي رزمة النقود، تبعثرت في أرضية الغرفة، ارتديت ملابسي على عجل، متحاشية النظر صوب الرجل الذي عاد يغطُّ في النوم. صفقت الباب خلفي بعنف، مرددة بوجع (( لست مومساً..لست مومساً )) .
 
خرجتُ مهرولة تجاه المصعد، بهو الفندق يعمه الهدوء، ما زال نزلاؤه نياماً، وقفت هنيهة عند بوابة الفندق، لفحتني نسمات الصباح الباردة، لاحظت أن المطر قد توقف عن التساقط، آثرتُ السير على قدميَّ، لأتحرر من كابوس الكآبة الجاثم على صدري. أعشق باريس في هذا الوقت من العام، أشبهها بالمرأة اللعوب التي ترتدي أجمل حليها لتغري القادم إليها. بدا نهر السين منسابا، زاد من تألقه انعكاس ضوء الشمس الذي ما زال يرتدي حلة النوم. من بعيد كانت تتراقص السفن السياحية على جانبي النهر، محدثا التحام قعرها بالماء ،نغماً خافتاً كهمس العشاق ، تذكرتُ ليلة الأمس ، التقيت به على ظهر إحدى هذه السفن ، لفتت نظري أناقته، وسامته، فحولته التي كانت تشع في بؤبؤي عينيه، سيطر عليَّ إحساس لحظتها بأني أعرفه من زمن بعيد، نظرات إعجابي شجعته على الجلوس بقربي، لم أحاول الابتعاد، ازددت التصاقاً به، سألني : (( قادمة للتنزه ، أليس كذلك ؟)). أومأت برأسي إيجاباً قائلة : (( أعشق باريس في فصل الخريف، أراها تتحرر من جمودها، وكبريائها العتيق، تصبح امرأة تلقائية في تصرفاتها، تنساق خلف رغباتها بلا تصنّع )) قاطعني قائلاً بحبال صوتية رخيمة :((ما رأيك في تكملة الليلة معي؟ أتمنى أن تكوني لساعات باريسية الهوى!!)) لم أجبه، تأملته بملء عينيَّ، ابتسمت له ابتسامة ذات مغزى، كانت في أعماقي رغبة لعصيان كل قواعد المحظورات في أعماقي .
 
لسعة برودة اقتحمت مساحات جسدي، أيقظتني من غيبوبة تأملاتي، أعادتني لحاضري، دمعة حاولت التملّص عبر مقلتيَّ، داريتُ انفعالات وجهي خلف نظارتي الشمسية، انتابتني حالة من جلد الذات، تذكرت ليلة الأمس ..كيف واتتني الجرأة على إزاحة الستار عن هذا الجسد، لشخص لا يربطني به عقد زواج !! هراء ..
 
أعرف كثيرات يخنَّ أزواجهنَّ ، لهنَّ علاقات خاصة، يبحثن عن متعهنَّ خارج أسوار الزوجية، يرفضن الاعتراف والخضوع لعقد الملكية . تباًً للرجل، إن أعطته المرأة ازدراها بعد أن تُصيبه التخمة منها، وإن ضنَّت عليه اتهمها بالرجعية والتخلف، تُراني امرأة مبتذلة لتفكيري هذا !! منظر النقود يلوح في ذهني، يتملكني الغيظ والحنق، صوت أمي يخترق مسامعي، يحضرني عبر مسافات الزمن (( فاطمة ادخلي للبيت. لا تدعي أحداً يرى ساقيك . أصبحت شابة . دلفت إلى عالم الأنوثة )) عندما كنت أسألها :
 
((ماذا تعني كلمة أنوثة !!)) كانت تنهرني (( مازلتِ صغيرة . غدا تكبرين وتفهمين )). لمحتني يوماً أقف في شرفة المنزل برداء يظهر جيدي وزندي يديَّ ، ضربتني ضرباً مبرحاً ، هددتني إن كررت هذا الفعل ستطفئ أعواد الكبريت المشتعلة في جلدي
 
(( جسدك هذا لا يجب أن يراه سوى الرجل الذي سترتبطين به في المستقبل )). (( ما معنى الزواج يا أمي ؟ )).
 
تصرخ في وجهي (( أنتِ لست مثل أخواتك اللاتي يتقبلن تعليماتي بلا مناقشة )). لم تحاول إشباع نهم فضولي ، بل إنها دون أن تقصد أثارت بدواخلي زوابع من الرهبة تجاه جسدي، ورسمت في فكري علامات استفهام كبرى .
 
أول مرة التقيت بزوجي كان في حفل مختلط، ذهبت دون علم أهلي، تحفّظت في الحديث معه، توجسي منه طغى على إعجابي به، نجح بيسر في إيقاعي بأساليبه المحترفة ، أحببته بعنف، من أول خلوة لنا سلمته نفسي، اخترقت العالم المجهول الذي حذرتني دوماً أمي من الاقتراب منه، تذوقت المحظور بشغف بالغ ، استمرت علاقتنا ثلاث سنوات، تقدّم بعدها لخطبتي بعد إلحاح شديد مني، طلقني بعد شهرين من زواجنا. في البداية لم أصدق أن تنتهي قصة حبنا بهذه النهاية المفجعة، شكّه كاد يدمرني، في إحدى مرات شجارنا سألته معاتبة (( لماذا تُحيطني بهذا الكم من الشك والريبة !!)) أجابني باستخفاف (( كيف أثق بامرأة وهبتني جسدها قبل أن أتزوجها !!)) .
 
هربت من جحيم شكه ، قررت نسيان تجربتي الأليمة ، وضعتُ قضبانا قاسية على مشاعري ، كنتُ بحاجة إلى هدنة مع ذاتي، حتَّى كانت هذه الرحلة التي أيقظت حواسي النائمة ، أتيت باريس للترويح عن نفسي ، عندما التقيتُ بهذا الرجل، لم تردعني وصايا أمي ، وتهكمات مطلقي في معاودة تذوّق طعم التجربة من جديد .
 
