الوجوه تذهب وتبقى المواقف

الوجوه تذهب وتبقى المواقف

الوجوه تذهب وتبقى المواقف

الجمعة 17/6/2005

 

كل فرد سيمضي ذات يوم، لكن في نهاية الأمر لن يبقى من الإنسان سوى تاريخه، وكم من عظماء مضوا وظلت مواقفهم حية بين الناس لنصاعتها، وكم من أناس ماتوا فجرفهم التاريخ في مجرى النسيان، واندثروا كأنهم أشياء لم تكن، لبشاعة ما ارتكبوا على مدار حياتهم.
 
راودتني هذه الخواطر، وأنا أقرأ موقفا مشرّفا لمؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد، مع جمعية صهيونية في القدس عام 1930، حين طلبت منه وقتها، التضامن مع حملة الاحتجاج ضد العراقيل التي وضعها العرب في فلسطين أمام اليهود، لممارسة عباداتهم في القدس. رفض حينها التوقيع، وقد علّق برسالة قال فيها “.. لا أعتقد بأنه يمكن لفلسطين أن تصير ذات يوم دولة يهودية، ولا أظن أن العالمين الإسلامي والمسيحي، سيكونان مستعدين لرؤية أمكنتهما المقدسة خاضعة للإشراف اليهودي..”.
وفي السنوات الأخيرة، أعلن عدد من الأدباء، وفي مناطق متفرقة من بلداننا العربية، رفضهم قبول جوائز أدبية عن أعمالهم الإبداعية، معبرين من خلال هذا الرفض عن احتجاجهم على سياسات بلادهم.
 
الفنان المشهور مارلون براندو بطل فيلم “العـرّاب”، كان قد رفض هو الآخر في حياته، جائزة الأوسكار رغم العوز المادي الذي كان يعيش فيه، وذلك احتجاجا على ما يجري للهنود الحمر داخل الولايات المتحدة الأميركية، وأرسل بديلا عنه يوم الاحتفال، فتاة من أصول هندية، لتحكي أمام العالم، ما فعلته أميركا بحق شعبها، وكيف ساهمت هوليوود في تحسين صورة الرجل الأبيض الغازي، وتشويه تاريخ وحضارة أجدادها من الهنود الحمر.
 
ومؤخرا، قدّم استقالته يحيى زكريا نجم، القائم بالأعمال المصري في كاركاس، احتجاجا على السياسات الخارجية لحكومة بلاده، واعتراضه على الفساد المالي والسياسي المتفشي فيها. هذه المواقف الفردية المضيئة لعدد من المثقفين، على اختلاف توجهاتهم، وتباين مواقعهم، وتفاوت تخصصاتهم، تجعلنا نتساءل عن دور المثقف الحقيقي!.
 
الواضح اليوم أن المثقفين صاروا منشقين. فهناك المثقف الذي سقط عمداً، وأُخذ غدراً، نتيجة التعنّت في تقبّل الرأي المخالف، وارتفاع موجة الإرهاب الفكري، التي اجتاحت رقعة كبيرة من مجتمعاتنا العربية، الآخذة معاوله تـطال كافة الرموز النزيهة، وتصفّى جسديا كل من يقلق منامها، ويتسبب في زيارة الكوابيس الليلية لها.
 
وهناك المثقف الذي تسرّب إليه الإحساس بالدونية، وتملكه الإحباط النفسي، نتيجة فشله في تطوير عقلية مجتمعه، وفي خلق منهج فكري متطوّر، يُـساهم في دفع عجلة التقدّم. وهناك المثقف الذي جرفه تيار مصالحه الفردية، وأعطى ضميره إجازة مفتوحة، وسيطرت عليه الأهداف الشخصية، حتّى تناسى دوره الحقيقي في بناء عوالم إنسانية، مما يعني أن هناك بين مثقفينا من أغمض عينيه بعد أن قبض الثمن غاليا، عن العمليات الخفية التي تُدار من تحت الطاولة، لتدجين الفكر العربي، وغضَّ النظر عمّا يجري حوله من انتهاكات أخلاقية، على أيدي أنظمة فاسدة، استبدادية، لا تعبأ بكرامة الإنسان.
 
المثقف الحقيقي هو الشعلة التي تنير سراديب الظلام في أي مجتمع، ولو أعطى المثقفون ظهورهم للأوبئة التي تجتاح مجتمعاتهم، وصمّـوا آذانهم عن آهات الوجع، تكون هذه المجتمعات قد خطّت على لوحة مستقبلها، بخطوط عريضة، عبارة الغرق في دوامة الانحطاط الفكري والاجتماعي والسياسي.
 
يقولون في أمثالنا الشعبية، الموت مع الجماعة رحمة، لكنه رأي خائب في نظري، لأن الشجرة الباسقة، حتّى لو شبّت وسط العشب التالف، تستطيع الأجساد الاحتماء بظلالها الوارفة.