الأدب والمنفى

الأدب والمنفى

الأدب والمنفى

الجمعة 30/3/2007

 
عُقدت ضمن فعاليات مهرجان الدوحة الثقافي لهذا العام، ندوة مهمة على مدى ثلاثة أيام حول الأدب والمنفى، وقد عرّف الدكتور عبدالله إبراهيم في مقدمته عن الندوة، أن المنفى هو المكان الذي يتعذر فيه الانتماء. لكنني أجد أن الساحة الثقافية إلى اليوم لم تفلح في وضع تعريف واضح لكلمة منفى! فهل المنفى هو تلك البقعة البعيدة التي يتقوقع فيها الإنسان داخل ذاته، عندما يشعر بأنه غريب وسط ضجيج الآخرين، وعاجز عن الالتحام مع أنماط الحياة الفكرية التي يعيش في وسطها؟! كم من الناس يعيشون غربة داخل أوطانهم، نتيجة معتقدات رسموها بدواخلهم تتعارض مع السائد المألوف؟! وهل المنافي ما زالت تحمل نفس الصورة النمطية القديمة، المتمثلة في تطبيق النفي القسري، الذي كانت تُمارسه السلطات في حق معارضيها الذين يرفعون أصواتهم احتجاجاً؟!.
في الشهادة التي قدمها أدونيس عن تجربته في المنفى، يرى أن العرب اليوم لا يتعاطون مع مفهوم المنفى بهذا المعنى القديم، ولم يعودوا يحكمون على معارضيهم بالنفي والطرد، مما يؤكد من وجهة نظره غياب سياسة النفي، وإحلال سياسة القتل مكانها.
قد يكون في كلام أدونيس شيء من الحقيقة، لكنني أرى أن المفكر أو الأديب أو السياسي النزيه لم يعد ينتظر في بيته حتّى تُداهمه مقصلة الموت، بل أصبح يضطر للهرب قسراً تحت جنح الظلام، إلى بلاد غريبة تؤمن بالحرية، وتكون الملاذ الآمن الذي يلجأ إليه.
بعض الشهادات التي قُدمت، استشهدت بآراء المفكر إدوارد سعيد، الفلسطيني الأصل، في تجسيده لمعاناة المنفى، ولكنني لا أحبِّذ ربط كلمة أدب المنفى بالمثقف الفلسطيني، الذي هُجِّر غصباً من وطنه، وشُرِّد على مدار خمسين عاماً. فأدب المنفى من وجهة نظري يحمل في طياته أوجاع خيبة المبدعين في أوطانهم، ناقلين بأقلامهم صوراً حيّة عمّا يجري داخل أوطانهم، يختزلونها من مخزون ذكرياتهم الأولى قبل رحيلهم، وهو يتنافى مع أدب المبدع الفلسطيني الذي أرى أنه أدب مقاومة يتضمن رسالة قهرية لكافة شعوب الأرض، وتجسيداً لنضال شعب ضد محتل قام بسرقة أرضه أمام عينيه بين يوم وليلة، وبمباركة العالم بأسره، قضية لا يُوجد لها مثيل في التاريخ القديم أو الحديث. قضية الأدب الفلسطيني في المنفى هي معزوفة حزينة، في مضامين نصوص أدبائها يربض هاجس البحث عن هوية نُزعت منهم انتزاعاً، لأن الوطن يبقى البصمة الحقيقية في حياة الإنسان، بدونها يسقط في دائرة المجهول، ويعيش بلا ملامح، وهو ما استشهدت به الدكتورة فريال غزّول في بيت شعر لمحمود درويش: لي لغتان نسيتُ بأيهما كنتُ أحلم.
يظل هاجس الحرية يشغل بال كافة المبدعين، ويُورِّق نهارهم وليلهم، وهو ما يدفع بعضهم إلى اختيار المنفى بإرادتهم، لأن الاغتراب يُحرر المبدع من قيوده الاجتماعية بمعناها الشمولي، ويحفّز الأديب على التعاطي مع الواقع المعيش بفلسفة حياتية خارجة عن المألوف، ويجعله قادراً على تصدير أفكاره بصفاء أكبر، وهو ما أكده الأديب إبراهيم الكوني في شهادته حين قال بأن “الأوطان لا يُنقذها أبناؤها الذين يتشبثون بصدرها، ولكن خلاصها يأتي عادة من خارجها على يد أبنائها الذين اغتربوا”.
عشت في بريطانيا سنوات، هذا المنفى اخترته بإرادتي، لم أشعر لحظة بغربة المكان، استفدت من إقامتي في رؤية أشياء عديدة وجميلة من حولي، واخترقتُ مشاهد لم أكن أستطيع معاينتها في سنوات، كانت تجربة المنفى تجربة ثرية، تفاعلتُ مع كل ما تعثرتُ به في طريقي.
توفي أبي وأنا في منفاي الجميل، بكيتُ على الهاتف وأنا أتوسّل لأخي ألا يدفنه قبل أن أعود وأودعه قبل أن يذهب لمثواه الأخير، قال لي إكرام الميت دفنه ولا أملك حيلة في وقف ذلك. تمنيتُ لحظها لو كنتُ أملك بساط ريح لأطير به إلى موطني، لكنني عدتُ لرشدي موقنة بأن بساط الريح لا وجود له إلا في أساطير ألف ليلة وليلة. ذلك الوقت لعنتُ الغربة ونسيتُ عطاءاتها السخية، وتبسطها الحاني معي.
 
أيقنتُ بأن النفي بكل جمالياته وقدرته على إعادة تشكيل الحياة في داخلنا، لا يستطيع إخماد جذوة الحب في أعماقنا لأحبائنا الذين نتركهم خلفنا، وذكرياتنا البعيدة المزروعة في أعماقنا، وتلك البصمة الأبدية المرسومة على إبهامنا، لكن على رغم ذلك يُصبح المنفى جميلاً حين نُفجِّره على الورق. إنه مثل جذوة الإبداع التي تحكها بظفرك، فيخرج لك مارد جبّار من قمقمه ويسألك عمّا تريد.. فتجيبه ببساطة: أريد بقلمي خلق عالم مجنون.