الطقس ازداد برودة، قطرات المطر عادت للتساقط كالسيل العارم، التصق ردائي المبلل بجسدي، أخذتُ أرتجف، أسناني تصطك، تذكرت أنني تركت مظلتي بالفندق، لعنت تهوري الذي أوصلني إلى هذا الوضع، تلفّت يمنة ويسرة آملة العثور على سيارة أجرة، توقفت سيارة عابرة بجواري، لاح لي شاب وسيم بداخلها، مد رأسه من النافذة، عرض باسما إيصالي، تجسّدت أمامي أحداث ليلة الأمس الحمراء، مرّت تفاصيلها في فكري، السهرة الماجنة التي امتدت للفجر، صدى فحيح نشوتي التي رويتها بوحشية، عينا الرجل النهمتان نهشتا مفاتن جسدي طوال ساعات الليل، حفنة الدولارات التي ألقاها بجواري، ألفيتُ نفسي أصيح بلغتي العربية، في صاحب السيارة :(( لا أريد الركوب، أغرب عن وجهي أيها الوغد.)) وتحركت من مكاني لاهثة، وسط ملامحه المشوبة بالدهشة والاستغراب .
 

هل أمارس جنوني ؟؟

 
– ألو .. الأستاذ علي ؟؟
 
– نعم ..أنا هو ..من المتحدث ؟؟
 
– أنا من المعجبات جداً بمؤلفاتك، وآرائك التي تطرحها من خلال عامودك.. أنا أعتبرك مثلي الأعلى في الحياة .
 
– أشكرك .
 
– أعلم أن مشاغلك كثيرة، لكني أرغب في إطلاعك على نتاجي الأدبي . أنا كاتبة ما زالت تخطُّ بداياتها .
 
– بكل سرور. سأنتظر نتاجك، وأعدك بقراءته قراءة متأنية، وإبداء رأيي بصراحة .
 
حيّاها، وأقفل الخط . شعور بالغبطة تملّكها، لم تصدق نفسها، أنها كانت تتحدث مع علي الأمير، من أشهر الأدباء، وأغزرهم نتاجاً. بالنسبة لها يُعدُّ أسطورة، علامة بارزة في تنمية حسها الأدبي. أخذت تدور في أرجاء البيت وهي تُدندن بنيرة فرحة . ضامة أحد كتبه لصدرها، لقد عاشت سنوات مراهقتها بين دفات كتبه، جميعها قرأتها، تابعت مقابلاته الصحفية، طالعنت مقالاته الساخنة، لم يفتها أي مما سطّره النقاد عن نتاجه الأدبي. سنوات طويلة وهي تحلم بهذا الرجل، كيف يأكل؟ متى ينام ؟ أين يكتب؟ عرفت تاريخه، ماضيه المشرّف، آراءه الجريئة، إخلاصه لقضاياه، السنوات التي أمضاها في السجن نتيجة مواقفه الجريئة، حياته التي سخرها لتحقيق أهداف نبيلة لمجتمعه العربي .
 
ظلت أياماً تدور في فلك نفسها، التفكير يعتصرها من كل جانب، متسائلة في قرارة نفسها (( هل سيعجبه قلمي!! هل ستنال قصصي استحسانه !!)) شعوران حاصراها ممزوجان بالإعجاب به، وبالرهبة من شخصيته، مرّ أكثر من أسبوعين، جمعت شتات شجاعتها، هربت من سياج جبنها، ضغطت الأزرار على رقم هاتفه، تسرّب إليها صوته رخيماً، رجولياً، هادئ النبرة، ما أن سمع صوتها حتى حيّاها بسرور .
 
سألته على استحياء!!(( هل اطّلعت على نتاجي ؟؟))
 
(( بالطبع. أستطيع بلا مجاملة القول بأنك كاتبة جيدة. إنني أتنبأ لك بمستقبل زاهر في عالم الإبداع )).
 
أجابت بنبرة تمتلئ حبوراً (( هل ستساعدني للالتقاء بالقراء، من خلال تزكيتي لدى إحدى المطبوعات المعروفة؟؟)).
 
(( هذا حديث لا ينفع الخوض فيه عبر الهاتف.. ما رأيك في قبول دعوتي لفنجان من القهوة؟ )).
 
ارتبكت، لجمها طلبه، سهم من التوتر أصابها في أعماقها، لم تجبه، صمت سيطر على كل منهما . بتر الصمت بسؤاله لها (( هل وافقت على اقتراحي ؟ أم تُفضلي إرجائه بعض الوقت؟)) .
 
أجابته بصوت متقطّع (( أنا واثقة فيك ، لكنّي متوجسة بعض الشيء . أنت تعرف بأننا نعيش في مجتمع محافظ لا يرحم )).
 
(( أعرف مكاناً جميلاً على البحر، لا يرتاده إلا عدد قليل من الناس. إنها فرصة سانحة للنقاش، خاصة أن جو جدة هذه الأيام ربيعي، لا رطوبة فيه، مما يُشجع على الالتقاء.
 

أعلنت موافقتها، أقفلت الخط، شعرت بسوط من اللوم يلهب تفكيرها، صهد من التقريع يربض في أعماقها (( كيف وافقته على طلبه المجنون ؟)).
 
نظرت إلى ملامحها في المرآة كانت تعلوه صُفرة غريبة، عضلات وجهها متقلصة، يداها ترتجفان، قلبها يخفق بشدة، تساءلت في نفسها (( أكلّ هذا من أجل فنجان قهوة ؟! لا، السبب أعمق من هذا. أنا معجبة بشخصيته، مبهورة بثقافته. هل أنا خائفة من الوقوع في حبه !! لكنه رجل متزوج، ولديه أبناء. بالإضافة إلى أن عمره يتجاوز ضعف عمري!!)). طردت الهواجس من أفكارها، حاولت التعامل مع الأمور ببساطة، وإقناع نفسها أن الصلة بينهما لا يجب أن تتجاوز علاقة أديب بكاتبة واعدة .
 
