غلطة الضعيف بألف

غلطة الضعيف بألف

غلطة الضعيف بألف

الجمعة 12/5/2006

 
علمونا ونحن صغار، عبراً كثيرة على مقاعد الدراسة، في حصص المطالعة قرأنا عن الأمانة والصراحة والشجاعة والبسالة، وردّدنا خلف معلمتنا بصوت عالٍ، من زرع حصد، ومن صبر نال، والنبل سيد الأخلاق. تركنا طفولتنا خلفنا ودخلنا معترك الحياة بقلوب متفائلة في المستقبل، والحِكم التي تلقيناها في طفولتنا ماثلة أمام أعيننا، لكن شيئاً فشيئاً صرنا عاجزين عن فهم ما يجري من حولنا، وأصابتنا خيبة كبرى في مجتمعاتنا، كون هناك فجوة كبرى بين ما تجرعناه في صغرنا بين حجرات الدراسة، وبين ما نلمسه بأيدينا وما تقع عليه أعيننا.
 
ليس هناك حديث اليوم أهم من قضية انهيار الأسهم الخليجية، والحكايات المؤلمة التي تُحكى عن أفراد قضوا نحبهم بعد أن فقدوا كل ما لديهم. وعن قصص موجعة لأرامل بعن مصوغاتهن الذهبية ليجنين أرباحاً مضاعفة من لعبة الأسهم، تُساعدهن على تحمّل أعباء الحياة. وصور مؤسفة عن أرباب أسر انهارت معنوياتهم، بعد أن تبخّرت أحلامهم في تحقيق الثراء الذي كانوا يتطلعون للوصول إليه.
 
انهيار الأسهم الخليجية في الآونة الأخيرة، ذكَّرني بقصة البدوية التي درسناها في مناهجنا، وملخصها أن بدوية وضعت اللبن الذي حلبته من معزتها في الجرة لتبيعه في السوق، وأثناء الطريق سحبتها أمانيها صوب البعيد، وتخيّلت أنها باعت اللبن بثمن طيب، وأنها استطاعت أن تشتري بأرباح ثمنه المضاعفة قطيعاً من الماعز، وفجأة تتعثر البدوية وتقع وتنكسر الجرة ويُراق اللبن على الأرض وتنسكب معه أحلامها. هذه الواقعة تشبه قصة الأسهم،حيث سقط الجميع على وجهه دون سابق إنذار.
 
المثير للاستهجان، أنك تفتح التلفاز، وتتوقف عيناك عند نشرة الأخبار الاقتصادية، فتفاجأ بسيل من التصريحات لعدد من الاقتصاديين الذين يكيلون الاتهامات للناس، كونهم راهنوا على مصائرهم ورموا كل بيضهم في سلة واحدة إلى أن تكسّر فجأة عن آخره. وآخرون يوجهون لومهم للناس، الذين باعوا كل حاجياتهم من أجل المتاجرة بالأسهم، دون أن تكون لديهم دراية أو خبرة بها.
 
وهنا أسأل هؤلاء المتخصصين في شؤون الأسهم والبورصة، أقول لهم أفيدونا أفادكم الله.. ماذا يفعل الشاب الذي ما زال في مقتبل حياته، لكي يستطيع أن يتزوج ويفتح بيتاً بمرتبه الضئيل؟! كيف نبرر للموظف الصغير الذي يسمع عن الارتفاع الجنوني في أسعار البترول، وعن الطفرة الجديدة التي تتمرغ فيها بلاده، وهو يضرب أخماساً في أسداس، وعقله مشتت بين تسديد فاتورة الكهرباء والماء وبنزين سيارته وأقساط أولاده المدرسية!!.
 
لماذا لم يكل هؤلاء الاقتصاديون اللوم على الحيتان الكبيرة، التي التهمت في ليلة كالحة الظلمة الأسماك الصغيرة، وهي لاهية بالتقاط الفتات لكي تبقى على قيد الحياة بعد أن أنهكتها مطالبها الحياتية، وأعيتها الحيل عن وجود مخرج آمن لغدها!! لماذا لا يخبرنا الاقتصاديون الأفاضل عن مصادر دخل أخرى، من الممكن أن يلجأ إليها رب الأسرة لكي يضمن حياة كريمة له ولأسرته، تزيح عن كاهله شيئاً من أعبائه المادية!! لماذا لم يتكرّموا علينا ويمدونا بخطط مستقبلية تؤهل المواطنين البسطاء لتجاوز خط الفقر، الذي باتت تعيش نسبة كبيرة منهم عنده!! مشكلتنا في العالم العربي، أن التقريع لا ينال إلا المخلوق الأضعف، كونه غير قادر على رفع صوته احتجاجاً، أما القوي فإن بإمكانه أن يزأر ويُكشّر عن أنيابه، ساحقاً بقدميه كل من يعترض طريقه دون رحمة أو شفقة، حتّى لو كان هناك شهود إثبات بأنه الجاني الأكبر!!.