الجنسية وهوية الأرض

الجنسية وهوية الأرض

الجنسية وهوية الأرض

الجمعة 13/1/2006

 
الهوية ليست خانة جنسية يضمها المرء في بطاقته الشخصية، أو بيانات يدونها في جواز سفره!! الهوية الحقيقية هي الأرض التي يستنشق الفرد هواءها، ويختلط بأهلها، ويتعلّم في مدارسها، ويشب على ثقافتها·
 
هناك العديد من الصور المتناثرة تتناقلها وسائل الإعلام، عن زيجات تمت بين رجال عرب وأجنبيات، بدأت بالحب الملتهب وبشعور الطرفين عدم قدرة أيٍ منهما الاستغناء عن الآخر، ثم انتهت نهايات مأساوية· فبعد مضي برهة من الزمن على الزواج تشبُّ الخلافات، ويكتشف الزوجان أنهما لا يستطيعان التفاهم مع بعضهما بعضاً، كون كل منهما آتياً من بيئة مغايرة، ومحيط مختلف عن الآخر· تشعر الزوجة وقتها أنها لم تعد قادرة على الاستمرار في مجتمع يقوم على أعراف وتقاليد ليس لها حيز بمجتمعها المنفتح، لتنتهي العلاقة بالفشل الذريع· وقد تضطر الزوجة للجوء إلى سفارة وطنها لتخليصها من عبء هذا الزواج، أو إلى الهرب من بلد زوجها بأبنائها، تاركة الزوج يضرب أخماسا في أسداس· وتكون الطامة أكبر لو كان الزوج عربيا مسلما وهي على ديانة أخرى، مما يجعله يفقد سيطرته، ويصرخ كالمجنون، محاولا استعادة أبنائه بطرق غير مشروعة، وقد ينتهي الأمر بوقوعه تحت طائلة القانون، والحكم عليه بالسجن، وهناك أمثلة حية كثيرة لهذه النوعية من الزيجات·
 
هذه الوقائع المحزنة طفت على سطح تفكيري وأنا أقرأ الخبر الذي تناقلته وكالات الأنباء، حول تحذير كبير الأساقفة الإيطاليين من مخاطر الزواج المختلط بين مسلمين وكاثوليكيات، معللا الأمر بالفوارق الثقافية الشاسعة· وجدتُ نفسي أربط بينه وبين قصة وفاء بن لادن، التي تصدّرت صورها المجلات والصحف العالمية مؤخرا، وهي ابنة الأخ غير الشقيق لأسامة بن لادن· استوقفني قولها أمام شاشات التلفاز وهي تردد باكية ”أنا أميركية·· أنا ضائعة·· أنا اخترت القيم الأميركية”· وفي تصريح آخـر لها بجريدة النيويورك بوست قالت ”الشكر لله أن أمي هربت بنا قبل عشر سنوات مع أخواتي الأخريات”·
 
وفاء بن لادن في رأيي ضحية مثل غيرها من الأبناء الذين تتنازعهم تبعية الجنسية من جهة، وهوية ثقافة الأرض التي ترعرعوا عليها، ولا يعرفون سوى مفاهيمها من جهة أخرى· فمنطقيّا مفروض على وفاء أن تحترم جنسيتها العربية، وديانتها المسلمة، التي تلزمها بأمور لا تقرها المجتمعات الغربية، وطبيعيّا هي لا ترى ولا تسمع ولا تستوعب سوى ثقافة المجتمع الذي تشرّبت من معتقداته على مدار عمرها الربيعي القصير·
 
لا يمكن للمرء أن يقلع أظفاره دون أن يشعر بالألم الشديد، ولا يمكن أن ينزع غرسة يانعة من تربتها دون أن تترك فجوة مكانها· ولا يمكن أن يزرع وردة في صحراء جرداء ويتوقع أن تظلَّ مورقة· كذلك الإنسان مفاهيمه التي يستقيها منذ نعومة أظافره إلى أن يشبَّ عن الطوق ويستوعب معاني الحياة، هي المؤشر الذي يوجه حياته ويُشاطره صباحه ومساءه، وهي النداء الداخلي الذي يعطيه الضوء الأخضر ليتفاعل مع مجتمعه ومع المجتمعات الأخرى·
 
ليت الرجل الذي يقرر في لحظة صفاء، الارتباط بامرأة تفصله عنها آلاف مؤلفة من الفكر المتباين الرؤيا، أن الثمن الذي يدفعه قد يكون باهظاً في أغلب الأحيان، ففي الوقت الذي يقرر غسل يديه من آثار هذه الزيجة ليبدأ دنيا جديدة، يظل أبناؤه يمضغون الحصرم إلى لحظاتهم الأخيرة، وكل ذنبهم أنهم جاءوا في لحظة ضعف إنساني وما أكثرها في حياة البشرية·