عندما دلفت داخل المقهى، رأتها جالساً في ركن منزو، منهمكا في قراءة إحدى المطبوعات، عرفته من صوره المنشورة دوماً في الصحف والمجلات، حيّته، جلست، طلب منها رفع وشاحها ليرى وجهها، تلفتت يمنة ويسرى، أزاحته بعد أن تأكدت من خلو المكان تقريباً، إلا من طاولات قليلة متفرقة، نظر إليها مبهوراً ((كم أنت جميلة !!)). علت حمرة الخجل وجنتيها، أرخت أهدابها، قدّم لها كتابه الأخير بعد أن سطّر عليه عبارة إهداء (( إلى من تسرّبت روحها لنفسي لحظة رأيتها)). ابتسمت لكلماته، وضعت الكتاب بجانبها، أخذ يُحدق فيها بجراءة أكثر، اختلست النظر إليه، لاحظت شعيرات فضيّة في أطراف فوديه تُطل من غترته، شواربه السوداء تخللتها أيضاً بعض الشعيرات البيضاء. بدا في الحقيقة أكبر سناً من صوره المنشورة، وقاره، ابتسامته الساحرة، أضفتا على ملامحه شعاعاً من الجاذبية الغامضة، مما قد يدفع الكثير من النساء للجري خلفه . لاحظت أنه ما زال يصب عليها نظرات الإعجاب، زادتها ثقة في نفسها .
 
سألته بلهفة (( هل ستساعدني على الولوج لعالم الأدب ؟)).
 
أجابها بثقة ((أعدك أن أقف بجانيك حتى تصبحي كاتبة مشهورة. هذا الجمال يستحق أن يتعب الإنسان من أجله)). رفعت حاجبيها قائلة بانفعال تلقائي((لا أريدك أن تساعدني لأني جميلة. المهم أن تكون مقتنعاً فعلاً بموهبتي الأدبية)). (( سيدتي.. لماذا تأخذين الأمور على هذا المحمل من الجد!! ألا تعرفين أن قضيتي الأولى في الحياة المرأة والحب !!)). حدجته باستغراب قائلة (( كنت أعتقد أن قضيتك الأساسية حرية الإنسان، والتزامه تجاه قضاياه . ألم تكن دوماً تدعو لهذا ؟!)).
 
ضحك ضحكة صاخبة، اخترقت طبقاتها غلاف قلبها، غرست فيه خنجراً من الصدمة في شخصه، أحسّت كأن صرحاً عظيماً تهدّمت أعمدته في زوايا نفسها .
 
(( أنت خيالية، ولكنها على أية حال صفة مطلوبة في الأديب. سأسدي لك بنصيحة. حاولي دوماً الفصل بين واقع المجتمع، وبين نفسك، الحياة أجمل ما فيها ممارسة الجنون، مجيئك للقائي فيه شيء من الجنون، لكن ما زال عليك ممارسة الجنون نفسه )).
 
سألته باستخفاف (( وكيف ذلك ؟!)) .
 
(( بالخروج من دائرة الواقع . ممارسة أفعال يرفضها العقل والمنطق.. أتدرين ما عيب قصصك !! أنها جامدة، تنقصها حرارة التفاعل مع تجربة حية، تجريدها من القيود الاجتماعية، وأغلال الكبت والحرمان )).
 
(( أتريد إقناعي أن كل الإبداعات الخالدة، كانت نتيجة تجارب مجنونة ؟!)) .
 
(( معظمها، خاصة الإبداعات العالمية . لقد نجح الغربيون في القفز فوق سياج التقاليد، والعادات البالية ، ثاروا على كل شيء في
 
في سبيل تذوق الحرية )) .
 
((لكن الحرية ليست سيفاً نرفعه في وجه قيمنا ومبادئنا.أداة نذبح بها معتقداتنا. الحرية في رأيي هي تمسكنا بقضايا تحترم إنسانيتنا ))
 
(( أتعرفين. لقد اكتشفت أنك لست أديبة فقط، بل وفيلسوفة أيضاً. صغيرتي من الواضح أنك لم تتذوقي شيئاً من متع الحياة. حرري نفسك من سجن العيب والحرام. اجعليني الأداة التي تحطمين بها خوفك وترددك. تعلّمي أن تغتنمي الفرص. تابعي ما يهم الناس، ويشغل بالهم ، ويلفت انتباههم لتُسيطري عليهم. حتى لو كنت غير مؤمنة بقضاياهم وآرائهم. الحياة مركب فلا تجدّفي عكس التيار )).
 
اقترب منها، حاول أن يمسك يدها، سحبتهما، شبّكت أناملها بعضها ببعض عند ركبتيها. لم تعلّق على حديثه، أصابها خرس عقد لسانها، كانت تود أن تصرخ فيه، أن تقول له :(( أنت أكبر مخادع. كاذب. ما تقوله بين دفات كتبك شيء، وما تضمره شيء آخر. تُرى كم من الناس مخدوعون فيك ؟؟كم من الأفراد مؤمنون بحروفك النارية ؟؟ ويعتبرون فلسفتك في الحياة نبراساً لهم ؟؟ ))
 
اكتفت بالنظر صوبه باحتقار، ملأها شعور بالخيبة منه، مدت يدها بلا تفكير، أمسكت كتابه الذي أهداه إليها، سقطت عيناها على عنوان الكتاب (( الطريق إلى الحرية )) أطلقت زفرة عميقة، ناولته إياه، قائلة بحزم (( آسفة .لا أريد ممارسة هذا الجنون )). قامت من مكانها، أصلحت الوشاح على رأسها، أولته ظهرها، اتّسعت حدقتا عينيه، لاحقها بعينيه الشبقتين ، ثقب بوقاحة نظراته، استدارة عجزها الملفوف، نفث دخان سيكارته، متمتماً (( ساذجة . جاهلة بأصول فن اللعب )) .
 

لا بد أن تُغرّد البلابل

 
– سيدتي، السيدة منى في غرفة الضيوف بانتظارك .
 
– قدّمي لها شيئاً . أخبريها أني آتية في الحال .
 
ارتدت ملابسها على عجل، نظرت إلى ساعة يدها، لاحظت أن صديقتها حضرت قبل موعدها بنصف ساعة، قالت لنفسها بتأفف (( كم أحب دقة المواعيد )) ألقت نظرة أخيرة على منظرها في المرآة، شعرت بالرضا، بدت أكثر جمالاً، الهالات السوداء تحت عينيها خفّت كثيراً عن السابق، نتيجة الأرق الذي صاحبها في الأسابيع الماضية .
 
(( مها . ما كل هذه الأناقة !! ستكونين نجمة الحفل هذه الليلة )) .قالت لها صديقتها وهي تتأمل طلتها .
 
طوال الطريق لم تكف منى عن الثرثرة، الحديث عن تفاصيل الحفل، عن صاحبة الدعوة، الإشادة بذوقها، كرمها، أناقتها، عن مركز زوجها الهام في الدولة، ونفوذه، وثروته الطائلة .
 
فُتحت بوابة القصر، دلفت العربة للداخل، دارت مها بعينيها في أرجاء المكان، أنوار الحديقة الخافتة، الشجيرات المزروعة فيها بعناية وتناسق، كانت في الركن الجانبي من الحديقة مرصوصة أعداد كبيرة من الطاولات الدائرية، مغطاة بمفارش بيضاء مزركشة، محاطة بعدد من الكراسي، مربوط بظهره شرائط من التل الزهري اللون .
 
(( أهلاً منى. تفضلي . ألا تعرفينني على صاحبة هذا الجمال الرائع ؟!)) قالت صاحبة القصر .
 
(( إنها صديقتي مها التي حدثتك عنها. أتذكرين ، لقد قصصت عليك قصتها، خرجت لتوها من تجربة زواج فاشلة بعد قصة حب عاصفة )) .
 
لوّحت بيدها قائلة (( كل الرجال لا أمان لهم . انظري إليّ . كل الناس يحسدونني على الترف الذي أعيش فيه .لا يعرفون أنني أحيا في وحدة قاتلة. زوجي طوال العام في رحلات عمل خارجية، أعلم أنه يصطحب معه في كل رحلة صديقة جديدة ترفه عنه)) متابعة بمرارة (( كل هذا لم يعد يهمني ، لقد رميته منذ سنوات خلف ظهري، وكوّنت لنفسي مجموعة من الصديقات أستمتع بوقتي معهن )) .
 
دققت مها النظر فيها، إنها بالكاد في الثلاثين من عمرها، جميلة الملامح، متناسقة الجسم، ألقت مها ناظريها حولها، كل شيء يدل بالفعل على البذخ، قاعة الضيوف الشرقية كانت مصممة على شكل جلسة عربية، السجاجيد الحرير مفروشة على الأرضية المغطاة بالرخام البرّاق، الخادمات الآسيويات كخلية نحل، لم يتوقفن طوال الوقت عن تقديم أفخر أنواع الحلوى السويسرية والمشروبات على اختلاف مذاقها، وقد ارتدين زياً موحداً، أضفى عليهن طابعاً مميزاً .
 
اقترحت صاحبة القصر على المدعوات بدء برنامج الحفل بعد العشاء، وافق الجميع بحماسة. كان عشاء مكلفاً يتضمن أصنافاً فرنسية وإيطالية وصينية بجانب الأطباق الشرقية المألوفة .
 
قالت منى بانبهار (( حفلة رائعة . أليس كذلك ؟؟)) مخاطبة مها .
 
اكتفت مها بإيماءة من رأسها، اتجهت صاحبة القصر صوب مها، ألحت عليها أن تأخذ كأس عصير، ما إن ارتشفت منه رشفة حتى بصقتها، سألتها بشيء من التوجس عن نوعيته، ضحكت قائلة وهي تغمز بعينيها (( إنه كأس من الجين مع التونك . هذا النوع يجعلك تحلقين في الفضاء . ألا تريدين أن تنسي آلامك !! إنها أنجح وسيلة للنسيان. تجعلك تستغنين عن زيارة عيادات الأطباء النفسانيين )). فهمت مها مغزى كلامها، أخبرتها بإصرار أنها لا تحب الخمور بسائر أنواعها .
 
بدأت المغنية في الغناء، امرأة ذات بشرة داكنة السمرة، متوسطة العمر، تحيط بها من الجانبين مجموعة من الفتيات تتراوح أعمارهن ما بين العشرين والخامسة والعشرين ، يُساندنها بالضرب على الدفوف، مهارة المغنية في العزف على آلة العود، براعتها في الأداء ، دفعت بعض النساء للرقص وسط القاعة، وقد تمايلت أجسادهن في حركات منتظمة، وسط تشجيع الأخريات لهن بالتصفيق ، وترديد الأغاني مع المغنية .
 
لاحظت مها شيئاً غريباً يتسرب إلى جو الحفلة، الأنوار بدأت تخفت، العيون تُرسل إشارات ذات مغزى، وفي آخر القاعة بدأت تلتصق كل اثنتين في أوضاع مثيرة . أفاقت من ذهولها على صوت صاحبة القصر قائلة بصوت مخمور (( هل أنت مسرورة ؟!) لم تعلّق مها، ضغطت صاحبة القصر بيدها على كف مها، ثم كررت المحاولة بالضغط على أحد وركيها بأناملها الدافئة . شعرت مهاكأن ماساً كهرب جسدها، هباب ساخن طفح على وجنتيها، ارتفاع حرارة انفعالها، فقدت رباطة تماسكها، أحسّت بالبلل بين فخذيها، قامت مسرعة، لحقت بها صاحبة القصر قائلة بغنج (( هل ضايقتك ؟!)). تحاشت مها نظراتها النارية، أبدت رغبتها في الانصراف، رفضت صاحبة القصر طلبها بحجة أن الحفل ما زال يحمل الكثير من المفاجآت، دعتها للفرجة على أنحاء القصر، وهي مطبقة على يدها، وكلما حاولت مها سحبها، تشبثت بها صاحبة القصر أكثر، ساقتها إلى جناح نومها، ذُهلت مها من فخامته، رجتها صاحبة القصر أن تقعد بجانبها على الأريكة الموضوعة في إحدى الزوايا، أغرقتها بنظرات حارة زاخمة بالاشتهاء قائلة (( كل منّا مجروحة . جربي عالم النساء ستجدين أنه أروع كثيراً من عالم الرجال )). انتاب مها الذعر، تملكها الهلع، وجدت صعوبة في التخلّص منها، خرجت مهرولة من الغرفة، أنفاسها تتلاحق ، عندما غدت خارج القصر، تنفست الصعداء.
 

***

 

(( مها، ما هذا الذي فعلته بالأمس ؟؟)). قالت لها منى معاتبة :
 
(( ماذا فعلت ؟!))
 
(( لقد أحرجتني مع صديقتي بتصرفك الأهوج . كما إنك انصرفت دون أن تخبريني )).
 
(( بالتأكيد قصّت عليك صديقتك ما جرى )).
 
(( نعم ،وكانت ردة فعلك غبية . لقد افلتِّ من يديك فرصة ذهبية . هذه المرأة كانت ستسد فراغك العاطفي ، بدلا من أكذوبة الرجل الذي تجرعت منه كؤوس المرارة ، الواحدة تلو الأخرى )) .
 
(( وما المقابل لكل هذا ؟!))
 
(( لا تتظاهري بالغباء . ماذا يضيرك؟؟ إنها امرأة محرومة . زوجة لرجل لاه عنها بأعماله وعلاقاته الخاصة، من حقها أن تعيش حياتها بالصورة التي ترضيها )) .
 
(( وهل أنا من اختارتها لتكون سلوة وحدتها ؟!)) .
 
(( فكري بتعقّل، وتروي في قراراتك . مع السلامة ))
 
أقفلت صديقتها الخط، دون أن تدع لها المجال لتكملة النقاش معها، تمددت مها على سريرها، أغمضت عينيها، سرحت بفكرها في ماضيها، ذكرياتها اقتحمت خلوتها، استسلمت لها، أعادت وهي مسترخية تفاصيل حياتها .
 

***

 
عشتُ طفولة رائعة بين أب وأم متفاهمين، وأسرة مترابطة سعيدة، أظهرتُ شقاوتي بكل صورها، مع صديقاتي، وزميلاتي في المدرسة، البراءة والسذاجة، كانتا الغالبتين على تصرفاتي، لم أكن كبقية البنات اللاتي تفتّحت مداركهن مبكراً على التفكير في الجنس الآخر، وقضاء الوقت في معاكسة الشباب عن طريق الهاتف، بل كانت تنتابني حالة من اللامبالاة عند الخوض في مثل هذه الأحاديث. أتذكّر جيداً ذلك اليوم الذي اكتشفتُ فيه هذا النوع من الحب، الذي ينعتونه بعالم المثليات. هربت كالعادة من قاعة الدرس قبل أن يحين موعد حصة الرياضة، لألعب وقتاً أطول، فتحت القاعة لأبدل ملابسي المدرسية، تناهت إلى سمعي تأوهات صادرة من الغرفة الصغيرة، المجاورة للقاعة، التي تستعملها المعلمة لتخزين أدوات اللعب، مددت رأسي للداخل وقد تملكني الفضول، جحظت عيناي، كانت هناك طالبتان في مشهد جنسي، لم أرَ شبيهه إلا في السينما المصرية لكن بين رجل وامرأة، وقع المفاجأة أدخلني في نوبة هستيرية من الضحك، انتبهت الطالبتان لوجودي، قامتا بترتيب هيئتهما الخارجية، خرجتا مهرولتين من الغرفة .
 
حادث آخر وقع لي، عندما كنت في الثالثة عشر من عمري، حضرت إلى مدرستنا طالبة جديدة، كان مقعدها بجانبي في الفصل، من أول يوم لها حاصرتني بنظراتها الغريبة، وأحياناً كانت تبتسم لي قائلة (( ما أجملك . ما أحلى تناسق جسدك )) لحظتها كان يصيبني سهم من الارتباك، تهرب مني شجاعتي، يسيطر علي الجبن والخوف منها، فأبتعد عنها ودقات قلبي أكاد أسمعها من فرط اضطرابي . تعودت حينها أن آخذ الأمور ببساطة وعفوية أقرب إلى السذاجة، إلى أن اقتحم زوجي حياتي، تزوجته في بداية مرحلتي الجامعية، بعد قصة حب عاصرتها معي كل صديقاتي .
 
خمس سنوات قضيتها مع زوجي، معظمها تخللتها خلافات مستمرة، بسبب الفجوة الواسعة التي كانت بيننا، كثيراً ما كنتُ أسأل نفسي (( لماذا اخترته هو بالذات، على الرغم من أنه لم تكن عنده مزايا فتّاكة، تحمل المرأة ربط مصيرها به )). أدركت بعد فوات الأوان أنني قد أسأت الاختيار، وأن الطلاق لا بد أن يحدث يوماً .
 
أحداث الحفلة أيقظت في داخلي كل الأحاسيس، التي حاولتُ مراراً دفنها في أعماقي، جعلتني أتساءل (( هل هذا الطريق من المفروض أن تطرقه المرأة، إذا فشلت علاقتها مع الجنس الآخر؟! هل عالم المثليات سيخرجني من سجن أحزاني، ويطفئ رغباتي المتعطشة للحب؟! وهل تستطيع امرأة أن تكون بديلاً عن الرجل في حياة المرأة ؟!)) .
 
كل هذه الأمور تزاحمت في خاطري بإلحاح، حتى تعبتُ من دورانها داخل حلقة رأسي .
 

***

 
انغمست معها في روح روتين حياتها، تشاغلت في الأيام اللاحقة بإعادة ترتيب أوضاعها. انتبهت ذات مساء على رنين الهاتف، رفعت السماعة، جاءها صوت أنثوي قائلاً بدلال (( هل ما زلت متحاملة علي ؟؟)). أدركت أن صاحبة القصر هي المتحدثة، تملكتها الحيرة (( كيف أتصرف؟! ماذا أقول لها ؟! هل ألغي ما بداخلي من فطرة تجاه الرجل، وأخطو بقدميَّ في هذا الطريق الغامض ؟؟ أم أرفض هذا المنحنى لإيماني بأن الطريق ما زال رحباً للالتقاء برجل يفهمني، وأجد عنده الأمان الذي أبحث عنه؟؟ هل أقذف بكل ما تعلمته من قيم ومثل في حياتي، وأنغمس في بؤرة هذه الرزيلة؟!)) .
 
صوت خافت من أعماقها ناداها(( تمتعي بحياتك. العمر لحظة سرعان ما تذريها رياح الزمن ))
 
بترحيرتها صوت المرأة على الهاتف (( ألو …ألو… مها..لماذا أنت صامتة ؟!)). كانت عينا مها مصوبتين تجاه النافذة، حيث الشمس في انحدار للغروب، وأستار الليل تضفي ظلالها على الأرض، أيقنت جازمة أن الغروب لا بد أن يتبعه شروق، وعندما يأتي الغد لا بد أن يأتي فارس نبيل تغرد معه كل البلابل، مدت يدها، أغلقت في صمت سماعة الهاتف .
 

امرأة على فوهة البركان

 
وقفت المرأة أمام المرآة، نظرت بحسرة إلى معالم جسدها، وقع بصرها على حلمتي ثدييها، لاحظت انتصابتهما، لوت شفتيها، أدارت رأسها ناحية زوجها، كان يغطُّ في النوم، رشقته بقرف، صوت شخيره ضاعف نفورها، أشاحت بوجهها عنه، حشرت ثدييها في حمالة صدرها، أكملت ارتداء ملابسها، سحبت عباءتها من المشجب، دلفت إلى غرفة الجلوس، رمت عجيزتها على الأريكة، ألقت بصرها على التلفاز، أخذت تُقلب قنواته بالريموت كنترول وهي شاردة بذهنها بعيداً عن مشاهده، رن جرس الهاتف، أعادها لأرض واقعها، هرعت بلهفة نحوه، تحدثت بصوت منخفض، ارتسمت الفرحة على معالم وجهها، شيء من الارتياح تسرّب لدواخلها المضطربة بعض الشيء، ارتدت عباءتها على عجل، صوت زوجها القادم من مخدع النوم اخترق سياج غبطتها، اتجهت صوب الغرفة، سألته بجفاء (( ماذا تريد؟! )).
 
سألها بنبرة ناعسة (( أين ذاهبة ؟!)).
 
(( لشراء بعض الأغراض قبل حلول المساء، وسأمر في رجوعي على مروة صديقتي )) .
 
رمقها بطرف عينه ، قائلاً بنبرة معاتبة (( لم تعودي تحبينني )) .
 
أجابته بتأفف (( عدنا إلى الموشح نفسه. لندع العتاب جانباً )) .
 
أولته ظهرها متابعة القول بنبرة هازئة (( إذا رغبت في شيء ستجد الخادمة. هي دوماً رهن إشارتك )) .
 
شعرتْ بالاختناق من أجواء البيت الكئيبة، هرولت إلى الخارج، دلفت إلى داخل السيارة، طلبت من السائق أن يذهب بها إلى الكورنيش، جلست على واحدة من الصخور الكبيرة، المستلقية بوداعة على شاطئ البحر، لفحت النسمات وجهها، انحسر الوشاح عن رأسها، تطاير شعرها الأسود الفاحم، لامس بحنو صدغيها، هدير أمواج البحر حرّك مجرى ذكرياتها، دفعها ناحية شط ماضيها، انخرطت في البكاء، لاحت لها صورة زوجها، وأحداث تلك الليلة القاتمة، لم تكن قد أكملت عاماً على زواجها، أخبرته أنها مضطرة للمبيت عند أهلها بمكة، عدلت عن رأيها بعدما تشاجرت مع أختها الصغرى، أصرّت ليلتها العودة إلى جدة، ما إن أدارت المفتاح في باب الشقة ودلفت إلى الصالة حتى سمعت فحيحاً، يصدر من غرفة نومها، انقبض صدرها، مشت على أطراف أصابعها، شعرت بالأرض تدور بها وعيناها تقعان على زوجها وفي أحضانه ترقد خادمتها الآسيوية على سريرها. أصابها الوجوم، قام يجري كالفأر المذعور، قدّم بعدها اعتذارات وتبريرات واهية، طالباً الصفح والغفران، وعدها أنه لن يعود لمثل هذا التصرف مرة أخرى، لمحته في مرات لاحقة وهو يداعب خادمتها الجديدة، يضربها على مؤخرتها بشهوة مكشوفة، وهي تتمايل أمامه بأنوثة مفضوحة .توالت الحوادث، تكرر الأسف، أصابها تبلّد حسي تجاهه، برود غريب تسرب لأعماقها كلما حاول لمسها أو ممارسة الجنس معها، تكوّن بداخلها شعور مفرط لم تستطع كبحه، إنه بؤرة نتنة، ماء ملوث يصب في أي مجرى مهما كان منبعه .
 
أفاقت من شرودها على أبواق السيارات المتزاحمة في الطريق، إحدى السيارات لمح أصحابها الجسد المكوّم على الصخرة، تعالت أصواتهم بكلمات غزل جريئة، اضطربت، أعادت الوشاح على رأسها، تجاهلتهم، عندما يئسوا من المحاولة ابتعدوا .الأغاني المنبعثة من أجهزة التسجيل اختلط بعضها مع بعض، صوت محمد عبده وأغنيته (أرفض المسافة) تداخل مع صوت عمرو دياب وأغنيته
 
( ويلوموني ) مع صوت أم كلثوم وأغنيتها ( هجرتك ) تعبت أعصابها من هذا الضجيج، الذي لم يحترم خلوتها. دفنت رأسها بين ركبتيها، غاصت في بحر أحزانها، نجحت أمواج البحر المتلاطمة في إعادة السكينة لنفسها التائهة، التي كلّت من البحث عن مأوى آمن .
 
أقفلت عائدة، تذكرت المغامرة التي تنتظرها في الغد. منذ أيام وهي خارجة من السوبر ماركت، رمى لها رجل ورقة بها رقم هاتفه، راقت لها هيئته، جسارة نظراته، تجرأت ودست الورقة في حقيبة يدها، لم تعرف عنه سوى القليل، مجرد مكالمات خاطفة عبر الهاتف :(( يقولون في العلاقات العابرة لا تهم الظروف المحيطة بالشخص، المطلوب فقط أن يكون قادراً على تأدية الاحتياج المطلوب )). ابتسمت لنفسها، مرددة عبارة خدّرت أعصابها (( غداً سأدخل جنتي الموعودة التي رسمتها في خيالي، وليذهب الجميع إلى الجحيم )) قامت صباح اليوم التالي مضطربة بعض الشيء ، أعادت تصفيف شعرها عدة مرات، الساعة دقت العاشرة، لم تزل هناك ساعة على الموعد المضروب، اختارت هذا التوقيت لتضمن وجود زوجها في العمل، رن جرس الهاتف، ردت بلهفة ((سأنزل بعد نصف ساعة. نعم أعرف العنوان. لا سأفهم السائق أنه مسكن صديقتي الجديد. مع السلامة )). أقفلت الخط، عادت بسرعة لغرفتها لتكمل هندامها .
 
توقفت السيارة عند باب العمارة، تلفتت يمنة ويسرة، طلبت من السائق الانتظار، فتحت باب المصعد، ضغطت على زر الطابق الذي تريده بعصبية، توقف بها عند الطابق الثالث، قالت لنفسها (( لا. الشقة في الدور الرابع . سأكمل على قدميَّ )). صوت حذائها كالسوط يلهب فؤادها، أحست كأن أزمة قلبية أطاحت بشجاعتها،وستؤدي إلى مقتلها. وقفت أمام الشقة، رقم عشرة تراقص أمام عينيها، توهمت أن شللاً أصاب ذراعها، قواها خذلتها، لم تستطع الضغط على زر الجرس، سمعت جلبة وضوضاء بالدور العلوي، ارتبكت، أسدلت الوشاح على وجهها، ضغطت على الزر بشدة، لاح لها الرجل مبتسماً من خلف الباب الموارب، سحبها من ذراعها، العرق بدأ يتصبب من مسامات جلدها، طافت بعينيها في هيئته، وطاف هو بعينيه في مفاتنها، كان مرتدياً جلباباً مفتوحاً عند أعلى صدره، نظراتها تسمّرت في شعيرات صدره النافر، رائحة عطره الرجولي غطّى على عبق عطرها، كل شيء يشير إلى عمق فحولته الفتية، اقترب برفق منها، حاول إزاحة عباءتها عنها، تمسّكت بها، سألها بنبرة رخيمة (( هل أنت خائفة؟؟)).لم تجبه، كل آلام الماضي التحمت مناظرها في مشهد واحد في ذهنها، صوت مجلجل اخترق ذبذبات عقلها قائلاً لها (( ما زلت عند بر الأمان. السفينة لم تقلع بعد )). اقترب منها أكثر، أنفاسه لمست صفحة وجهها، استجمعت قوتها، دفعته عنها، اتجهت صوب الباب، خرجت متعثرة في عباءتها، قفزت فوق درجات السلم، نيران من الاحتجاج اندلعت فيها، طلقات من الندم اخترقت ضميرها، ركبت سيارتها، أمرت السائق بالتحرّك مرددة في عناد (( لا، لن يكون الثمن عمري )) .
 

نساء عند خط الاستواء

 
كانت الشرفة في الطابق الأرضي تُطل على حديقة واسعة، زاخرة بأشجار الياسمين والفل والريحان، وفي الكن الشمالي من الحديقة نُصبت تكعيبة كبيرة، غطيت أعمدتها الخشبية بخميلة العنب، وتحت التكعيبة وضعت طاولة دائرية، رُصت حولها مقاعد وثيرة، لاستقبال الضيفات .
 
اتفقت الصديقات الأربع على الاجتماع في بيت صديقتهن فاطمة، حضرن وقت الغسق بأثواب قطنية، فضفاضة، تتناسب مع قيظ الصيف، ورطوبته، وقد ارتسمت على وجوههن ملامح الرتابة والملل .
 
في محاولة لكسر حدة الجو القاتم قالت فاطمة (( أتدرون ما الشيء الذي تتلاقى عنده صحبتنا ؟؟)) .
 
قالت عبلة :(( بالتأكيد أفكارنا الجنونية، التي لا يقرها مجتمعنا المحافظ )) .
 
علّقت عبلة (( ولماذا لا تقولين الفراغ الموحش الذي يجثم على حياتنا، وحياة الكثيرات من مثيلاتنا ؟! لقد أصبحت معظم الروابط الأسرية صورية. الكل يعيش في برج عاجي صنعه لنفسه. إننا نحيا وسط مجتمع مكبّل بعادات وتقاليد موروثة، أدت إلى إصابته بوباء الغليان الداخلي !!)) .
 
أضافت نهى (( ربما لانشغال أزواجنا عنّا. الرجال أضحوا لاهين عن زوجاتهم بصفقاتهم التجارية، والنساء اتجهن للبحث بنهم عن منافذ تسدُّ غيابهم )) .
 
ابتسمت ليلى قائلة (( لا، بل يجمع بيننا تطلعاتنا الثورية، حلم العيش في مجتمع تسوده روح الديموقراطية )) .
 
قالت فاطمة بنبرة جريئة (( ما رأيكن في فكرة تبدد هذا الضباب الكئيب. تكتب كل واحدة على ورقة مستقلة أمنيتها حول المستقبل على ورقة، ثم نتناقش سويّاً فيها. لنبدأ بعبلة ..)) .
 
قالت عبلة (( أتمنى أن أقود مركبة فضائية، أجوب بها العالم ، أرى الناس من فوق السحاب ، لا يعترضني شرطي مرور، ولا لوائح تمنعني من القيادة، ولا نظم رجعية تعرقل طريقي. أحلم بحياة بسيطة دون تعقيدات، ولا حواجز، ولا حدود، أريد أن تكون كل الأوطان العربية أوطاني )).
 
قالت فاطمة ضاحكة (( كم أنت خيالية . مطلبك هذا لن يكون له وجود يوماً في عالمنا العربي، لأن الجميع متهيبون بعضهم من بعض، معدومة الثقة بينهم ، رغم هذا سنحترم أمنيتك، ونحفظها في ملف المطالب )) .
 
قالت فادية (( أتدرين ما هي أمنيتي ؟! أن نؤسس جمعية لحماية حقوقنا، اتحاد نسائي نناقش من منبره مطالبنا، وندافع من خلاله عن كياننا )) .
 
قاطعتها فاطمة :(( عن أي حقوق تتحدثين ؟؟)) .
 
تابعت فادية :(( السعي إلى إبراز مكانة المرأة ،ودورها وقيمتها الحقيقية في مجتمعنا. في إفساح المجال أمامها لتولي مناصب ما زالت حكراً على الرجل )).
 
قالت نهى بنبرة فضولية (( أوضحي أكثر )).
 
أجابت فادية (( أنظرن حولكن. لقد عادت المرأة للقهقرى، إلى عهود الجاهلية يوم كانت تُباع وتُشترى. أين نحن مما كان يجري في صدور الإسلام الأولى حيث كانت المرأة تُجادل، بل وتُستفتى في كثير من الأمور الفقهية !! إننا في نظر الرجال ناقصات عقل ودين )).
 
قالت فاطمة (( لقد أرفقنا ورقتك مع المطلب الأول )).
 
قالت نهى (( أمنيتي أن يكون لمثقفاتنا منتدى أدبي، يلتقين فيه، ويتجادلن، ويعرضن من خلاله نتاجهن الأدبي ..)).
 
اعترضتها فاطمة (( لكنن هنالك الكثير من المثقفات يقمن في بيوتهن أمسيات ثقافية، يَدعين إليها من شئن ، ألا يكفي هذا ؟!)) .
 
قالت نهى بحسرة (( كلها تدور في نطاق ضيق، محدود، لا يُسمن ولا يغني من جوع )).
 
قالت فاطمة معلقة (( لقد أغفلتِ دور الجمعيات الخيرية النسائية. إن لها دوراً كبيراً في تفجير طاقات المثقفات عن طريق الندوات التي تقيمها لهن من حين لآخر )).
 
ردت نهى بلهجة انفعال (( يظل دورها هامشياً للغاية، وذلك لعدم وجود تنظيم لهذه الندوات، وعدم الدعاية الكافية لها. أجيبيني بربك كم من المثقفات يتم إرسال بطاقات دعوة لهن للحضور، والاهتمام بمشاركتهن ؟! صدقيني كلها قائمة على العلاقات الشخصية، والألقاب الرنانة . بجانب وجود فجوات عميقة بين المثقفات نتيجة للغيرة، والحقد، وإحساس الأنا الطاغي عند كل واحدة منهن بأنها(( البريمو )) على نظيراتها في عالم الأدب )) .
 
ابتسمت فاطمة قائلة (( عموماً لقد أضفنا اقتراحك إلى قائمة المطالب. والآن ما رأيكن لو نتوقف قليلاً لاحتساء كوب من عصير الليمون !! أعتقد أن الجميع بحاجة لإطفاء صهد هذا البركان الفكري )).
 
وافقن جميعاً، هدوء، صمت أطبق على المكان، لم يتخلله سوى صوت الكؤوس وهي ترتطم بسطح الطاولة، انقضت برهة، أشارت بعدها فاطمة لصديقتها ليلى ببدء الحديث .
 
قالت ليلى (( أتمنى أن يكون لنا صوت في الانتخابات )).
 
قالت فاطمة بدهشة (( عن أي انتخابات تتحدثين ؟! وهل لدينا برلمان حتى تطالبي بالتصويت ؟!)) .
 
قالت ليلى بحماسة (( لماذا لا يكون لدينا برلمان حقيقي أسوة بالدول المتحضرة . أن تشغل المرأة مقاعد رئاسية فيه . وتناقش في أروقته كل ما يخص قضايا وطنها )).
 
قالت فاطمة (( كوني عاقلة ، لا تنسي أن المرأة في مجتمعنا ما زال الرجل وصيّا عليها. يمارس دور الرقيب على كل خطواتها.كما أنها لم تصل إلى مرحلة النضوج الفكري الكامل حتى تتمكن من اختراق هذا العالم المتحضر )) .
 
قالت ليلى بحدة (( إلى متى سنظل ننظر لأنفسنا بعين النقص ؟؟ لقد أصبحت بيننا الدكتورة، والمعلمة، والفنانة، والأديبة، و ..)) .
 
قالت فاطمة (( تنقصنا نظرة المجتمع الرجالي نحونا بعين مختلفة عن رؤية الأمس الضيقة . الحد من سطوة بعض رجال الدين ، الذين يستغلون الآية الكريمة ( وقرن في بيوتكن ) ، مع أنها نزلت في توقيت ومناسبة محددين )). تعالت أصواتهن جميعاً قائلات في نفس واحد (( فاطمة . لقد قلنا جميعاً مطالبنا، ولم تخبرينا عن أمنيتك !!)).
 
شردت فاطمة بأفكارها بعيداً،خلف خيط ذكرياتها المريرة مع الصحافة، تنهدت قائلة (( أمنيتي أن تصبح لدينا صحافة حرة، قادرة على نشر مطالبنا، وأن تترأس مطبوعاتنا صحافيات قادرات على إيصال أفكارنا للرأي العام، دون أن يدفنها الرجال كالعادة في أدراج مكاتبهم )).
 
علّقت نهى على قولها باستخفاف (( لكن حتّى المثقفين من الرجال لا حول لهم ولا قوة في عالمنا العربي، كلهم تنهش جلودهم مخالب القمع، والاستبداد. إن الطريق ما زال طويلاً أمام صحفنا العربية لتصبح ذات سلطة مستقلة عن دولها )).
 
أوقف سيل المناقشة قدوم الخادمة الآسيوية، معلنة انتهاء تجهيز العشاء. قمن متثاقلات، تركن أوراق المطالب على الطاولة، نسمة خفيفة هبّت، تطايرت أوراق أحلامهن بعيداً، خارج أسوار الحديقة، داست أقدام المارة على الأمنيات المستحيلة .